مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

الحب الفطري وأوهام التكنولوجيا

المحبة من أجمل السمات الإنسانية التي تعمق وتعزز المودة بين الأفراد والمجتمعات، وهي مبدأ من مبادئ الإنسانية وأساس للتعامل السليم الخالي من المصالح المادية والذي ينتج عنه العديد من الفوائد منها: التماسك والسلام والتطور البنّاء، وقد حثت الأديان السماوية على المحبة وتعزيز الأخلاق الحميدة، وجاء في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحض على المحبة بكافة أنواعها سواء بين البشر أو بين الخالق والمخلوق، وفي التعبير عن المحبة النابعة من الألفة قال تعالى:
(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). سورة الأنفال، آية: 62-63.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على المحبة والابتعاد عن الأنانية: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
مراحل نمو المحبة في قلب الإنسان:
- المحبة فطرة إنسانية وإحساس داخلي يترجم إلى أفعال، تبدأ مع الإنسان وهو جنين في أحشاء والدته بنبض قلبه مع قلبها ويشعر بكل ما تشعر به، وعند خروجه إلى الحياة يزداد تعلقه بها ولا يهدأ عندما تبتعد عنه حتى تعود وتضمه، فهو يعرف والدته من رائحتها التي تشعره بالاطمئنان، وشيئاً فشيئاً يبدأ تعلقه بوالده وتنمو محبته له عبر الألفة والاهتمام والمشاعر الأبوية التي تنتقل إلى الطفل.
- بعد ذلك تبدأ علاقات الطفل بمحيطه تنمو وتتسع لتشمل دوائر أكبر يتعلم من خلالها معاني جديدة للحب من العائلة إلى المدرسة والأصدقاء، وكلما كان للإنسان اتزان عاطفي ونفسي شعر بالمحبة تجاه الآخرين، فتتوالد مع المواقف والتجارب والتعاون.
وبينما نجد هناك طفلاً ودوداً هادئاً محباً، نجد على النقيض طفلاً آخر يميل إلى الشراسة والفوضى والتعدي على الآخرين، ويرجع ذلك إلى أسباب بيولوجية جينية تُخلق مع الطفل بالإضافة إلى الجو العائلي ومعاملة الأهل، فهي التي تزرع الثقة في عقل وقلب طفلها أو تنزعها منه.
- كذلك تلعب التجارب دوراً مهماً في تشكيل عواطف ومشاعر الإنسان تجاه نفسه وعائلته ومحيطه، فسوء تقدير الذات عند الإنسان ينشأ عندما لا يجد التعزيز لصفاته الحميدة ومواجهته بالصفات السلبية دوماً، لذلك ينشأ على سوء تقدير ذاته مما يولد مشاعر الحزن والغضب داخله، ويبدأ رحلة البحث عن الحب خارج محيطه، وعندما يجد من يأخذ بيده ويسمع منه كلمات الإطراء يبدأ بتشكيل معنى جديد للحب لكن خارج إطار العلاقات التي من المفترض أن تحتويه، كأن يجد الحب عند الأجداد أو الجيران أو الأصدقاء أو حتى في المدرسة لتعويض نقص المحبة داخل المنزل. وعلى العكس تماماً فمن الممكن أن يحظى الطفل بالمحبة من داخل العائلة ولا يجدها خارجها لأسباب مختلفة، فالإفراط في المحبة والدلال داخل الأسرة دون توجيه نحو السلوك الجيد تجاه الآخرين يجلب الكراهية والعداوة من المحيط الخارجي الذي لا يرى الطفل كما يراه ذووه.
لذلك فمنظومة المحبة داخل الإنسان تدخل في مجموعة معقدة من الأسباب والعوامل التي تستوجب دراستها والتعمق فيها لتفسير تصرفات الفرد نحو الآخرين.
وللمحبة أشكال متنوعة تبدأ من حب الفرد لذاته وحبه لوالديه وإخوته وأخواته وأجداده وأقاربه، حب الفرد لأصدقائه، وهناك الحب الممزوج بالانتماء كحب الفرد لمنزله أو لمدرسته أو عمله، حب الفرد لمجتمعه ووطنه، وهناك محبة خاصة تنشأ بين الإنسان والحيوان، فالكثير من الناس يربون الحيوانات الأليفة في منازلهم وتنشأ بينهم محبة من نوع آخر ناتجة عن الاهتمام الذي يقدمه البشر للحيوانات من المأكل والمأوى والرعاية، وقد تعوض الإنسان عن فراغ عاطفي تركه بعض المقربين لأسباب مختلفة، وقد تجتمع العائلة بأكملها على محبة قط أو طير أو غيره كالخيول مثلاً.
وهناك أسباب عدة تخلق المحبة بين الناس مثل الاهتمام والرعاية، الإنصات الجيد، التشاركية والتعاون، الصدق والتقدير والإيثار، فجميعها مسببات للمحبة والانتماء خصوصاً إذا ما بُنيت العلاقة على مبدأ الأخذ والعطاء والتسامح والتغاضي.
وإذا ما بُني المجتمع على أخلاق المحبة والتآخي والتسامح والتعاون والتشاركية وقبول الآخر، تكون نتائجه الشعور بالسلام والاطمئنان مما يعزز من فرص التنمية والتكامل.
لكن في العصر الحالي حيث شاعت مفاهيم مختلفة عن المجتمعات السابقة والتي عززت من الفردانية والوحدة والانعزال منذ اختفاء العيش داخل منزل العائلة الكبير أو الانتقال التدريجي من العائلة الممتدة إلى العائلة الصغيرة، أصبحت طرق الاتصال مختلفة، فحلت محل الاجتماعات العائلية مجموعات الواتس آب والاتصالات المدعومة بالفيديو ترافقها مواضيع استهلاكية يومية بعيداً عن الدعم النفسي المنشود والذي كان موجوداً بشدة على أرض الواقع، حتى أصبحت معظم المشاركات الاجتماعية كتقديم التهنئة بالمناسبات السعيدة أو التعازي تتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وينشأ الطفل بعيداً عن حضن العائلة والأقرباء حتى إنه بالكاد يعرف أقارب والده أو والدته، ويمضي وقته بين مجموعات الرفاق على وسائل التواصل الاجتماعي بعيداً عن حميمية الأسرة ورقابتها التي باتت شبه مستحيلة مع تعدد وسائط الاتصالات. لذلك فكلما تقدم العمر بالإنسان زادت عزلته نظراً لانشغال من هم أصغر منه سناً بتطبيقات التكنولوجيا التي تبقيهم بمعزل عن واقعهم المعيشي.
هذا المجتمع التكنولوجي يستنزف الوقت دون إشباع للفطرة السليمة في الحصول على الحب، ومما يزيد الأمر تعقيداً هو البحث عن الحب الإلكتروني الذي تطور حتى بدأ الناس يشكون همومهم للروبوتات عبر التطبيقات المختلفة التي من الممكن إيقاعهم من خلالها في شباك الابتزاز الإلكتروني والذي قد يودي بحياتهم في بعض الأحيان.
وهنا لا بد من تضافر الجهود لمحاولة إعادة الناس إلى مجتمعاتهم الحقيقية عبر توفير المحبة والاهتمام والرعاية المتبادلة عبر وسائل الإعلام الرسمية المختلفة، وعمل حملات للعودة إلى العمل المنتج الذي يشغل أوقات الناس ويملأ فراغهم الزمني والعاطفي.
وهناك العديد من التجارب التي يقودها مجموعة من الأفراد المستنيرين لممارسة أنشطة مفيدة وممتعة مثل الزراعة والاهتمام بالنباتات، وهناك من ينظمون حملات تطوعية لإعادة التواصل مع الفئات المهمشة اجتماعياً كدور العجزة وبيوت الأيتام ومرضى السرطان، ومتلازمات مرضية كالداون والتوحد وغيرها، وهناك من كرس نفسه للعناية بالحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب.
وخلاصة القول: إن الوعي بالطرق السليمة لاستخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي يعزز من العلاقات السوية داخل المجتمع ويحقق أقصى استفادة منها كأداة مساعدة وليس مسيطرة على العقول والقلوب.

ذو صلة