مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

أثر الوسائط الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي في ممارساتنا الثقافية

في عالم يتجه بوتيرة متسارعة نحو الرقمنة، أصبحت الحدود بين الفضاءات الثقافية التقليدية والمجالات الرقمية الجديدة أكثر ضبابية من أي وقت مضى. لقد أسهم صعود الوسائط الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي في إعادة تشكيل الطريقة التي يتم بها إنتاج الثقافة واستهلاكها ومشاركتها، بل وتطويرها أيضاً. وتُسهم هذه التحولات اليوم في رسم ملامح الإرث الثقافي الذي سترثه الأجيال القادمة بعد مئات السنين.
تهدف هذه المقالة إلى تأمل هذه التجارب وطرح تساؤلات أوسع حول أثر الوسائط الرقمية في الممارسات الثقافية، وكيف تعيد تعريف معنى أن يكون المرء ممارساً ثقافياً في العصر الحالي.
الثقافة في عصر الاتصال
لقد كانت الممارسات الثقافية، فيما مضى، محلية في طبيعتها، وغالباً ما كانت مقيدة بالفضاءات المادية مثل المسارح، قاعات العرض والحفلات الموسيقية. أما اليوم، فهي تتكشف على شاشات الهواتف المحمولة، وأجهزة الحاسوب المحمولة، والمنصات الافتراضية. إذ بات الجمهور يتفاعل مع المحتوى عبر القارات في الوقت الفعلي، الأمر الذي أحدث تحولاً عميقاً في كيفية إنتاج الثقافة ومشاركتها وتلقيها، بل وتطويرها أيضاً.
ونتيجةً لذلك، أصبح مفهوم الثقافة ذاته أكثر سيولةً ومرونة، يتشكل بفعل فوري وتفاعلي، وما يبدو أنه مشاركة ديمقراطية. ولكني أُصر دائماً على أن هذه الدمقرطة ما تزال خاضعة بدرجة كبيرة لما يُعرف بـ(التحكم الخوارزمي)، والذي يحدد إلى حدٍّ بعيد ما نراه وما يظل مخفياً عنا، مما يُعزز أشكالاً جديدة من الريادة والسلطة داخل الفضاءات الرقمية.
فعلى سبيل المثال، من غير المرجّح لشخص يهيمن على سجل بحثه محتوى سائد أو شعبي، أن يتعرض من خلال الخوارزميات لمحتوى لفنان شاب يؤدي كونشيرتو لموزارت.
علاوة على ذلك، فإن نماذج تحقيق الدخل الناشئة في هذا الاقتصاد الافتراضي -من عوائد الإعلانات والاشتراكات، إلى رعايات المؤثرين ونُظم الدفع مقابل المشاهدة- تُعيد تشكيل المشهد المالي للقطاع الثقافي.
والسؤال الجوهري هنا: هل نقوم برصد هذا التحول كما ينبغي، مع أنه يمثل مساهمة كبيرة ومتزايدة في الناتج المحلي الإجمالي؟ أم أنه يُدرَج تحت مظلات أوسع مثل الإعلام أو الترفيه أو التكنولوجيا، مما يُخفي البُعد الثقافي ويُقلل من قيمة الجهد الإبداعي المرتبط به؟
في الواقع، فإن جزءاً كبيراً من الأثر الاقتصادي للإنتاج الثقافي الرقمي -لا سيما من قبل المبدعين المستقلين، والمؤثرين، والمنصات الهجينة- يُدمج غالباً ضمن تصنيفات عامة مثل (الإعلام والترفيه) أو (تكنولوجيا المعلومات والاتصالات)، في الحسابات القومية والتقارير الصناعية العالمية.
ويجعل ذلك من الصعب عزل وتقييم القيمة الاقتصادية الدقيقة للمحتوى الثقافي الرقمي الموجَّه. ونتيجةً لذلك، فإن مساهمات الفنانين والممارسين الثقافيين ضمن الفضاءات الرقمية قد تكون ممثّلة تمثيلاً ناقصاً في حسابات الناتج المحلي والسياسات العامة، على الرغم من دورهم الكبير في تشكيل الخطاب العام، والابتكار، والاقتصادات الإبداعية.
وقد بدأت ترتفع الدعوات، من قبل الباحثين والمؤسسات (مثل اليونسكو، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، وبعض وزارات الثقافة الوطنية)، إلى ضرورة تطوير أدوات قياس وتصنيف أكثر دقة للاقتصاد الإبداعي الرقمي.
ويعود هذا إلى حقيقة أن العديد من الدول -لا سيما تلك التي تتمتع ببنية تحتية رقمية قوية وانتشار واسع للإنترنت- باتت فيها إيرادات المحتوى الرقمي تتجاوز بكثير إيرادات المسارح التقليدية، سواء من حيث النطاق أو النمو. ومصر بالتأكيد من بين هذه الدول.
لكن بالنسبة لكثير من المبدعين، لاسيما أولئك المنتمين إلى مجتمعات أقل تطوراً أو تعاني من قلة الموارد، فإن هذه النماذج المالية بعيدة عن العدالة، فالحصول على دخل يعتمد غالباً على تحقيق عدد هائل من المشاهدات، أو المتابعين، أو مؤشرات التفاعل، وهي عتبات قد يصعب تجاوزها من دون الظهور الخوارزمي أو ميزانيات تسويقية ضخمة.
ونتيجة لذلك، يضطر العديد من الممارسين الثقافيين إلى الانتظار -أحياناً إلى أجل غير معلوم- كي (ينطلق) محتواهم ويحصل على عائد مادي ملموس. وهذه الديناميكيات تطرح تساؤلات حاسمة حول الاستدامة، والحرية الفنية، ولمن تعود الفائدة فعلياً من الإنتاج الثقافي الرقمي في هذا العصر الجديد.
لقد كانت فكرة الاستدامة من الدوافع الأساسية وراء إنشاء بسيطة لايف في عام 2020، في وقت كان فيه وباء كوفيد-19 يشكّل تهديداً وجودياً للقطاع الثقافي. ومن خلال شعار (قطاع ثقافي عالمي واحد)، سعيتُ إلى بناء منصة هجينة تتجاوز الحدود الجغرافية، وتعزز وصولاً شاملاً ومنصفاً إلى المحتوى الثقافي. رغبتُ في أن أُتيح للفنانين والجماهير -لاسيما من المناطق ذات التمثيل المحدود- فرصة التواصل، والتعاون، والظهور، بعيداً عن قيود البنية التحتية المادية أو المحاباة الخوارزمية. والأهم من ذلك، أن المنصة تهدف إلى تمكين الجماهير بغض النظر عن خلفياتهم أو إمكانياتهم من الوصول إلى المحتوى الثقافي والمشاركة فيه، باستخدام باقات بيانات منخفضة التكلفة.
أصبحت منصات مثل إنستجرام، وتيك توك، ويوتيوب ساحات ثقافية مؤثرة، لا تقتصر على الترفيه فحسب، بل تشمل السرد القصصي، والنشاط الاجتماعي، والتعليم، وبناء المجتمعات، وجميعها أدوات للتعبير الذاتي. وقد أدّى الاستخدام اليومي لهذه المنصات إلى ما أُسميه (الفضاءات البديلة)، وهي مساحات يمكن فيها للأصوات المهمشة أن تُسمع، وللهويات أن تُستكشف بعيداً عن السرديات السائدة، وللمجتمعات الضعيفة أن تُشارك، وللمحتوى الثقافي أن يظهر تلقائياً من قلب التجربة الحياتية وليس فقط من خلال التنسيق المؤسسي. إن هذا التكوين يمثل تحولاً جوهرياً في طبيعة التفاعل الثقافي، من مجرد التقدير الثابت إلى المشاركة الديناميكية الحيّة.
من النخبة الثقافية إلى صانعي المحتوى اليومي
إن الصورة التقليدية للمثقف التي ارتبطت طويلاً بالمؤسسات الأكاديمية، والصالونات النخبوية، والمؤسسات الثقافية، باتت اليوم موضع تساؤل وتحدٍّ في ظل صعود جيل جديد من صانعي المحتوى الذين يعملون بالكامل داخل البيئات الرقمية. هؤلاء الأفراد، رغم أنهم ليسوا دوماً من أصحاب التعليم الأكاديمي الرسمي، وفي بعض الأحيان ما ينحدرون من خلفيات أقل تطوراً أو محدودة الموارد، يمتلكون تأثيراً هائلاً ويعيدون تعريف الأصوات الثقافية في عالمنا المعاصر.
هُم من يُنسّقون الهويّات البصرية، ويصوغون تعليقاتهم، ويعزّزون التفاعل ضمن مجتمعات كانت في كثير من الأحيان مهمّشة في الإعلام التقليدي. يمكن أن نذكر العديد من الأمثلة التي برزت على منصة (تيك توك) على سبيل المثال: رواة القصص الذين يستعيدون التقاليد الشفهية في أشكال جديدة، ومربّون يُبسّطون التاريخ أو القضايا الاجتماعية عبر مقاطع فيديو قصيرة، وفنانون يدمجون اللهجات المحليّة والميمات والموسيقى للتعبير عن واقعهم المعاصر. هؤلاء ليسوا مجرّد منتجين لمحتوى جديد، بل هم أيضاً قوّة تتحدى التسلسلات الهرمية القديمة للمعرفة والذوق، ويساهمون في تشكيل ما ستعتبره الأجيال القادمة تراثاً ثقافياً.
وفي سياق بحثي، تناولتُ الكيفية التي يُعيد بها صعود المنصّات الرقمية تشكيل الدور التقليدي للمُثقّف. فلطالما اعتُبر المثقّفون في التاريخ بوّابات للمعرفة، يعتلون منصّات التفوّق الخطابي، ويوجّهون أفكارهم من أعلى إلى أسفل عبر الجامعات، أو المحاضرات، أو المنشورات الأكاديمية. لكن في العصر الرقمي، هذا الدور بات يتغيّر. فالمثقف الجديد -أو ما أُسميه (الميسّر الرقمي)- لم يعد ذلك الخبير المنعزل المتحدّث إلى جماهير صامتة، بل أصبح منغمساً ضمن المجتمعات التي يتفاعل معها. هو يصغي بفاعلية، ويردّ في الوقت الحقيقي، ويستخدم الأدوات الرقمية ليس للهيمنة على الحوار، بل لإثرائه، وأحياناً لتطويره.
دوره اليوم يتمثل في إعادة تركيب السرديات القائمة، وتضخيم الأصوات غير المسموعة، وإعادة توزيع المحتوى الثقافي عبر الشبكات بطرق مُيسّرة وجاذبة. ويذكّرني هذا بما كانت عليه مكتبة الإسكندرية القديمة ومبدأ (الكتابة من أجل كتابة أخرى)، حيث كان الفلاسفة يدوّنون أفكارهم على ورق البردي ويتركونها على الأرفف ليتناولها آخرون بالقراءة، والردّ، والتطوير. لقد كان نظاماً معرفياً حيّاً لا ينتهي، دورة لا متناهية من التأمل والحوار والإبداع، تشبه كثيراً ما نشهده اليوم في الإنتاج التشاركي المستمر للمحتوى الرقمي.
هذا التحوّل يُغيّر فعل نقل المعرفة من عملية رأسية هرمية إلى عملية أفقية تشاركية. وهو يُجسّد توجّهاً ثقافياً أوسع نحو التعاون، والإبداع المشترك، والشمولية. لم تعد السلطة تُحدّد فقط بالشهادات والمؤهلات، بل أيضاً بالصلة، والمرونة، والتفاعل. لكن لهذا التقدّم وجهان: فمن جهة، يفتح المجال أمام تنوّع أكبر في الأصوات ويجعل تأثيره أكثر ديمقراطية، ومن جهة أخرى، يُضبّب الحدود بين المعرفة المتخصّصة والرأي العام، مما يجعل من الصعب التمييز بين المعرفة الموثوقة والمعلومات المُضلّلة أو الشعبوية أو حتى البروباجندا.
وهنا بالضبط أستشعر بروز ما أُطلق عليه (الوسيط الإنساني الجديد): شخص -أو أحياناً مجموعة أو مؤسسة- يستثمر المنصّات الهجينة ليردم الفجوة بين المجتمعات المحلية والهياكل المؤسسية، بين التقليد والابتكار، وبين التجربة الحية والخطاب العام. هؤلاء الوسطاء ضروريون اليوم في النُظم الثقافية الحديثة، بوصفهم أصواتاً موثوقة، وربما أيضاً مساحات رقمية في حد ذاتها.
وسائل الإعلام الرقمية والمسؤولية الثقافية
مع تزايد فرص الوصول الانتشار، تبرز تساؤلات جوهرية حول المسؤولية: من يحق له الحديث؟ من الذي يُرى؟ من يسيطر على السرد؟ ما المحتوى الذي ينتشر بسرعة؟ وما هو الأثر الناتج عن ذلك؟
فرغم أن المنصات الاجتماعية تتيح مجالات للابتكار والتعبير عن الذات، إلا أنها قد تُعيد إنتاج أنماط الظلم البنيوي، وتُفضِّل الاتجاهات السريعة الانتشار على الخطابات النقدية أو المتعمقة، وتُسهم في فائض المعلومات. وقد أبرزت دراسات أكاديمية حديثة هذه الديناميكيات، فعلى سبيل المثال، تبحث تشيزوروم أوكورونكو (2024) في الكيفية التي تُعزّز بها الخوارزميات التحيّز في توزيع المحتوى الإعلامي الظلم الاجتماعي، ويحلل جريجوري جوندوي وآخرون (2025) كيف تؤثر المعلومات المُضللة بشكل غير متناسب على الفئات المهمشة بسبب الفجوات في الثقافة الرقمية، بينما تستكشف جيانا ويليامز (2023) كيف يقاوم صُنّاع المحتوى ذوي البشرة الداكنة على تطبيق تيك توك محاولات الطمس المنهجي من خلال إستراتيجيات إبداعية مضادة. وبالمثل، يُظهر ديفيد شافالارياس وآخرون (2023) كيف يمكن أن تُضخّم أنظمة التوصية المحتوى الاستقطابي أو السام من أجل تعظيم التفاعل، مما يؤدي إلى تعميق الانقسام المجتمعي.
بوصفنا ممارسين ثقافيين، يجب أن نتعامل مع هذه التعقيدات بوعي نقدي، وأن ندرك أثر البنية التحتية الرقمية في تشكيل مرئيات الثقافة ومجالات المشاركة. وهذا يستلزم كذلك التحلي بالحذر في عملية التنظيم الثقافي، من خلال إعلاء الأصوات المتنوعة، وتعزيز الحوار الهادف، ومقاومة الانجراف خلف الانتشار السريع المدفوع بالخوارزميات، لصالح العمق والسياق والشمول.
إعادة التفكير في المشاركة.. من جمهور إلى مشاركين في الإنتاج
من أبرز التحولات التي أتاحتها الوسائط الرقمية إعادة تعريف دور الجمهور. فلم يعُد الناس مجرد متلقّين سلبيين للثقافة، بل أصبحوا صنّاعاً مشاركين، ومؤثرين، ومحرّرين. فتعليقات الجمهور، والدردشات المباشرة، ومقاطع التفاعل، وتغذية الخوارزميات المرتدة، جميعها تسهم في تشكيل المعنى الثقافي اليوم.
وفي كثير من الفعاليات الحية، تتحول الدردشة المباشرة إلى مساحة للتضامن العاطفي وسرد القصص، حيث يشارك المشاهدون ذكرياتهم، ووصفات طعامهم، وأغانيهم من الوطن. ويُضفي هذا التفاعل العفوي طبقات إضافية من المعنى والاتصال الإنساني على التجربة. إنّه تذكير قوي بأن الوسائط الرقمية لا تفصلنا عن الثقافة، بل تُعيد تشكيل علاقتنا بها وببعضنا البعض.
نظرة إلى المستقبل.. نحو واقع ثقافي هجين
يشهد المشهد الثقافي في مصر، وفي المنطقة بأسرها، تحوّلاً جيلياً واضحاً. فالشباب يعثرون على أصواتهم من خلال الميمات، ومدوَّنات الفيديو، ورقصات تيك توك، والبودكاست. وهذا لا يُضعف الثقافة، بل يُثريها ويُنوعها. ومع ذلك، فإن استثمار هذا التحوّل بشكل فعّال يتطلب منا الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، والتدريب، وتطوير ضوابط أخلاقية تحمي حرية التعبير دون المساس بالكرامة. تُعد منصة بسيطة لايف خطوة بسيطة في هذا الاتجاه، إلا أن العمل يجب أن يكون جماعياً. على المؤسسات أن تتطوّر، وعلى الممارسين أن يتعاونوا، وعلى الوسطاء الرقميين أن يُمنحوا القوة بوصفهم مهندسين أساسيين للفضاء الثقافي الجديد.
تأمل أخير
لقد أظهرت لي رحلتي بين الأكاديميا والابتكار الرقمي أن مستقبل الثقافة يكمن في هجينيّتها لا بين العالمين الرقمي والواقعي فقط، بل بين التخصصات، والقطاعات، والأجيال، والجغرافيات، والحدود.
يكمن مستقبل الثقافة في مزج الثنائيات: بين الثقافة العليا والشعبية، وبين المركز والهامش، وبين الخبير والهواة. إن أثر الوسائط الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي على الثقافة ليس تقنياً فقط، بل هو إنسانيّ في جوهره. إنه يتحدانا لإعادة تصور التعبير عن الذات، والحضور، والمشاركة، والغاية.
وفي هذه الرؤية الجديدة، نجد بارقة أمل نحو مستقبل ثقافي أكثر شمولاً وفعاليةً وصدقاً. مستقبل يُمكّن الأجيال من أن تكون أكثر مرونة وصموداً.

ذو صلة