هل الحُبُّ صار سُؤالاً قديماً، يُستَدْعى من الماضي أو التراث المهدُور في زمنٍ تتسارعُ فيه الآلاتُ، وتغيَّرَ فيه الإنسانُ سلوكيّاً وأخلاقيّاً وضميريّاً.
هل المُحبُّ صار إنساناً مُنقرضاً أو نادراً يُنظرُ إليهِ بوصفهِ ساذجاً وعاطفيّاً، وفيَّاضاً في زمنٍ صار التقتيرُ عُنوانهُ الأكبر، هل صار كُلُّ شيءٍ بمقدارٍ في (عملية الحب)، وهل ما زال الحُبُّ يُنظَرُ إليه بوصفه (مشكلة )، (ظاهرة) أو تجربة إنسانية فريدة وخاصَّة كما رآه زكريا إبراهيم (24 من يوليو 1924 - 27 من أبريل 1976) في كتابه الأساسي (مُشكلة الحب) الذي صدرت طبعتُه الأولى سنة 1964ميلادية.حيثُ رأى أنَّ الحُبَّ ليس مُجرَّد علاقةٍ عاطفيةٍ بين شخصين، بل مشكلة وجُودية أعمق تتناولُ معنى الحُب وتأثيره على الوجُود الإنساني. وأنَّ الحُبَّ قوةٌ دافعةٌ للحياة، وهو ما يمنحُ الوجُود البشري اتجاهاً وقيمةً ومعنًى.
وأن الحُبَّ ليس مُجرَّدَ شُعورٍ عاطفيٍّ عابرٍ، بل قوة وجُودية أساسيَّة تُؤثِّرُ في طبيعةِ الإنسان وتُوجِّه حياته، وأنَّ الحُبَّ هو ما يجعلُ الإنسان يشعرُ بالانتماء والارتباط بالآخرين وبالعالم من حوله. إذْ يمثلُ الحُبُّ هدفاً يسعى إليه الإنسانُ، وهو ما يدفعه إلى التطور والارتقاء بنفسه.
وإذا كان زكريا إبراهيم قد رأى في كتابهِ هذا أنَّ الحُبَّ يُمثِّلُ مشكلةً لأن الإنسان قد يواجهُ صعوباتٍ في فهمِه وإدراكِه، وفي تحقيقِه وتجربتِه بشكلٍ كاملٍ، فإنَّ الصعوبات قد تراكمت وتراكبت، ولم يعُد الإنسانُ الحديثُ مُهيَّئاً لفهم الحُب بشكلٍ عميقٍ والوقُوف في حضرتِه بتبتُّلٍ وعبادةٍ، ولم يعُد يدركُ أنَّ الحُبَّ يعادلُ الحياةَ أو هو مُرادفٌ لها.
فهل تغيَّر الحُب أم تغيَّر المُحبُّ؟
سيبقى الحُبُّ ما بقيت الدنيا، لأنَّ الحياةَ من دُونه لا تُعاش ولا يحْلُو مرُّها، ولا تُحقِّق الرضا للإنسان الذي يواجهُ آلاف المشكلات ربَّما في اليوم الواحد.
صار الإنسانُ سريعاً أكثر ممَّا تحتملُ رُوحه، وصار عبداً للآلات التي في يديه، أو في غرفتِه، أو في مكتبه وصارت علاقاته تخضعُ لما هُو عابرٌ ولحظيٌّ، ومن ثم صار سؤالُ الحُبِّ عتيقاً وآتياً من أزمنةٍ قديمةٍ.
وأتصوَّرُ أنه لو عاد العُشَّاقُ العربُ القدامى الذين تربَّينا على سِيَرهم ومُنتجهم الشِّعري إلى حياتنا اليوم لفرُّوا إلى قبورهم واكتفوا بمُنجزهم الذي وصل إلينا وتداولنا دراسةً وحفظاً، وقالوا إنَّنا رُحنا إلى أقوامٍ لا تفقهُ الحُبَّ ولا تعرفُ النخْوة و(ليس لها قلب)، فأسماء مثل قيس بن الملوح، وعنترة بن شدَّاد، وكُثير عزَّة، والعبَّاس بن الأحنف، وعمر بن أبي ربيعة، وجميل بن معمر، وقيس بن ذُرَيْح، وعُروة بن حزام، والمرقَّش، وذي الرمَّة، وامرئ القيس، وابن زيدون، وابن حزم الأندلسي وغيرهم، ستعُودُ من حيثُ أتت وهي تردِّدُ: إنَّ الحُبَّ لا يمكنُ له أن يموتَ أو يختفي ما دامت هناك قلوبٌ تنبضُ، سيقُولون إنَّ صورَ الحُب اختلفت أو تغيَّرت، وتبدَّلت ملامحُه، بفعلِ تغيُّرِ البيئةِ التي من المفترض أن تحضِنَهُ وترعاه.
السُّؤال الأهم عندي وعند أسلافي من الشُّعراء والمتصوفة: هل الحُبُّ الذي أعرفُ وأومنُ صار نظاماً قديماً متهالكاً (يحاولُ أن يعملَ على أجهزةٍ فائقة السُّرعةِ والحداثةِ؟)، أنظمة مُعقَّدة تتغيرُ كل عام وربما كل بضعةِ أشهر، في حين أنَّني أعرفُ أنَّ الحُبَّ يحتاجُ إلى دأبٍ وسعي والتزامٍ وصبرٍ، وأدبٍ مع النفس ومع المحبوب وقداسة في العلاقة، وليس تقديساً للاستهلاك والتبدُّل والتعجُّل والاختصار والنتائج السَّريعة، ومن ثم التعدُّد والمُفاخرة به.
من الصَّعب إذن، بل من المُستحيل أن أحمِّلَ الحُبَّ الذي أعرفُ على بيئةٍ (أجهزة) لم تُصمَّم لهُ، فمن المؤكَّد أن الجهاز سينفجرُ وبالطبع سيحترق. إننا نعيشُ ارتباكاً وسُوء فهم من جرَّاء فهمنا الخاطئ للحُب.
فالحُب معرفةُ الجوهر والإيمان به، وإدراك العُمق لا السَّطح ومن ثم لا مكانَ (للحُب الرقمي) في مملكةِ الحُب التي بناها الأسلافُ وحلموا بها وسعُوا إلى امتدادها في الأرض ونظروا لها، ووضعُوا لها كتباً أشبه بالكُتب المقدَّسة حتى صارت أمة العرب مثلاً هي عندي (أمة العشق).
وقد ورد في كتاب (الزُّهرة) -وهو أول كتابٍ في الحُب العربي قبل (طوق الحمامة في الألفة والألَّاف) لابن حزم الأندلسي– للفقيه الظاهري محمد بن داود الأصفهاني (255 - 297 هجرية / 869 - 910 ميلادية) أنَّ الحُبَّ (شيء يختص به قومٌ برقة طباعهم، وتآلف أرواحهم، فمن كان مثلهم فهو يعذرهم، ومن خرج عن حدِّهم هان قوله).
فهل في هذا العالم المادي والتقني قد خشنت الطباعُ، ونشفت جذوعُها، وهل خربت الأرواحُ، ولم يعُد لدى العاشق جهدٌ أو مثابرةٌ أو حتى صبر على التعمُّق، كأنهُ يختارُ مُنتجاً لا شريكَ قلبٍ أو حياةٍ، فغاب النضجُ عن علاقات الحُب، وصار الحُبُّ أفقيّاً لا رأسيّاً، وذلك كله بسبب (ثقافة السُّرعة) التي هي ضدُّ نزعةِ الحُب أو فضيلةِ العِشق، أو سُنَّة الغرامِ التي هي من سُنن النفس البشرية السويَّة، فالحُب العميق ليس لحظيّاً، وهو عندي كاللؤلؤ أو المَرجان يحتاجُ إلى مئات السنين وربما أكثر، كي يتشكَّلَ في هيئته التي نبصرُها، فمثلي لا يؤمنُ بالأشياءِ التي تنبُت بلا جُذُورٍ، لا أبجديةَ لها، ومن ثمَّ لا تثمرُ.
فكما هو معروفٌ يمكنُ أن يستغرقَ تكوين الشِّعاب المرجانية عشرة آلاف سنة، ويمكنُ أن تستغرقَ الجزيرةُ المرجانية ما يصل إلى 30 مليون سنة، لكن الإنسان يجدُ المرجان جاهزاً في الماء، بينما الحُب يحتاجُ من الإنسان نفسه إلى رعايةٍ وعنايةٍ وسقايةٍ وتربيةٍ، ولا يوجدُ حُبٌّ جاهزٌ أو حُبٌّ بالمُصادفة، وإن كانت المُصادفة قد تلعب دوراً مُهمّاً في مقابلة من ستكون (المحبوب).
ما أحلمُ به أن ينجوَ الحُبُّ من (قبضة السُّوق) واشتراطاته، فكأنهُ صار (صناعة) و(استثماراً)، كأنَّ ما هو إنسانيٌّ قد توارى أو غابَ أو صارَ (كلاماً قديماً) لا طائلَ من ورائه.
الحُبُّ شُعورٌ عالميٌّ لا يختلفُ كثيراً من حضارةٍ إلى أخرى، فالشُّعوب يوحِّدُها الحُبُّ منذُ فجر التاريخ، والاختلافات تظهرُ بسبب الثقافةِ والدين واللغةِ والتاريخ ومن ثم العادات والتقاليد، لكن نبضات القلبِ لا تعرفُ الفروقَ، فالحُب ذُو جوهرٍ واحدٍ، وهو عند أسلافي معبودٌ لا يُمسُّ، وأيضاً عنوانٌ على (التمرُّد)، لأنَّه قوةٌ كونيةٌ وطريقٌ نحو التوحُّد مع الخالق.
وقبل أن تفقهَ الحُبَّ، عِشْهُ بكامل رُوحك، ولا تختصره في لغةٍ أو فعلٍ، لأنهُ اللغةُ التي لا تحتاجُ إلى أبجديةٍ بين البشر، وإن تعددتِ اللغاتُ.
واعلم أنَّ الحُب التزامٌ وعملٌ مستمرٌ، وكي تنمُو شجرتُه فلا بد أن يكونَ الماءُ في نهر العاشقِ والمعشُوق جارياً بلا سُدُود أو موانع من أي نوع.
وكنتُ أولَ من دعا إلى تدريس (علم نفس الحب) في المدارس والجامعات مثله مثل العلوم الأخرى، كي يتعلَّمَ الناسُ الحبَّ بشكلٍ صحيحٍ، لأنَّ الحُب علمٌ لهُ قواعد وفنٌّ لهُ أصولٌ، ونفسٌ لها احتياجاتٌ وطرائقُ في التعبير.
لا بد أن يتعلمَ الإنسانُ منذ الصِّغر كيف يحبُّ، وكيف يدير علاقته العاطفيةَ بطريقةٍ سليمةٍ وناضجة. فالغالبية تجهلُ ما الحبُّ.
إنه علمٌ غائبٌ يُعنى بالقلبِ وإشراقاته، لأنَّ من يتعلم الحُبَّ يعيشُ حياةً حقيقيةً تحكمُها القوةُ والحريةُ والرحمةُ والتفاهم.