مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

الحب.. كلمة الصرخة

«أحبك، كلمة لا تنتمي إلى اللغة، بل إلى الصرخة»
رولان بارت، شذرات من خطاب في العشق

الحب إشكالاً قديماً
يقول القديس أوغسطين عن الزمن: «ألا ما الزمان إذن؟ إن لم يسألني أحد فقد عرفته، فإذا سُئلت أن أفسّره صرت لا أعرفه».
هكذا هو حالنا إزاء سؤال الحب، يُعَرف ولا يُعرَّف، بل يذهب البعض إلى اعتباره ضرباً من الشعور الذي لا يدرك إلا عن طريق الذوق. ولقد خاضت مدونات فلسفية وفكرية كثيرة في دراسة معنى الحب نظراً وتعريفاً وتحليلاً وتفكيكاً، لكن الفن كان الأكثر تناولاً له والأعمق تعبيراً عنه، الأمر الذي يؤكد صبغة الحب الجمالية التي تفلت من كل تعريف أو مفهمة، إذ هي تجربة ذوقية فريدة لا تخضع لقوانين العقل الصارمة، بل إلى (اللعب الحر) بعبارة كانط، بين الحال والوجدان، يراود العقل على الاستيعاب ولكنه يفلت من كل التحديدات والتصنيفات.
وعلى الرغم من ذلك، ما زالت أقلام الفلاسفة تسعى إلى الإحاطة به بشتى الطرق، فالحب ليس غريباً عن الفلسفة، بل ساكن فيها منذ بدايتها أي منذ أن أعلنت الصوفيا (الحكمة) الفيلين (الحب) مقصدها ومقصودها الأسمى، فـ«من لا يعرف الحب لا يعرف الفلسفة» (أفلاطون).
لا شك في أن شروط إمكان القول في الحب لا تنتمي إلى المجال النظري فقط، بل تستوجب عودة فينومينولوجية، لا تموضع الحب، بل تضطلع به اضطلاع العائد إلى المنسي واللامقول، الذي لئن حاولت الفلسفة القديمة التفكير فيه فإنها اكتفت بتوصيفه والإخبار عنه. على أن فهمه يقتضي استئناف التفكير على جهة العودة إلى الحب مباشرة من أجل استعادة المعنى الذي فقد في زمن (هشاشة الروابط الإنسانية) (زيجمون باومان - الحب السائل)، وسيولة المشاعر التي قلصت الحداثة من مواردها، وبالتالي من موارد المعنى، فيذهب شارلز تايلور في كتابه مصادر الذات، إلى رصد رابطة السببية التي تصل الحداثة بهيمنة المادة وتقليص مساحة السعادة المعنوية.
إن الحب هو قبل كل شيء، قوة كوسمولوجية خلاقة، تدفع إلى التحام بين ضدين، كالتحام الأرض (غايا) بالسماء (أورانوس) في الميثولوجيا الإغريقية القديمة، فهو التحام مشحون بكثافة أنطولوجية أوّلانية، تدفع الكائنات إلى الانبجاس والتدفق.
صار الحب، في الزمن المعاصر، ظاهرة مهددة، اختزلت في مجرد رابطة عاطفية دجنتها آليات الاستهلاك وأدوات التقنية الحديثة داخل دولة الرفاه، وعرضتها علينا عرضاً إعلانياً يحصره في شكل مغامرة تسويقية تبحث عن المتعة وتجعل من النشوة غايتها القصوى. هكذا تغيب كل قيم الثقة والمسؤولية وحتى فكرة الأبدية التي تكشف عنها العبارة المسيحية (تعاهدنا على ألا يفرقنا إلا الموت) (باومان، الحب السائل). إذ تحول الحب اليوم، إلى علاقة عابرة، قابلة للبيع والتسويق (آلان باديو، تقريظ الحب) تعبر الزمن مثلما تعبر السلع الدول، علاقات مؤقتة، تنبئ بالافتراق منذ بدايتها، يخشى فيها المرء من الديمومة وما يحمله الارتباط من مسؤولية.
هكذا يتحول الحب إلى موضوع راهن، واقتضاء مصيري، ننقذ أنفسنا، بالتفكير فيه، من إيقاع اليومي المكرور وسجن الفردانية ومحاصرة التقنية لعواطفنا، فتتخذ العودة إليه مشروعيتها من الحاجة الماسة التي تعترينا ونحن نقدم أعمق ما فينا من معنى قرباناً على مذبح السوق والاستهلاك. ولعلنا هكذا نقتل إنسانيتنا بشكل ما، وننخرط في دوامة الرغبة الآنية المتجددة مقابل التفريط في الأمان الذي صرنا، وبشكل مباغت، نبحث عنه في المسكنات والأدوية، مثلما ذهب إلى ذلك باومان في كتابه المذكور.
فهل لنا من إمكان لاستعادة معنى الحب الضائع في زمن تسود فيه صور نمطية جاهزة تخضع لمعايير التغير المستمر؟ هل بإمكان الحب أن يكون مدخلاً إلى فهم ذواتنا في جميع أطواره، في أوله وآخره حسب عبارة ابن حزم الشهيرة؟ أي في طوره الميتافيزيقي الخلاق وطوره الإيتيقي المقاوم لسيولة العالم الحديث وهيمنة التصور الرأسمالي، وصولاً إلى طوره الفني الذي يعيد للحب منزلته الجمالية في مواجهة الصورة التي تكرسها أدوات الفن المعاصر التسويقية؟
الحب ثانياً: جدل الأنا والآخر
يقتضي القول في الحب، الإفصاح عنه، واستئنافه على نحو يخرجه من الصمت والنسيان إلى الوجود، فكيف يخرج المرء من محنة اللاوجود التي يفرضها الحب إلى تجربة الغيرية المفتوحة؟ أليس الحب هو تجسيد الإتيقا والاختلاف، حيث لا يقع إقصاء الآخر المختلف بل المغامرة في اتجاهه بشكل قبلي لا يقحم الحب في مزالق التدبير الآمن والحلول المأمونة؟
لا شك في أن الحب هو حلنا الوحيد، الذي نناضل به ضد العزلة التي يفرضها عالم التقنية اليوم، حيث يقع استبدال المطلق في الحب، بالالتذاذ المؤقت (آلان باديو، تقريظ الحب)، فأن نحب هو أن نقول لا، لكل أشكال الهيمنة الرأسمالية، التي تفرض علينا أنماطاً جاهزة للعيش، وتقدم لنا الحب بضاعة سهلة المنال، فتخصص تطبيقات للمواعدة، يعرض فيها الإنسان سلعة جاهزة للاستهلاك، بتعلة تجنب ما توقعنا فيه مغامرة الحب من صدف غير متوقعة.
هكذا تم تدجين العلاقات وإفراغ الحب من جوهره المباغت والمخاتل الذي لا يندرج ضمن القانون الجاري للأشياء، بل يسري ضمن عنصر المفاجأة واللامتوقع ومخاطرة الانفتاح على الغيرية المطلقة، حيث يتعدى الشخص حدود ذاته الضيقة ليخاطب ذاتاً أخرى غريبة ومنفصلة، فيغادر أنانيته، تلك التي تكرسها التجربة الجنسية، على حد اعتبار لاكان.
يتصرف الحب كشكل من أشكال المقاومة الإيتيقية ضد كل أنواع الأنانية والعزلة والفردانية التي تكرسها أساليب الرأسمالية ومجتمع الاستهلاك، إذ يقول باديو: «الحب لا يأخذني إلى الأعلى أو الأسفل. إنه مشروع وجودي، بناء العالم من وجهة نظر تبتعد عن مركزية دافعي البسيط للبقاء على قيد الحياة ومصلحتي المباشرة» (تقريظ الحب). إذ نكتشف معه معنى الاختلاف ونتصالح مع فكرة أن نكون اثنين فنكف عن الرغبة في أن نكون واحداً.
ولعل الفن هو أكثر المجالات اضطلاعاً في التعبير عن هذه الشراكة الإيتيقية والجمالية المناضلة، في مواجهة ما يقع تسريبه من صور نمطية تسويقية باسم الفن، وهو براء منه.
الحب أخيراً.. جماليات الحب
يقول ابن حزم الأندلسي في مؤلفه الشهير طوق الحمامة: «الحب، أعزك الله، أوله هزل وآخره جد». وبعيداً عما أراده الكاتب من توصيف للحب بدرجاته المختلفة، فإن المثير في الأدبيات والسينما التي حاولت تصوير الحب، أنها نجحت بدرجات متفاوتة في الجمع بين متناقضات الحب، بهزله وألمه وجده وما يكرسه من أفق يجمع بين الكثرة في مشهد واحد. فالمسرح، في نظر باديو، يمثل المجال الفني الأقدر على محو الأنانية والهوية الطبقية في مشهد يجمع بين طبائع مختلفة. إن الفن احتفاء تراجيدي بالحب، يتداخل فيه الشغف والشوق والمغامرة والوفاء والمعارك الوجودية التي تجعل من كل تجربة حب حدثاً فريداً، مختلفاً عن غيره، تطوقه معايير اجتماعية وإلزامات سياسية، وهو ما تجسده رواية آنا كارينينا لتولستوي أو الحب في زمن الكوليرا لغارسيا ماركيز. إنها محاولات لا تضع الحب في خانات جاهزة ولا تروج لأنماط علاقات سريعة، تقوم على اللذة والمتع الآنية التي تعمل على نشرها بعض الممارسات التي تنتسب إلى الفن عنوة، في حين هي تخدم في الأصل متطلبات المجتمع الاستهلاكي العدمي.
هكذا ينتشل الفن الحب من اللامعنى والعبث الذي أسقطته فيه مجتمعاتنا الحديثة، المتمركزة على المصلحة والنجاعة، فصار العمل الإبداعي ضرباً من النضال ضد كل أشكال تشويه علاقتنا بالعالم، علنا بالحب نعيد للعالم ولأنفسنا معنى.
خاتمة: الحب أملاً
هل ما زال الحب أفقاً للحياة؟ هل قدرنا اليوم أن نعيش على ذكريات الحب لا أن نعيش تجاربه وحيواته المتجددة؟ من الواضح أن الحب ليس دواء سحرياً نداوي به أزمات حياتنا الحديثة والجديدة. بل لعل الحب هو الرفيق إلى الحياة. وهذا يعني أنه لا يمكن أن يكون بدونها ولا مجرداً عنها. فمتى صلحت الحياة بات الحب ممكناً ومتجدداً. لقد كان الحب صانع المعجزات. فهل يمكننا اليوم أن ننتظر منه معجزة أخرى تعيد الناس إلى الأمل والأمل إلى الناس؟

ذو صلة