يعد ملصق الفيلم (الأفيش) تجسيداً قوياً لهوية الفيلم، والأفيش بالسينما شأنه شأن أي إعلان تجاري، يعتمد أساساً على (الصورة والكلمة) كل منهما يحاول تفسير الآخر والتدليل عليه، والأفيش يمكنه إضفاء لمسة فنية جمالية على أي مساحة يتم تحديدها، ما يجعله أشبه بالديكور الرائع، ومصدراً للحديث، ولم تقتصر إبداعات الأفيشات الرائعة على إظهار شخصيات سينمائية لامعة فقط، بل ساهمت بنفس الوقت في تعزيز العمق العاطفي للأفلام، ومن ثم الارتقاء بها إلى مكانة مرموقة في مجال الصناعة الترفيهية.
جاذبية بصرية وفنية
والأفيش هو أول ما يشاهده رواد السينما، حيث يعطيهم انطباعاً أولياً عن الفيلم، باعتباره أداة إعلانية ترويجية وعنصراً بصرياً لا غنى عنه بعالم السينما، ويلزم أن يترك انطباعاً قوياً من النظرة الأولى، ويعود تاريخ أفيشات الأفلام إلى تسعينات القرن التاسع عشر الميلادي، ويعد الفنان الفرنسي جول شيريت (1836 - 1932م) من أوائل رواد استخدام الطباعة الحجرية، إذ قام بإنشاء أفيشات نابضة بالحياة متعددة الألوان.
وكانت هذه الأشكال الأولى من أفيشات الأفلام وظيفية إلى حد بعيد، كما كانت تهدف إلى الإعلان عن وقت عرض الفيلم ومكانه فقط، لكن ظهور الأفيشات على وضعها الحالي وتطوره يعود إلى عام 1902م، عندما استخدمتها شركة (سوستيه باثي الفرير) الفرنسية للترويج لأفلامها السينمائية، وتميزت تلك الأفيشات بحجمها الكبير ورسوماتها التوضيحية، وظهر من خلالها نفر من الفنانين ومصممي الأفيشات، تميزت أعمالهم بالروعة.
وبعد وقت قصير اكتشف صناع الأفلام، الدور القوي الذي يمكن أن تؤديه الأفيشات في جذب الجماهير، عندها قاموا بإعطاء الأولوية القصوى للتصاميم الأكثر جاذبية من النواحي البصرية والفنية، معلنين بذلك عن بداية فن أفيشات الأفلام كما نعرفه اليوم، كما كانت هناك ورش تدار من قبل شركات الإنتاج العالمية لتصميم الأفيشات، وبتلك المدة لم يكن يذكر اسم مصمم الأفيش، لأن التشابه في شكل الأفيشات كان واضحاً داخل الشركة الواحدة.
وطالما استخدمت الأفيشات العديد من الدلالات البصرية المتعمدة، لتوضيح نوع الفيلم وطابعه للمشاهدين، وهذه الدلالات البصرية تضمن استهداف الجمهور المناسب للفيلم، وعلى سبيل المثال إذا استمتع المشاهد بمشاهدة فيلم كوميدي رومانسي، فيحتمل أن يشاهد فيلماً آخر يحمل أفيشاً مشابهاً لنفس أفيش الفيلم الأصلي، وتنقسم هذه التشابهات البصرية إلى أنواع الأفيشات كأفلام الرعب والخيال العلمي والحركة والإثارة، وقد يلهم تنسيق أفيش الفيلم الناجح بشكل خاص مجموعة من الأفيشات المقلدة، التي تستخدم عناصر التصميم، كالخطوط أو الألوان أو أسلوب التخطيط، لمحاولة جلب بعض هذا النجاح للفيلم الذي يعلنون عنه.
ورغم أن ذلك يمكن أن يسمى انتحالاً، لكن هذا النسخ الدائم لعناصر التصميم الفردية، يؤدي إلى مظهر يمكن التعرف عليه لنوع معين من الأفلام، ما يسمح للأستوديوهات باستهداف الجماهير بشكل أكثر فعالية، بينما تتضمن معظم أفيشات الأفلام عناصر تصميمية تميز نوعها، لكن هذا لا يعني أن جميعها مجرد نسخ طبق الأصل من بعضها، بل إن أفضل تصاميم أفيشات الأفلام توازن بين مفهوم فريد ومبتكر، وبعض العناصر الموروثة من التصميم الخاص لكل نوع.
شعارات وألوان وأنماط وشخصيات
شهد العصر الذهبي للسينما من ثلاثينات إلى خمسينات القرن العشرين بروز أفيشات الأفلام، كصور حية وساحرة لأعظم نجوم السينما عالمياً، سواء بالغرب مثل هوليود في الولايات المتحدة، أو بالشرق وبالأخص في السينما المصرية، واستعانت الأستوديوهات بفناني الأفيشات المشهورين بذلك الوقت لإنتاج صور درامية مذهلة، وخلال ستينات القرن الماضي كانت الرسوم التوضيحية المرسومة بصورة يدوية لنجوم السينما، من الأساليب الشائعة في الأفيشات، ومع ازدياد استخدام التصوير الفوتوغرافي بأواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، امتلأت مساحات التصميم المتاحة بالصور.
ودوماً ما كانت تضاف عناوين الأفلام أسفل الأفيشات وكأنها مجرد فكرة ثانوية، وقد أنتجت هذه الحقبة بعضاً من أشهر تصاميم أفيشات الأفلام وأكثرها تكراراً على مر العصور، كتصميم مونتاج المغامرات بفيلمي (ذا غونيز) و(إنديانا جونز)، وبالتسعينات اتجهت أستوديوهات الأفلام نحو حملات تسويقية أكثر شمولاً للأفلام، وطلبت أشكالاً مختلفة من الأفيشات للوحات الإعلانات والمجلات، ودوماً ما كانت تخلق هويات علامات تجارية للأفلام، تتضمن إصدارات متسقة من العناوين تحمل الشعارات وأنظمة الألوان وأنماط صور الشخصيات.
وبات هذا النهج التسويقي للعلامة التجارية، الذي وسع هوية الفيلم ليتجاوز مجرد أفيش سينمائي مستقل إستراتيجية لا تزال بعض أستوديوهات الأفلام تستخدمها إلى اليوم، وبالتسعينات ومع ظهور الأدوات الرقمية وتزايد إمكاناتها، انطلقت أفيشات الأفلام في رحلة تحولية مثيرة، حيث أتاح ظهور برامج مثل (فوتوشوب) للمصممين فرصة ابتكار تصاميم أكثر تعقيداً وواقعية وغنى بالتفاصيل.
وشهد هذا العصر ولادة أفيشات الأفلام العصرية ذات الطابع الجماعي، وتجسدت بسلاسل أفلام مثل: (المنتقمون) و(هاري بوتر)، وشهدت نفس المدة حدوث نهضة إبداعية كبيرة، أضفى خلالها فنانو الأفيشات على تصاميمهم مزيداً من لمسات الإثارة النفسية، ومواضيع تعكس الحركة الفنية الثورية لتلك الحقبة، وعدت أفيشات الأفلام مثل (برتقالة آلية) و(طفل روزماري) من أهم الأمثلة وأبرزها على ذلك التحول بأسلوب الصياغة.
في أفلام الكوميديا والحركة
لأن جمهور الكوميديا يبحث دوماً عن المتعة والضحك والمرح، فيمكن لمصممي الأفيشات تجسيد ذلك بتصميماتهم، عبر استخدام التصوير الفوتوغرافي المعبر ولوحات الألوان المشرقة والمتفائلة، حيث تكون معظم صور الشخصيات، نقطة محورية في أفيشات الكوميديا، حيث إن تعبيرات الوجه الضاحكة أو الواعية، تساعد بإعطاء الجمهور إحساساً بالمزاج الكوميدي للفيلم، كما أن اجتماع الألوان الزاهية والجذابة والرسومات والأزياء بالأفيش، تشعر المشاهد بحالة من التفاؤل تجاه الفيلم، فألوان الباستيل لا تزال سائدة بأفلام الكوميديا الرومانسية، بينما تبدو لوحات الأصفر والبرتقالي المستوحاة من السبعينات، شائعة على نطاق واسع.
وعلى النقيض تماماً من أفلام الكوميديا، فإن أفيشات أفلام الحركة والإثارة تتمحور حول محاكاة شعور تدفق (الأدرينالين) بالدماغ، إذ يمكن خلق شعور بالإلحاح والطاقة عبر التركيز على تأثير الحركة والألوان في تصميم الأفيش، ورغم أن ذلك قد يبدو مبتذلاً لحد ما، لكن اللون (الأحمر) على سبيل المثال يعد عنصراً أساسياً بمعظم أفيشات أفلام الحركة، كونه لون الطاقة والشغف، لذا فإن استخدام الأحمر النابض بالحياة عند القيام بتصميم الأفيش، سواء على الطباعة أو بخلفية صور الشخصيات، من أهم الطرائق الفورية التي يمكنها إضفاء أجواء الحركة.
إضافة إلى ضرورة احتواء الصور على شعور بالحركة والديناميكية، لجعل الأفيش يبدو غامراً، وكأن الشخصيات المرسومة تبدو على وشك القفز من الأفيش، كما أن الخطوط المزخرفة والعشوائية أو أنماط الكتابة ولاسيما المكثفة، تساعد أيضاً على تعزيز شعور الحركة القوية والصارمة، وأوضح مثال على ذلك التحول ما ظهر بأيقونة أفيش الفيلم الشهير (الفك المفترس)، وفيه صورة مرعبة لسمكة قرش وحيدة، وذلك التحول نحو البساطة يعكس حساً جديداً في تصميم الأفيش، وبنفس الوقت أبرز قوة البساطة والأسلوب المتقن لسرد القصة.
وثيقة أمان لإنجاح الفيلم
على مدار تاريخ السينما العربية كان هناك مجموعة سمات عامة، يمكن ملاحظتها بالأفيشات التي امتلأت بها الشوارع بقوة، ولمدة زمنية قاربت الثمانين عاماً، وعلى الرغم من اضمحلال أفيشات الأفلام بالسنوات الأخيرة، لكن الكثير منها لا زال عالقاً بأذهان الملايين من المشاهدين العرب، والملاحظ أن أسماء وصور نجوم الأفلام وبالأخص في أفيشات السينما المصرية، قد مثلت بؤرة تركيز قوية وباتت مدخلاً أو مفتاحاً مهماً للفيلم، وعند متابعة تاريخ الأفلام المصرية، يتضح أن هناك نجوماً كانت صورهم وأسماؤهم المتفردة على الأفيشات، سبباً رئيساً في جذب المشاهدين، أي أنه كان يكفي ظهور ذلك النجم وحده على الأفيش (اسماً وصورة) ليؤدي غرضه، فنرى على سبيل المثال في مجال الغناء محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ، وفي مجال الكوميديا نرى شالوم وإسماعيل ياسين، كما كانت الأفيشات بمكانة (وثيقة أمان) مضمونة لإنجاح الفيلم، وذلك القول يتضح بفيلم يوم سعيد، وشاطئ الحب، وفتى أحلامي، وليالي الحب، وغيرها من الأعمال الأخرى.
كما وجدت أفيشات تجمع شخصين معاً (بطلين) سواء كانا اثنين من النجوم الرجال، أو اثنين من النجوم النساء، لكل منهما أهميته في الفيلم، بأن يتصدر الأفيش في مواجهة زميله، مثل أفيش فيلم (رجل بمعنى الكلمة) وفيه يقف محمود ياسين وعادل أدهم في مواجهة كليهما، وهما مقيدان معاً بقيد حديدي، وأيضاً بأفيش فيلم (المعجزة) الذي ظهر فيه وجها كل من شادية وفاتن حمامة المتواجهان.
بينما الأفلام المعتمدة على البطولات الجماعية، وبأكثر من أربعة أشخاص، ولا يمكن لأي منهم تحمل البطولة وحده، فقد حرص مصممو الأفيش على ضمهم معاً بأشكال متباينة، منها صور مرسومة لكل منهم متجاورين في كادرات منفصلة، ومن بين تلك الأفيشات كان أفيش فيلم (ثرثرة فوق النيل)، وفي بعض الأحيان كانت تتناثر رسومات أولئك الأبطال، مثل أفيش فيلم (من يطفئ النار) وفيلم (النصابين).
تحدت معايير الإعلانات التقليدية
في معظم الأحيان يقوم مصممو أفيشات الأفلام بالتركيز على عنصر محدد من الفيلم، مثل التركيز على لحظة مهمة أو مثيرة للاهتمام في الحبكة وإبرازها، ومن المهم إنشاء صورة لافتة لا تنسى، ولكن لا يمكن فصلها تماماً عن الفيلم الذي تقدمه للمشاهدين، فأفيش الفيلم الجيد يعبر عن طابعه العام وأسلوبه الجمالي، ويتيح للمشاهدين المحتملين لمحة عما قد يتوقعونه من قصة الفيلم، ولتحقيق ذلك الهدف يلزم أن يكون مصممو الأفيش على دراية تامة بسيناريو الفيلم وقصته، ويتعاونون مع صناع الأفلام لتحديد أفضل طريقة لتصويره.
ولم تقتصر الأفيشات على الترويج للأفلام فقط، بل تحدت بنفس الوقت معايير وطرق الإعلانات التقليدية، وألهبت الإبداع، وتمردت على الوضع الراهن والمعايير التقليدية، حيث إنها جسدت جوهر الفيلم بصورة جريئة ومبسطة، وبأشكال تجريدية وألوان زاهية، وتلك الأنواع من الأفيشات وبشكل عام بدلت مشاهد الأفلام، لتثبت ملامستها قلوب ملايين المشاهدين، وباعتبارها أيقونة (المختصر المفيد) تولت الأفيشات نقل الأفكار والمعلومات الأساسية بسرعة وفعالية، وهي بذلك أوضحت أن قليل من الإعلان والترويج، قد يكون أفضل من الكثير، ما يعطي نتائج مهولة، وهو نفس النمط الذي اعتمده مصممو الأفيشات.