في ليالي القراءة العميقة، حين تسدلُ على العالم ستائر العزلة، يلوح لك وجه في أدب الإنسانية لا يشبه سواه، وجه دوستويفسكي.
ليس هو وجه الحكيم المجرد، ولا الفيلسوف العابر، ولا الثائر الوقتي، بل وجه العارف بجرح الإنسان الأزلي.
وحين تسير في دروب رواياته، تشعر كأنك لا تقرأ قصة، بل تستمع إلى مناجاة نفس على حافة الهاوية.
هناك، في ظلال الجريمة، في عتمة الزنازين، في ارتعاشات الضمير، في لحظة الاعتراف، تتجلّى لك الروح القرآنية من حيث لا تحتسب.
ليس لأن دوستويفسكي كان يعرف العربية - لم يكن.
وليس لأنّه تتلمذ على يد شيخ في التصوّف - لم يفعل.
ولكن لأن الينابيع الكبرى التي تنبع منها حكمة القرآن هي الينابيع ذاتها التي نَبَت منها قلقه العظيم.
تقرأ الجريمة والعقاب، فترى النفس اللوّامة وهي تئن بين السطور.
تقرأ الإخوة كارامازوف، فتسمع صوت الرحمة وهو يهمس فوق العدل.
تقرأ الشياطين، فتتلمّس مأساة الحرية المنفلتة حين تُعبَد الأهواء.
تقرأ المفتّش الكبير، فتدرك هشاشة الإنسان حين يُباع الأمن مقابل فقدان الروح.
كل ذلك، كأنك تسمع صداه في كتاب عزيز:
(ولا أقسم بالنفس اللوّامة..)
(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره..)
(وخلق الإنسان ضعيفاً..)
(ولا تقنطوا من رحمة الله..)
إنّ الروح الإسلامية في دوستويفسكي ليست اقتباساً نصياً، بل قرابة في البصيرة، هي ما يُدركه كل قلب مؤمن حين يقرؤه بصدق: أن هناك نوراً في الحكاية يشبه نور السورة.
لهذا نقول:
في أدباء روسيا القدماء، كان دوستويفسكي أنموذجاً فريداً لروح وإن وُلدت في حضن الأرثوذكسية، إلا أنها تنفّست عبق الحكمة الكونية التي هي جوهر القرآن.
في هذا المقال، نمضي معاً إلى تتبّع تلك الروح؛ بين السطور، وراء الحكاية، في أعماق النفس البشرية التي رسمها دوستويفسكي بحبر القلب.
****
في قاعات الأدب الكبرى، حين تُذكر روسيا القيصرية، ينتصب في الذاكرة تمثال عملاق من الكلمات اسمه فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي. الكاتب الذي فتح نوافذ النفس البشرية حتى أعماقها، والذي كلما قرأته أحسست أن وراءه رجل صلاة، لا مجرّد روائي.
وإن العجيب أن من يقرؤه قراءة القلب، سيجد أن روحه الأدبية أقرب إلى روح الإسلام منها إلى روح الفلسفة الأوروبية الباردة، لا من حيث العقيدة بالطبع، ولكن من حيث النظرة إلى الإنسان، إلى الألم، إلى الغفران، إلى الجبر والقدر، إلى الرحمة التي تسبق العدل، وإلى فكرة (النفس اللوّامة).
دوستويفسكي كان أقرب إلى (مُتصوّف) أرثوذكسي، يرى في أعماق الناس ما لا يراه غيره.
ولذلك نجد في كتاباته تقاطعات مذهلة مع الروح القرآنية، من غير أن يقتبس نصوصاً، بل لأن الينابيع الكبرى للروح الإنسانية واحدة.
النفس اللوامة في مرآة القرآن
حين تقرأ في (الجريمة والعقاب) كيف يغرق روديون راسكولنيكوف في بحار تأنيب الضمير بعد جريمته، ثم يتحوّل التأنيب إلى طريق للخلاص، تجد صدى واضحاً لقوله تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة: 2) دوستويفسكي كان مهووساً بهذه النفس. لم يكن يكتب عن مجرمين، بل عن بشر قَتَلوا ثم صاروا يُقاتلون أنفسهم على مسرح النفس. ولذلك تجد في راسكولنيكوف شخصاً يعيش صراعاً قرآنياً بكل معنى الكلمة: النفس الأمارة، ثم اللوامة، حتى يبلغ الرضا.
إن الفصل الذي تزوره فيه سونيا، وتدعوه لأن يُقبل على التوبة علناً، يكاد يُذكّرك بقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ) (الزمر: 53)
سونيا هي رسول الرحمة، وهي التي لا تقنط.
أما راسكولنيكوف فهو الذي أسرَف على نفسه.
الرحمة تسبق العدل
واحدة من أعظم الإشراقات الإسلامية التي تنبض بها روايات دوستويفسكي هي فكرة أن الرحمة تسبق العدل. في (الإخوة كارامازوف)، يقول الشيخ زوسيمه:
(كلّنا مذنبون أمام الجميع، ولأجل الجميع. إنك لا تعرف يا ولدي كم يحتاج العالم إلى المحبة). هذه النظرة - أن الخلاص ليس في العدالة المجردة بل في الرحمة المتبادلة - هي قلب الإسلام نفسه. كيف لا، وكتابنا يبدأ:
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
وقبل كل سورة، تُرفع الراية ذاتها.
في المشهد الذي يقف فيه الأخ إيفان كارامازوف محتجاً على وجود الشر، يقول:
(إنني لا أرفض الله، لكنني أرفض عالَمه، لأنني لا أستطيع أن أفهم عالماً يُعذب فيه الأطفال).
ويأتي صوت الشيخ زوسيمه (وكأنه حكيم من أهل القرآن) ليقول له:
(ليتك تضع في قلبك أن حب الناس هو الطريق الوحيد لفهم حكمة الله).
وما أصدق ذلك. فالإسلام لا يُنكر وجود الألم، لكنه يُعلّمنا أن الرحمة هي الجسر الذي نعبر به فوقه.
الحرية وحدودها.. وتذكّر الإنسان أنه عبد
دوستويفسكي كان مهووساً بالحرية، لكن الحرية التي تنتهي إلى فراغ أخلاقي ليست عنده حرية، بل دمار.
في (الشياطين)، يصوّر لنا أبطالاً حملوا فكرة الحرية إلى نهايتها القصوى، حتى أصبحوا (شياطين).
وهذا يُذكّرنا بقول الله تعالى:
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ) (الجاثية: 23)
دوستويفسكي فهم هذا: أن الحرية المنفصلة عن الألوهية تتحوّل إلى عبادة للهوى. بل إنه في (أسطورة المفتش الكبير) - ذلك الفصل العظيم الذي يكاد يكون صُلب فلسفته - يُظهر أن الإنسان الضعيف يهرب من الحرية إلى العبودية حين يفقد مرجعيته العليا.
وهذا هو جوهر الإسلام:
الحرية الحقة ليست في رفض السجود لله، بل في السجود له وحده، إذ به تنعتق من السجود لكل شيء آخر.
الاعتراف بالخطيئة
دوستويفسكي كان مشغولاً جداً بفكرة الاعتراف بالخطيئة، لا أمام الناس، بل أمام الذات وأمام الله.
في مشهد اعتراف راسكولنيكوف، وفي مشاهد سونيا، نجد صدى لقوله تعالى:
(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) (التوبة: 102)
الاعتراف هنا ليس إذلالاً، بل طريقاً إلى تطهّر النفس.
ولهذا كان كل أبطال دوستويفسكي، في اللحظة الحاسمة، يتوقفون عن الجدل ويتحدثون بلغة القلب.
الإنسان.. كائن مخلوق لا إله صغير
دوستويفسكي قاوم فكرة الإنسان الإله التي راجت في أوروبا بعد نيتشه.
كان يقول في أكثر من موضع:
(إن الإنسان دون الله كائن تعس، يصنع لنفسه أصناماً جديدة كل يوم).
وهذا يتطابق مع ما قاله القرآن مراراً:
(خُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفاً) (النساء: 28)
(وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُوراً) (الإسراء: 100)
(وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولاً) (الإسراء: 11)
دوستويفسكي لم يكن فيلسوف قوة فوقية، بل كان يكتب تسبيحاً للنقص البشري، ليُذكّرنا أن التواضع وحده هو الذي يُبقينا بشراً.
****
لم يكن دوستويفسكي كاتباً إسلامياً، ولم يكن يعرف العربية أو يقرأ القرآن.
ولكنه - بإلهام روحه، وبالتقاء ينابيع الحكمة الكبرى - كتب أدباً أقرب في روحه إلى الإسلام من كثير من الأدب الإسلامي المعاصر.
كان نصير النفس اللوامة، داعية الرحمة فوق العدل، مُبشّراً بالتواضع أمام الله، رافضاً عبادة الحرية المنفلتة، مُشيّعاً الحنين إلى الصفح.
لهذا..
حين يقرؤه المسلم بقلب مفتوح، يجد نفسه يردد بين السطور:
كأن هذه الروح قرأت في ليلها البعيد:
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ). (الزلزلة: 7-8)
لهذا كان دوستويفسكي أنموذجاً للروح الإسلامية العميقة في أدباء روسيا القدماء.. ولو لم يكن مسلماً.
****
ومضة
هكذا، حين نطوي صفحات دوستويفسكي، لا نطوي روايات عادية ولا مصائر أبطال من ورق، بل نغلق مرآة الإنسان المعلّقة في ممرات العدم والأمل.
وإن القارئ المسلم - الذي يفتح قلبه لدوستويفسكي - لن يلبث أن يسمع في أعماق رواياته رجعَ آيات مألوفة، وأصداء تعاليم غائرة في الروح، كأن الرجل كان يسترق السمع إلى تلك المجالس العلوية التي تحدّثت عن النفس، وعن الخطيئة، وعن التوبة، وعن ميزان الرحمة فوق العدل.
لقد كتب الاعتراف كأنه تسبيح، وصوّر الضمير كأنه محراب خفي، وجعل من الصفح بطولة، ومن التواضع انتصاراً.
وحين نقرؤه اليوم، وسط صخب العالم الحديث الذي يُغري الإنسان أن يعبد ذاته، نجد في أدبه ترياقاً روحياً يُعيد التذكير بأن الإنسان - مهما علا - هو في نهاية المطاف كائن فقير إلى الرحمة.
ربّما لهذا ظل دوستويفسكي عظيماً.
لأنّه كتب لنا، بلغة الأدب، حِكمَةً قرآنية غير مقروءة، حكمة تشهد أن النفس التي تلوم ذاتها، وتخشع تحت وطأة خطاياها، هي النفس التي يرضى عنها الرحمن.
وحين نعيد إغلاق الكتاب، نشعر كأننا سمعنا همساً قديماً يقول:
(وفي كل صفحة، آية.. ولو لم تكن مكتوبة).