يعيد الفنان السعودي خالد محمد المطلق تشكيل الحرف العربي ضمن معايير بصرية تلتزم بقيمة صوت الحرف ربما هذا غريب نوعاً ما على المتلقي، إلا أنه ينسج من الحرف امتدادات في فضاءات تجديدية دون كلاسيكية تقليدية، فحروفياته تنمو في تربة لونية واعية تزهر نضجاً بصرياً ومعرفة في قيمة الحرف العربي تحديداً وليونته، لا باعتبار الخط العربي مجرد أداة جمالية، بل بجعله ضمن المشهد البصري الحي والأكثر عمقاً في إبراز المعنى الشرقي. إذ يحمل في طياته موروثاً روحياً وفلسفياً ضارباً في عمق التاريخ. لكن المطلق يجدد دائماً في رؤيته الحروفية تحديداً كي لا يقع في الثبات الفني عند هذا الموروث، بل ينقله إلى مشهد بصري أكثر حرية، حيث لا يكون الحرف مجرد بناء شكلي محكوم بضوابط صارمة، بل كائناً مرناً قادراً على التمدد والتشكّل والتفاعل مع اللون والفراغ والكتلة. فهل يمزج المطلق بين الأصالة والحداثة في هذا الفن؟
الحرف العربي في جوهره قابل للحركة بطبيعته، إذ يمتد، يلتف، ينحني، يتشعب، ويتحول من شكل إلى آخر بحسب موقعه. المطلق يستثمر هذه الطبيعة الحركية، ولكن بتقنية واعية، يمكن مقاربتها بمصطلحات تشبه (الخطوة الحركية) فالبداية من النقطة كل حرف يبدأ من مركز حركي، غالباً ما يكون منحنياً أو مائلاً ومنه يتفرع الحرف باتجاهات متعددة. تتكرر بعض الحركات ضمن الحرف الواحد أو بين الحروف، ما يولد إيقاعاً بصرياً متسلسلاً، إذ يصبح الحرف جملة حركية وليس فقط شكلاً هندسياً، فهل المدى الحر يتشكل من حرية الحرف على القماشة؟
في أعمال خالد المطلق، لا يُحبس الحرف داخل إطار، بل يُمنح مدى حركياً واسعاً، يتنفس فيه ويُمارس حريته التعبيرية على القماشة، كما لو أن الفنان أعطى للحرف جسداً كاملاً لا مجرد أطراف. كما أن التمدد الأفقي والعامودي للحرف لا يخضع لقيود السطر أو المحاذاة، بل يتمدد بحرية تامة فوق سطح القماشة، كأن الحرف يمارس حقه الطبيعي في التوسع الوجودي. فالفراغ لا يُملأ بالحشو، بل يُعامل كمجال مفتوح لحرية الحرف، حيث يكون الصمت البصري جزءاً من الموسيقى التشكيلية. فهل الحرف في أعماله لا يُقيد بإطار مغلق بل يتسرب خارج المركز؟ وهل يخرج عن التماثل أحياناً، ليؤكد على حركته الحرة؟
في لوحاته لا يُقرأ الحرف، بل يُشاهد ويُتذوق. إذ يغيب المعنى اللغوي ليحل محله المعنى البصري، ويتحول النص إلى نسيج بصري يوازي اللوحة التشكيلية من حيث التكوين والوزن والاتساق. فالفنان خالد محمد المطلق يمتلك قدرة على الموازنة بين المرجع التراثي للحرف وبين استحقاقات اللوحة المعاصرة من حيث الجرأة في التكوين والانفتاح على التجريد. فوسيلته للتعبير الروحي أو الفلسفي هو الحرف بمميزاته المختلفة، وكأنه الصوت الذي يتواصل من خلاله مع وحي المعنى الذي يشعر به، فالحروف أحياناً تتراكم وتتداخل بطريقة فنية أقرب للموسيقى البصرية، وتشكّل موجات وانحناءات، تعكس حركة وانفعالاً. وبتكرار منظم جزئياً وفوضوي جزئياً، مما يشبه التكرار الكسري وهو تكرار وحدات صغيرة بشكل معقد داخل الكل، كما في الطبيعة (الأوراق، الأنهار، السحب). فهل الانحناءات والمنحنيات هي حركة الحروف العربية المائلة والمتشابكة لتظهر ما يشبه المنحنيات البارامترية في الرياضيات؟
كل حرف في لوحات المطلق يشبه دالة رياضية تتغير زواياها وانحناءاتها باستمرار، مما يخلق سطحاً ديناميكياً داخل اللوحة. كما أنه لا يوجد تماثل صارم، بل هناك تماثل مكسور (Broken Symmetry) وهو ما يجعل اللوحة حيوية وغير متوقعة، كما في معادلات الحركة المعقدة في فيزياء الكم. لكن الحروف تشبه جزئيات في حالة تدفق أو انزلاق نحو الأعلى أو الجانب، تُحاكي قوانين اللون السائل بين يديه خصوصاً الأحمر والذهبي، وكأن هناك مجالاً مغناطيسياً غير مرئي يجذبها باتجاه معين، أو موجات صوتية تُشكل اهتزاز البصري. كما أن التدرج في كثافة الخطوط يشير إلى توزيع جمالي في وسط متغير، فالألوان الحمراء والذهبية تثير الإحساس بالحرارة والإشعاع، كما في ظاهرة (الجسم الأسود) الذي يشع طيفاً حرارياً، فالتراكب الطبقي للحروف يوحي بمرور الزمن، حيث تتراكم الطبقات الجيولوجية أو آثار الزمن في فوتون ضوئي قديم.
من منظور الحركيات الحروف لا تبدو ثابتة، بل وكأنها في حالة تسارع نحو الأعلى أو في حركة دوامية تعكس اتجاهات متعددة، كما لو كانت الحروف تدور حول مركز خفي. فالحروف في لوحاته لا تمثل مجرد كتابة، بل كوناً صغيراً، حيث تتوزع فيه الكتلة وتنتشر الطاقة، وتتغير الأشكال وفق معادلات لا تُقرأ، بل تُشعر بصرياً، هي أشبه بكلمة في انفجار كوني بطيء، أو نبض يتشكل على سطح الزمن. كما أن ريشته تحاور العين من خلال الحرف وتعيد تعريف الخط المائل في الحرف والخطوط الأخرى وكأنها وسيط بصري حي قادر على التحاور مع الماضي والحاضر والمستقبل دون الانسلاخ عن الجذور العربية أو الأحرى الشرقية والتراثية، ودون أن يركن إلى تقليد مكرر فهو يعيد للحرف نبضه وقوته من خلال اللون والاندماج مع الضوء والتدرجات في الكثافة والتعتيق إن صح القول، ويمنح كل خط كتلة وسرعة واتجاهاً، وكأنه يتحرك في فضاء تشكيلي يخضع لقوانين الفن كما تخضع الجسيمات لقوانين الفيزياء.
كل لوحة من لوحات الفنان المطلق هي معادلة بصرية تحتوي على الكثير من المتغيرات الحسية ما بين الطاقة الكامنة في اللون والجسيم الأول للحرف والفراغ أو الوسط الذي تنشأ فيه الحركة التي تتذبذب بين الاتصال البصري والمجال المغناطيسي الذي يربط العناصر ببعضها البعض، فهو يمهد في لوحاته لمعنى يشبه (حل المعادلة الحروفية) عبر توزيع الكتل اللونية والحروف بطريقة تحقق الاتزان البصري، مثلما يسعى الفيزيائي لتحقيق الاتزان الديناميكي في نظام ما بمعنى آخر من ميكانيكا الحرف إلى ميكانيكا المعنى. الحرف عند المطلق ليس ساكناً، بل يبدو وكأنه يتحرك في بعض لوحاته، يُكثف الحرف الواحد عدة مرات ما يمنحه تسارعاً تشكيلياً تماماً كما تتضاعف سرعة الجسيم كلما تكررت مؤثراته. وهذا التسارع البصري يجعل العين تتحرك ضمن المسارات التي يرسمها المُطلق بدقة، في ما يشبه الجاذبية الفنية التي لا تتيح للمشاهد الخروج من مدار اللوحة بسهولة. فهل بعض لوحاته هي حق فيزيائي حروفي مرتبط بالجزء والكل؟
توحي لوحاته بالحقول البصرية التي تتوزع فيها القوى والضغوط، وتحدث فيها تفاعلات بين الكتلة والفراغ، كما يحدث بين الأجسام في الحقول الكهرومغناطيسية أو التفاعلية، فاللون الداكن يمنح وزناً والحرف الكبير يفرض جاذبية والخطوط المائلة تولد عزماً دورانياً يحول مركز اللوحة من نقطة ثابتة إلى مدار حركي يتغير حسب زاوية الرؤية. فهو لا يتعامل مع الحرف كرمز لغوي فقط، بل كعنصر في نظام بصري دقيق، تلتقي فيه الرياضيات بالجمال، والفيزياء بالإحساس، والهندسة بالروح. وهذا ما يجعل تجربته تتجاوز حدود المدرسة الكلاسيكية أو حتى التشكيلية، نحو مساحة هجينة بين العلم والفن، بين المنهج والحدس. فهل لوحاته ليست فقط ما يُرى؟ أم ما يُحسب ويُقاس ويُفهم بالحس والبصيرة معاً؟ وهل لخالد المطلق هندسة خفية في الفن الحروفي؟
قد يشعر البعض بالمبالغة في مقالي هذا ولكن حقيقة الأمر يُمكن النظر إلى كل حرف في أعمال المطلق كوحدة بنائية، مثل وحدة الطوب في المعمار أو الجزيء في الكيمياء، فالشكل الهندسي المحدد يستند إلى دوائر، أنصاف أقطار، زوايا وأقواس. ونقطة الارتكاز هي مركز توازن بصري يدور الحرف حوله مع إيقاع داخلي يولده تكرار المنحنيات أو توازن الزوايا الحادة مع الانسيابية فهو يعتمد في توزيع الكتل على النسبة الذهبية سواء في توزيع الحروف على سطح اللوحة، أو تحديد نقطة الجذب البصري، فالحروف ليست محصورة في مربعات، بل تتحرك ضمن مستطيلات غير متساوية، تكسر الرتابة وتولد توتراً بصرياً محسوباً. كما يكرر المطلق أشكال الحرف بطريقة تتداخل فيها الأجزاء مع الكل، فيسود نوع من التناظر الديناميكي، لا الساكن. فهل الحرف هو وحدة معمارية يمكن أن تقرأ أيضاً كخرائط معمارية مقلوبة؟
في أعماله كل خط يمثل دعامة، وكل نقطة تمثل قبة، كل فراغ هو فسحة ضوء. إذ يصبح الحرف كأنه وحدة تصميمية قابلة للبناء والتفكيك، أشبه بما فعله المسلمون في الزخرفة الهندسية، ولكن بلغة الحرف بدلاً من الشكل. فالتكوينات المتعددة الأبعاد توحي بعمق بصري، وكأننا أمام تكوين ثلاثي الأبعاد، رغم أنها مرسومة على سطح ثنائي البُعد، وهذا يُظهر قوة المنظور الداخلي، والمفارقات الهندسية البصرية الدقيقة. فهل تتحول الجيومتريا في لوحاته من خلفية صامتة إلى لغة ناطقة، والحرف من رمز لغوي إلى وحدة معمارية فنية، في نظام بصري حيث الجمال يقاس بالزاوية؟