مما لا شك فيه فإن العثور على مخطوط للأمير الشاعر والمؤرخ أسامة بن منقذ (أبو المُظَفَّر أسامةُ بن مرشد بن علي بنِ مقلَّد بنِ نصر بنِ مُنقِذ الكِنانيُّ الكلبيُّ الشَّيْزَرِيُّ) أمير وفارس وشاعر بني منقذ، الذي ولِدَ في (شيزر) وسط سوريا سنة 1095م وتوفي في دمشق سنة 1188م ودفن شرقي جبل قاسيون، ومن ثمّ إصداره في كتاب (محقق) أمر في غاية الأهمية الأدبية والتاريخية والتوثيقية، خصوصاً وأن هناك العديد من كتب ومخطوطات (أسامة بن منقذ) ما زالت مفقودة، حيث تم ذلك قبل نحو سنة عندما أعلن (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية) في الرياض عن العثور على مخطوط (أخبار النساء) من خلال قيام أحد الباحثين بالحصول عليه من إيران، حيث كان موجوداً هناك منذ عشرات السنين دون أن ينتبه أحد لأهمية هذا المخطوط.
وقد قام المركز بتحقيق المخطوط ليُصْدِرَه بحلّة قشيبة تليق بأهميته، فهو مخطوط فريد ونادر، ويعد أول كتاب أدبي عربي يتناول أخبار النساء، كما يحقق إضافة قيمة للمكتبة العربية.
ولو استعرضنا آثار وإبداعات (أسامة بن منقذ) فإننا سنكون أمام مؤلفات ثرية جداً منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط أو مفقود كحال مخطوط أخبار النساء حيث بلغت مؤلفاته أكثر من أربعين كتاباً منها: (كتاب الاعتبار وقد طُبِعَ مرتين وتُرْجِمَ إلى أربع لغات وهي: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية ويعد سيرة ذاتية وترجمة لحياته، المنازل والديار، لباب الآداب، العصا، البديع في نقد الشعر) وغيرها وله ديوان شعري قام (الدكتور أحمد أحمد بدوي والدكتور حامد عبدالمجيد) بتحقيقه في القاهرة عام 1952، وقال الدكتور بدوي في مقدمة الديوان: (شعر أسامة من النوع الجزل الفخم فهو في عصره يوضع في مقدمة الشعراء الذين جددوا شباب الشعر، وكسوه حلّة من الفخامة والقوة والجلال).
أما المؤرخ الدكتور فيليب حتّي فقد كتب عن أسامة في مقدمة (الاعتبار): (عاش أسامة شهماً فارساً، وزها مجاهداً مقاتلاً، ولمع أديباً وشاعراً تلهى صياداً، وقضى الكثير من سنيّه جوّاباً).
كما قال عنه الذهبي: (إنه أحد أبطال الإسلام) فيما وصفه ابن الأثير بأنه (كان من الشجاعة في الغاية، التي لا مزيد عليها).
وكان الشاعر والباحث السوري الراحل (عدنان قيطاز) أحد المهتمين والباحثين في أدب وتاريخ (أسامة بن منقذ) وَجَدَ أن هناك كثيراً من أشعاره لم تَرِدْ في ديوانه المطبوع في القاهرة فقام بجمعها وشرحها وترتيبها حسب حروف المعجم في كتاب أسماه (الملتقط من شعر أسامة) ونشره في عام 1995 بمناسبة مرور 900 سنة على ولادته.
زيارة قلعة ابن منقذ ومقر إمارته
تقع (قلعة شيزر)، التي كانت مقر حكم وإقامة بني منقذ والأمير الشاعر والفارس أسامة بن منقذ والبلدة التي تحمل الاسم نفسه، في وسط سوريا على ضفة نهر العاصي الغربية، حيث تبعد غرباً عن مدينة (حماة) نحو 25 كم وعن منطقة (محردة) التابعة لها نحو خمسة كيلومترات. تعد هذه القلعة من أهم القلاع العربية الإسلامية التي ما زالت تنتصب بشموخ وبعمارة شبه مكتملة رغم تعرضها لأحداث كثيرة طبيعية وعسكرية، فشيزر وقلعتها التي ولد فيها أسامة وجعلها مقراً له ومركزاً لإمارة المنقذيين، كانت تتسع لثلاثة آلاف شخص حيث اقترنت القلعة به والتي تعرضت لأحداث كثيرة من حروب وغزوات وغارات من قبل الصليبيين وسواهم ولكن أشد حوادثها هولاً والمأساة الفاجعة التي قضت على (بني منقذ) هو الزلزال المشؤوم الذي حصل سنة 1157م وكان هناك حفل ختان ولد لتاج الدولة في القلعة حيث حصل الزلزال الكبير الذي ضرب حماة وشيزر وحمص ومعرة النعمان فقضى على العائلة المحتفلة، وللصدف كان الأمير الشاعر أسامة وشقيقين له وقت حدوث الزلزال في دمشق فنجا من الزلزال المشؤوم ليعيش بقية عمره متحسراً على أسرته التي قَضَتْ به.
شيزر وتاريخ عريق
ويعود تاريخ بلدة شيزر لعصور موغلة في القدم حيث وحسب المؤرخين ذُكِرَتْ للمرة الأولى من قبل (أمنحوتب الثاني) أحد فراعنة السلالة الثامنة عشرة المصرية وذكرت بالهيروغليفية نحو سنة 1500ق.م ووردت في رقم تل العمارنة المسمارية أيضاً. وسماها اليونانيون الأوائل (سد زارا) في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وأطلق عليها سلوقس الأول اسم (لاريسا) ليعود من جديد اسمها (شيزر) حيث ذكرها الشاعر الشهير (امرؤ القيس) عندما مرّ بها في طريقه إلى (القسطنطينية) في قصيدته قائلاً:
تقطّع أسباب اللبانة والهوى
عشية جاوزنا حماة فشيزرا
وفي عام 638م فتحها العرب المسلمون صلحاً، ولأهمية موقعها الحربي والتجاري مع قلعتها فقد ظلت عرضة لغزوات البيزنطيين الذين تمكنوا من الاستيلاء عليها سنة 998م حتى تمكن (سديد الملك بن مقلد بن نصر بن منقذ) من استخلاصها منهم.
وتضم شيزر حالياً العديد من الأوابد الأثرية والتاريخية ومنها: (الجسر القديم) و(الطاحون) وتتموضع بجانب الجسر التاريخي، و(الحمام) الذي يعود للعصر الأيوبي يحتوي على حجرات وتمديدات للمياه ويدعو سكان البلدة هذا الحمام باسم القهوة، وقد استعمل لفترة طويلة كخان. وهناك (سد الخرطلة) التاريخي ويزيد ارتفاعه على عشرة أذرع، ولقد تهدم هذا السد في عام 1343م واستخدم بقاياه سداً بسيطاً وأقيمت على جانبه الجنوبي ناعورة القلعية، وهناك النواعير وكان عددها خمس، وكانت مشهورة كنواعير حماة، ولقد اندثرت جميعها ولم يبق منها سوى ناعورة (زور النبي أيوب) التي رممت خشبياتها ولكنها تعرضت للأذى في سنوات الحرب الأخيرة.
القلعة (عرف الديك).. نموذجاً للعمارة العربية العسكرية
تنتصب (قلعة شيزر) فوق أكمة صخرية على ضفة نهر العاصي الغربية، ولنتوء الأكمة سماها مؤرخو العرب (عرف الديك)، يلتف من حولها نهر العاصي من جهات ثلاث فهي تكوّن شبه جزيرة بوضعها الجغرافي، وقد أكمل الإنسان عمل الطبيعة بحفر خندقها من الجنوب، مما زاد في منعة الحصن وفي تعذر الوصول إليه. وقلعة شيزر تعد بحق نموذجاً لفن العمارة العسكرية في العهد الأيوبي ومصداقاً جلياً للطراز العربي، وما تزال بعض أسوار القلعة موجودة حتى الآن وكذلك أبراجها التي كان يصل عددها إلى أربعة عشر برجاً، لم يبق منها سوى أربعة. تعرضت القلعة للزلزال المشؤوم سنة (1157م) والذي أودى بحياة كل من كان موجوداً في القلعة من آل منقذ. قام على إثرها نور الدين زنكي بترميمها وإصلاحها. وقد دخلت (شيزر) في سلطة الأيوبيين والمماليك فيما بعد فعملوا على ترميم بعض أقسامها.
نبدأ جولتنا بالقلعة من مدخلها الذي يتقدّمه جسر قائم على طابقين من القناطر، مبنية فوق واد ضيق عميق، يتألف هذا المدخل من ثلاثة طوابق يشكل مجموعها برجاً هائلاً مبنياً بأحجار مدببة كبيرة سطوحها ذات بروز توحي بالقوة والصلابة، وتتعارضها أعمدة الروابط، وحسب المؤرخ كامل شحادة فإنها تزيد من ارتباطها وتماسكها، وتكسبها منعة وقوة، وتتموضع على واجهة البرج فوق المدخل لوحة كتابية بأحرف عربية كبيرة ونافرة استكتبها الملك (قلاوون الصالحي) سنة 689هـ/ 1290م، هذا فضلاً عن كتابات أخرى كمراسيم مملوكية، برزت بواجهة هذا البرج، وتتخلله من الداخل غرف الحراسة وشرفات الدفاع ومرامي السهام ولصب السوائل المحرقة فوق مدخله، ويليه من الداخل باشورة وهي ممر مسقوف يأخذنا إلى الداخل، فيما هناك باشورتان مسقوفتان تصلان القلعة بنهر العاصي من الشرق للارتواء من مائه في حالة الغارات. وثمة طريق ضيق بين خرائب بيوت بلدة شيزر القديمة يمتد من الباشورة إلى البرج الجنوبي من القلعة، وهذا البرج حسب الباحث شحادة يقع في أضعف نقطة من نقاط الدفاع فوق الخندق الصناعي لذلك بُنِيَ بعناية خاصة وبطراز دفاعي حسن، ويعد من أمتن الأبراج الدفاعية وأكمل قواعد الهندسة العربية في المباني العسكرية حيث استعمل في بنائه الحجر المدبب والمترابط بمزيد من الأعمدة البازلتية والكلسية تبرز جميعها معاً برؤوسها وفقاً للأسلوب المعماري العربي المألوف في بناء الحصون والقلاع، وقد أقيم في هذا البرج قصر البردويل (قصر غيبور) على الصخر المقطوع بشكل عمودي، وشكل البرج منشور ذو وجوه مستطيلة، وبواجهة هذا البرج توجد كتابة باسم (الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي) صاحب (حلب) تاريخها سنة 1232م تتألف من ثمانية أسطر، ويتألف هذا البرج من طابقين كبيرين بأفنية كبيرة ترتكز عقودها على عضادات مربعة وجدران على المحيط، تتخلل هذه الجدران شرفات دفاعية وكوى للنور وزغاليل غريبة الشكل. ومن أبرز أقسام القلعة ما يسمى (باب السر) والذي يوصل ساكن القلعة إلى شاطئ نهر العاصي من دون أن يراه أحد. وقد تمت أعمال ترميم واسعة في القلعة قبل عدة سنوات من قبل مديرية الآثار السورية العامة تضمنت مدخلها ومحيطها وسورها الشرقي المطل على نهر العاصي.