مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

الصناعة السينمائية السعودية

لا تتقدم المجتمعات البشرية ولا تُصقل إلا من خلال الفنون على أنواعها وأجناسها؛ لأن الفن يتميز بالجمع بين أمرين أساسيين: يتمثل الأمر الأول في مراجعة الواقع من خلال خطاب جمالي نوعي يختلف عن الخطاب اليومي ويتقاطع معه في آن واحد، ويتجسد الأمر الثاني في طلب المستقبل الأفضل من الموجود لكن بتصورات إبداعية تنتمي إلى عوالم البساطة والتعقيد والمألوف والفنتازيا. ويؤكد التاريخ البعيد والقريب دور الفن الرئيس في تحقيق ثورات الأفراد والجماعات الفكرية والتنويرية وإسهامه في تقديم أفق جديدة للإنسان.
وهو ما جعل السعودية ترسم إستراتيجية تتلاءم ورؤيتها للمنوال المجتمعي المحلي والعالمي الراهن، بفتح نوافذ على الآخر العربي أو الغربي على حد سواء حتى تنجح عملية التثاقف بين الأنوات والهويات المختلفة من خلال حلقات تكوين أكاديمية وتظاهرات ومهرجانات ثقافية استقطبت المبدعين من كل أصقاع الدنيا ليعرضوا أعمالهم أو أفكارهم أو مشاريعهم في هذا المجال الحاضن للخلق.
مسار بين البساطة والتعثر والتطور
قد اخترنا في هذا المقام أن ننظر في نصيب السينما من هذا البرنامج الذي بدأت ثماره تنضج يوماً بعد يوم. ولم يكن تطور الصناعة السينمائية السعودية من عدم أو فراغ، إنما كان نتاج تراكمات عمل مدروس وخطوات واضحة المعالم جعلت السينما تعرف رحلة نقلت الفن السابع من النسق المتعثر إلى مفهوم الإنتاجية المحكومة بالاستمرارية. إذ المتمعن في حياة السينما في السعودية منذ الخمسينات من القرن الماضي ينتبه ضرورة إلى التفاصيل التالية التي نراها في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى من الخمسينات إلى حدود نهاية السبعينات كان فيها التركيز على النوع الوثائقي أساساً وبعض الأفلام الروائية ووجود ما اشتهر بتسمية (سينما الأحواش والأسطح وسينما الأندية الرياضية)، والمرحلة الثانية هي من الثمانينات إلى نهاية التسعينات حينها تراجع الإنتاج نسبياً بسبب الظروف التي عاشتها المنطقة برمتها دون القطع مع النوع السينمائي التسجيلي بميزانيات غير مكلفة عموماً، والمرحلة الثالثة هي منذ بداية الألفية الجديدة التي نراها الممهدة فعلاً لما نجده اليوم من أعمال كثيرة في تصورات وأنماط ورهانات وتيمات مختلفة، وبدأ السينمائيون السعوديون يضعون الأسس الأولى لرؤية الإنشاء الفني المستجيب للشغف بالكاميرا تقنية والشاشة متعة، فتتالت عناوين الأفلام الروائية القصيرة والطويلة وتشجعت الشركات المنتجة لتدفع عجلة الإنتاج قُدماً، من ذلك نذكر: (أنا والآخر) و(القطعة الأخيرة) و(كيف الحال) و(مجرد يوم) و(طفلة السماء). وتكونت مجموعات سينمائية تطلب تجويد الأفلام وتحسينها كمجموعة (قيثارة) و(تلاشي) في انسجام مع مفهوم الجرأة في مستوى الطرح الموضوعاتي الذي قد يصدم المجتمع ويجعله يُفكر في مراجعة بعض المسائل. ولم تقتصر المغامرة السينمائية على المخرجين الرجال فقط إنما كان للمخرجات السعوديات بصمة خاصة ومساهمة مهمة في مسار السينما، وهو ما نعتبره علامة فارقة في هذه الصناعة التي عرفت المرأة طريقها إليها ولم تبق حكراً على الرجل فقط في مجتمع محافظ بصدد التحديث.
السوق السينمائية السعودية
إن صناعة الفنون لا تتعارض مع فكرة الجمع بين المستوى الجمالي والمستوى الربحي، بل بالعكس هناك كل ملامح الترابط والتكامل بين المستويين، فإن لم يكن الإنتاج مربحاً لن تتواصل التجارب الإبداعية، ربما وإن تواصلت لن تكون متميزة كماً وكيفاً بسبب قلة الموارد المالية التي لضعفها أو قلتها لن تكون ظروف إخراج القصة السينمائية وتسريد الحكاية السينمائية مريحة، ولن يرتقي العمل إلى مستوى المدارس العالمية الكبرى والتقنيات المعاصرة جداً.
لذلك فإن ما نلاحظه في هذا العقد الأخير أن السوق السينمائية السعودية صارت من الأسواق الأكثر ربحاً في جغرافيتها، وهو أمر منطقي جداً قد انجر عن التزام الدولة بدفع هذا المجال نحو الإنتاجات الضخمة، فقد دعمت المؤسسات الرسمية السعودية هذا الميدان وشيدت البنى التحتية وضاعفت أعداد قاعات العرض لتبلغ السبعين قاعة. ولم تتوقف عند هذا المستوى فحسب، فقد أوكلت أيضاً عناية للخدمات المقدمة للصناعة السينمائية والتقليص من كل المشكلات البيروقراطية وتنظيم المهرجانات التي تجمع بين جنسيات وأجيال عديدة تمنح الحوار الثقافي نجاعة ونجاحاً؛ لأن تبادل التجارب والطموح من شأنه أن يلون المشهد السينمائي السعودي بألوان ومشاريع جديدة. وعلى أهمية هذا الإرساء المحلي فإن إشعاع السينما السعودية وقع تصديره نحو العالم، فلقد رشحت السعودية أفلامها للأوسكار (سيدة البحر) لشهد أمين، و(حد الطار) لعبدالعزيز الشلاحي، و(أغنية الغراب) لمحمد السلمان؛ لتدخل معترك المنافسة العالمية التي ستؤجج شعلة الإصرار والرغبة في بلوغ محطات مهمة تعزز من رصيد ما سيُنتج في سنوات قادمة.
التطور بالخبرة والخبر
إن الفنون السمعية البصرية تعدّ من الفنون الحديثة في البلدان العربية لا محالة، لذلك كان من الضرورة التعرف على التيارات والاتجاهات والتقنيات والوسائل لهذه الأنماط الفنية باستيعابها وفهمها والاقتباس منها للمرور إلى توظيفها صناعة فنية تأخذ الطابعين: الكوني والخصوصي. وقد أرست السعودية أكاديميات ودورات وأشرفت على ندوات من شأنها أن تحفز التفاعل بين صناع هذا الفن أو مريديه، وقدمت هيئة الأفلام مبادرات لتتبنى على إثرها مشاريع مبدعين شبان وقع تنفيذها برعاية كل من المؤسسات الربحية وغير الربحية معلنة عن أعمال فنية سينمائية واعدة.
الرهانات المستقبلية
إن أحلام المبدعين لا يمكن أن تعرف حداً أو سقفاً لها، لذلك اجتهد صناع السينما بتوفير كل الإمكانيات اللوجيستية والرقمية لمنح هذه الأحلام مشروعية التحقق، فبعد أن بنت السعودية مجمع إستوديوهات كبير على مساحة 300 ألف متر مربع فيه سبعة إستوديوهات بجــودة عالميــة وقريــــــة إنتـــــــاج فيهــــــا ورش حـدادة وتفصيـــــــل وأزيــــــــاء وأجنحـة لاستقبال النجــوم والزائريــن ومنشــآت أخـرى. رسمت الســـعودية الحـاضنة للصناعــة السينمائيــة أهدافهــا المستقبلية التي تعلن عن جدية تعاملها مع هذه الصناعة لا حسب الذوق إنما حسب منهاج عمل مكتمل البناء في هدف نحو جعل السعودية قطباً للصناعة السينمائية العربية والعالمية بإنتاج 100 فيلم سعودي كل عام، وبأن تصبح قيمة سوق الإنتاجية السينمائية بحجم المليار دولار، وتبلغ عدد قاعات العرض 350 قاعة مع موفي 2030.
وهذه الرهانات تتكاتف من أجل إنجازها عدة جهود سياسية واقتصادية وتقنية وفنية كي تصير السعودية منارة سينمائية تنشر ثقافة الصورة وجماليتها في فلسفات فنية تحاكي الواقع من ناحية وتكون صوت من لا صوت له من ناحية أخرى لتروي حكايات تشبهنا إلى حد ما لكن من زاوية نظر معينة توثق حيناً لأصالة القصة وتهرب منها تجاه حكايات أخرى ممكنة الوجود في عوالم الخيال والفرضية، لأن السينما قد تبوح عن بواطن الإنسان فتكشف أسراره كما قد تستقبل ما يمكن أن يكون شغفاً في رسم كينونات بشرية أكثر توازناً واستقراراً في لحظة الإبداع ولحظة التلقي وما بعدهمــــــا... أليــــس الفن/ السينما إرادة بعث الجمال في كل أنحاء الكون حتى وإن صدر عن الرماد فسيكون ناراً تحرق القديم وتنير الطريق البديل طمعاً في إنسان أفضل أكثر تسامحاً وتصالحاً مع نفسه؟!. وهكذا هي السينما السعودية تحتفل بالإنسان في أصالته وتنادي الإنسان في حريته في مدونة الفن التي لا تعترف بالحدود والعراقيل. وقد صار الإطار السعودي بكل ما فيه من تشجيع للسعودي والأجنبي مستقطباً حقيقياً لصناع هذا الفن من كتاب وممثلين وتقنيين ومكونين من كل الكون.

ذو صلة