مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

السرد القصصي والإعلام.. التأثير الثقافي والاجتماعي في عصر التحولات الرقمية

السرد القصصي، برسوخه في عمق التجربة الإنسانية، يمثل واحدة من أقدم وأقوى وسائل التواصل الثقافي والاجتماعي التي عرفتها البشرية. إذ أدى السرد دوراً جوهرياً في تشكيل الوعي الجمعي ونقل المعرفة والقيم عبر الأجيال، لكنه اليوم يتجاوز ذلك ليصبح أداة إستراتيجية في عالم الإعلام الحديث. وفي عصر يتسم بتدفق هائل للمعلومات وتسارع إيقاع الحياة، يظل السرد القصصي وسيلة فعالة للتأثير وخلق التفاعل، حيث تشير دراسات حديثة مثل تلك الصادرة عن مؤسسة نيلسن عام 2023 إلى أن المحتوى القائم على السرد يحقق معدلات تفاعل أعلى بنسبة 63 % مقارنة بالمحتوى التقليدي. هذا التحول يعكس طبيعة العقل البشري الميالة للتفاعل مع القصص التي تجمع بين الجانب العاطفي والمعرفي.
منذ بداياته، تطور السرد القصصي في الإعلام من الشكل الشفهي البسيط إلى بنية معقدة تتخلل مختلف الوسائط الإعلامية. فإذا عدنا إلى القرن السابع عشر مع بزوغ الصحافة المطبوعة، سنجد أن القصص الإخبارية بدأت كأداة وصفية للأحداث الجارية، ثم أخذت تتطور لتكتسب أبعاداً درامية وإنسانية. وفي أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت الصحافة الصفراء التي استخدمت السرد المكثف والمثير لزيادة التأثير الجماهيري، رغم الانتقادات التي طالتها. ومع دخول القرن العشرين، فتحت الإذاعة والتلفزيون آفاقاً جديدة للسرد، حيث انتقلت القصص من الحبر والورق إلى الأثير والصورة المتحركة، ما أضفى عليها حيوية وتأثيراً أعمق، ومن الأمثلة البارزة على ذلك بث برنامج (حرب العوالم) الإذاعي لأورسون ويلز عام 1938، الذي أقنع نسبة كبيرة من المستمعين بوجود غزو فضائي حقيقي، ما يثبت قدرة السرد المحكم على التأثير العاطفي والسلوكي.
ومع التحول الرقمي، أعادت الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تشكيل السرد الإعلامي جذرياً. فلم يعد السرد حكراً على المؤسسات الإعلامية الكبرى، بل بات أكثر ديمقراطية وتشاركية. إذ يشير تقرير معهد رويترز لعام 2024م إلى أن 72 % من مستهلكي الإعلام يفضلون المحتوى السردي، ما دفع المؤسسات الإعلامية لإعادة النظر في إستراتيجياتها. وقد برزت أشكال جديدة مثل السرد التفاعلي والمتعدد الوسائط، الذي يجمع النصوص والصور والفيديوهات والمؤثرات الصوتية، كما في مشروع (Snow Fall) لصحيفة نيويورك تايمز عام 2012م. كذلك، فرضت منصات التواصل الاجتماعي ظهور السرد المصغر، مثل خاصية (Stories) على إنستغرام، والتي جذبت أكثر من نصف مليار مستخدم يومياً، حسب إحصاءات شركة ميتا لعام 2023م.
ولا يقتصر السرد القصصي على كونه وسيلة ترفيهية أو إعلامية، بل يمتد تأثيره إلى الأبعاد النفسية والثقافية والسياسية. فعلى المستوى النفسي، أظهرت دراسات علم الأعصاب أن القصص تؤثر في مناطق الدماغ المرتبطة بالتعاطف، كما تحفز إفراز هرمون الأوكسيتوسين المسؤول عن بناء الثقة والروابط الاجتماعية.
في المجال الثقافي، يؤدي السرد دوراً في بناء الهوية الوطنية وتعزيز القيم المشتركة، كما يظهر في الأعمال الوثائقية والدرامية التي تستعيد التاريخ الوطني.
أما على الصعيد السياسي، فقد أصبح السرد أداة إستراتيجية تستخدمها الحكومات والقادة للتأثير في الرأي العام، إذ أظهرت تحليلات أن الخطابات السياسية التي تتضمن قصصاً شخصية تحقق تغطية إعلامية أكبر بنسبة 34% مقارنة بالخطابات التقليدية.
وفي العالم العربي، يشهد الإعلام تحولات في تبني السرد القصصي، رغم التحديات الثقافية والبنيوية. بعد عقود من هيمنة الأشكال التقليدية، بدأت المؤسسات الإعلامية تتبنى السرد التفاعلي والجذاب، كما في مشروع (قصص من سوريا) الذي أطلقته الجزيرة، ومشروع (حكايات عربية) من BBC عربي. إلا أن هذا التوجه يواجه صعوبات تتعلق بنقص التدريب والتكاليف العالية للمحتوى متعدد الوسائط، إضافة إلى المنافسة من المحتوى الأجنبي المترجم. وبحسب استطلاع شمل 400 صحفي عربي عام 2023م، يواجه 67 % منهم تحديات في تطبيق تقنيات السرد الحديثة، ما يبرز الحاجة إلى تطوير البنية التحتية الرقمية والتدريب المتخصص.
ولذلك فإن السرد القصصي يقوم بدور محوري في تعزيز الهوية الوطنية العربية، من خلال نقل الروايات الثقافية والتراثية للشعوب العربية والتحديات التي واجهتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تعد تجارب مثل مشروع (حكاية مصرية) في مصر و(قصص الاتحاد) في الإمارات و(أصوات الأطلس) في المغرب نماذج أثبتت قدرة السرد على تعزيز الشعور بالانتماء والفخر الوطني، حيث أظهرت الإحصاءات أن هذه المشاريع ساهمت في زيادة الوعي التاريخي والارتباط بالهوية الثقافية. وقد أسهم السرد في أن يكون وسيلة لتجاوز الانقسامات الداخلية، من خلال تقديم روايات جامعة تحتفي بالتنوع الثقافي والديني، كما شهدناه في مبادرات إعلامية في رواندا لتعزيز المصالحة الوطنية بعد الإبادة الجماعية.
ويعد مشروع (سرد)، في المملكة العربية السعودية الذي أطلقه مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني عام 2018م، كمبادرة طموحة تهدف إلى جمع وتوثيق القصص الشفهية من مناطق المملكة كافة، مع التركيز بشكل خاص على توثيق تاريخ المناطق النائية والقصص غير المروية في السجل التاريخي الرسمي، واستطاع المشروع حتى الآن توثيق أكثر من 3000 قصة وإنتاج ما يزيد عن 120 فيلماً وثائقياً قصيراً، مستخدماً أحدث تقنيات التسجيل الصوتي والمرئي والمقابلات المعمقة، وتنوعت القصص الموثقة لتشمل جوانب الحياة اليومية في الماضي، والتقاليد والعادات المحلية، والأحداث التاريخية المهمة، وسير الشخصيات المؤثرة، وقصص النجاح والتحدي في بناء الوطن، ومن الأمثلة البارزة قصة (الرحلة إلى الربع الخالي) التي توثق مغامرات المستكشفين السعوديين الأوائل، ولم يقتصر المشروع على التوثيق، بل عمل على إشراك الشباب في عملية الجمع والتوثيق من خلال ورش عمل متخصصة، وتحويل القصص إلى محتوى رقمي ومواد تعليمية، مما ساهم، بحسب دراسة لجامعة الملك سعود، في تعزيز التواصل بين مختلف مناطق المملكة بنسبة 43% وتكوين حوار بناء بين الأجيال.
وتشترك هذه المبادرات الناجحة في سمات رئيسة، أهمها: تبني التقنيات الحديثة في جمع السرد وتقديمه، والتركيز على المشاركة المجتمعية كمصدر أساسي للمحتوى، والقدرة على مخاطبة الأجيال الشابة بلغة عصرية تربطهم بهويتهم وتاريخهم، مع الحفاظ على الأصالة والمصداقية، وتؤكد هذه التجارب أن السرد القصصي، حين يوظف بشكل احترافي ومسؤول، يمكن أن يكون أداة فعالة ليس فقط للحفاظ على الذاكرة، بل أيضاً لتعزيز التماسك الاجتماعي ومواجهة التحديات المعاصرة بروح من الوحدة والفخر الوطني.
ومع تسارع الابتكار التكنولوجي، يواجه السرد القصصي الإعلامي تحديات وفرصاً جديدة. إذ توفر تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز إمكانيات غير مسبوقة لتقديم قصص غامرة تعزز التفاعل العاطفي، بينما يتيح الذكاء الاصطناعي إنتاج محتوى مخصص لكل فرد بناءً على تفضيلاته. ومع ذلك، يثير هذا التطور مخاوف أخلاقية تتعلق بالتحيز الخوارزمي واستخدام التقنيات للتلاعب بالمشاعر. كما أن ظهور تقنيات مثل التزييف العميق (Deep Fakes) يهدد مصداقية الإعلام، مما يتطلب استثماراً أكبر في أدوات التحقق وتعزيز الشفافية.
وفي الوقت نفسه، يبرز خطر (فقاعات المعلومات)، حيث يتعرض المستخدمون لمحتوى يعزز آراءهم فقط، مما يعمق الاستقطاب المجتمعي. ويتطلب هذا التحدي تعزيز التربية الإعلامية والرقمية لمساعدة الجمهور على التفاعل النقدي مع المحتوى السردي. رغم ذلك، فإن التحول نحو السرد التفاعلي، كما في مشاريع مثل (وثائق بنما)، أثبت قدرة الإعلام على الجمع بين العمق الصحفي والجاذبية السردية لتقديم قضايا معقدة بشكل أكثر فهماً وشمولاً.
في الختام، يظل السرد القصصي الإعلامي أداة بالغة الأهمية لفهم الذات والمجتمع والعالم. لكنه وفي عصر التحولات الرقمية يواجه مسؤوليات أخلاقية ومهنية تتطلب التوازن بين الإبداع والوعي، وبين التقنية والقيم الإنسانية. ومن الضروري أن تتبنى المؤسسات الإعلامية معايير صارمة تضمن الدقة والموضوعية، مع استثمار التكنولوجيا بشكل مسؤول. وفي المقابل، يجب أن يتحلى الجمهور بالوعي النقدي ليصبح مستهلكاً ومشاركاً مسؤولاً في إنتاج السرد. بهذا التوازن، يمكن للسرد أن يظل جسراً يربط بين القيم الإنسانية والتقنية، مسهماً في بناء مجتمعات أكثر تفهماً وتماسكاً.

ذو صلة