مر المجتمع السعودي بمراحل متغيرة ومتسارعة، واستطاع التكيف مع مختلف الطفرات الاقتصادية والمعرفية التي شكلت بمجملها قصة تحول كبرى ما تزال تُروى حتى اليوم عبر وسائل الاتصال التقليدية والافتراضية. نتج عن هذا التحول في مسيرة الإنسان السعودي انفتاح ثقافي ومعرفي واسع، لا سيما بعد الثورة التكنولوجية التي وسعت من دائرة الانفتاح المحلي والعالمي، وسهلت استخدام المنصات الرقمية، ليشهد المجتمع ظواهر ثقافية جديدة ومؤثرة في سياق تشكيل الهوية والذاكرة المجتمعية، مثل ظاهرة البودكاست والسرد الرقمي بأشكاله المتنوعة التي لا تقتصر على توفير محتوى ترفيهي أو تعلمي فحسب؛ وإنما امتد تأثيرها ليشمل تشكيل هوية المجتمع وإعادة تعريف الذات والتأسيس لهويات واهتمامات مشتركة.
عززت هذه الظاهرة الثقافية المستجدة وغيرها من مشروع الدراسات الثقافية التي برزت بوصفها استجابة مهمة لقراءة وتحليل طبيعة تأثير هذه التحولات على أسلوب حياة الأفراد في المجتمعات، وعلى طبيعة تفكيرهم وإنتاجهم الثقافي، مستندة في ذلك على مناهج علمية وفلسفية ونقدية تتقاطع مع مختلف مجالات المعرفة الأخرى. حيث تبلورت الدراسات الثقافية بوصفها المجال الرحب القادر على إعادة قراءة قصة التحول والتغير في حياة الأفراد، والكشف عن الصوت الجمعي والسلوك المشترك الذي يربط بينهم، والوقوف على حدود المركز والهامش داخل هذه المجتمعات، كما ساهمت في إعلاء صوت المجموعات المهمشة، وتوضيح ما تحتاج إليه من تغيير وتحسين لواقع دورهم في منظومة المجتمع.
ومن منطلق هذا الدور الفاعل للدراسات الثقافية في الكشف عن طبيعة تفاعل الإنسان ثقافياً مع تحولات عصره التقني؛ نجد أن تحليل ظاهرة البودكاست والسرد الرقمي مجال معرفي مهم، يساعد في تفكيك الظاهرة بهدف فهم آلياتها ومضامينها وغاياتها، وذلك من خلال ما تطرحه الدراسات الثقافية من أسئلة حول المعاني التي تُتداول من خلال هذا السرد، ومن يتداولها، ولأي غرض جاء التداول، ولصالح من. وهنا يبرز المنعطف اللغوي والدلالي المهم للدراسات الثقافية التي تتخذ من لغة هذا السرد القصصي ومن آليات إنتاجه مجالاً للدراسة والتحليل. كان السرد القصصي وما يزال هو الأداة الأكثر قوة وتأثيراً في رسم معالم التحول والتأثر والتغيير في المجتمعات، ويجسد هذا السرد مادة غنية للدراسات الثقافية التي تجتهد في فهم انعكاسات التحول على أسلوب الحياة والثقافة لكل مجتمع.
وفي ظل التعريفات الكثيرة والمتشعبة للدراسات الثقافية أتوقف في هذا المقال عند تعريف البروفسور الأمريكي كريس باركر (Chris Barker) الذي عرف الدراسات الثقافية تعريفاً موجزاً ومبسطاً وشاملاً في الوقت نفسه. يقول باركر: «الدراسات الثقافية هي مشروع مثير ومرن يخبرنا بقصص عن عالمنا المتغير على أمل أن نتمكن من تحسينه». هذا التعريف يتقاطع مع السمة البينية للدراسات الثقافية من جانب، ومع السمة السردية للدراسات الثقافية التي تستعين بوجهات نظر مختلفة وبأسلوب انتقائي لفحص العلاقات بين الثقافة وأشكال القوى المهيمنة كالنوع والعرق والطبقة وغيرها.
تسعى الدراسات الثقافية إلى استكشاف الروابط بين قوى فاعلة ومؤثرة داخل المجتمع وتهدف إلى تطوير طرق التفكير في الثقافة، والقوة التي يمكن أن يستخدمها أصحاب المصلحة في سعيهم إلى التحسين والتغيير. ولعل من أهم ما حققته الدراسات الثقافية هو مساهمتها في رؤية الثقافة على أنها أمر جوهري يلخص أسلوب حياة كامل. هذا الفهم أدى إلى انتقال الثقافة من تعريف أدبي واسع النطاق إلى تعريف أنثروبولوجي، وإلى فهم الثقافة بوصفها مجموعة مستقلة من المعاني والممارسات لها منطقها الخاص الذي يواكب تحول الثقافة من هامش العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى جوهرها.
وفي مجتمعنا المعاصر أصبح دور الدراسات الثقافية جوهرياً في ظل الثورة التكنولوجية التي نتج عنها تحول كبير في منظومة المجتمع السعودي الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وهو تحول لم يسبق له مثيل من حيث تناميه وسرعة تأثيره وطبيعة الاستجابة له.
يفاقم هذا التحول من قلق الهوية الثقافية، ويعيد في الوقت نفسه القلق الوجودي لتأثير الإنسان ودوره داخل مجتمعه. حيث أصبح الحضور الطاغي للآخر المختلف وللأفكار والثقافات والتجارب المتنوعة مهيمناً على الفضاء الافتراضي، وأصبح لكل فرد منصته الإعلامية التي يطل من خلالها على العالم ليسرد حكايته دون قيود. زاد هذا الحضور المكثف والمتاح في كل وقت من قلق الفرد ومن شعوره بتشظي الهوية واضمحلال المكانة وأصابته بتخمة المعرفة التي لم يجهد نفسه في الحصول عليها وبثقل التجربة التي لم يخضها بعد.
كما ساهمت الثورة الرقمية في زيادة شهية الإنسان للسرد، وبث الحكايات، فجاء البودكاست والسرد القصصي الرقمي بوصفهما نسقاً سردياً يستثمر الوسائط التفاعلية (الصوت، الصورة، الفيديو، النص التشعبي، إلخ) لإنتاج حكايات متنوعة تصلنا عبر منصات مختلفة. ويأخذ هذا السرد مستوى آخر من الفهم عند دراسته دراسة ثقافية تتجاوز بنا التحول التقني إلى التحول الإدراكي الذي يساعدنا على النظر في طبيعة إعادة تشكُّل العلاقة بين المعنى وبين القوى المهيمنة. وهذا ما يعتقده منظِّري مركز الدراسات الثقافية المعاصرة في جامعة برمنغهام الذين أكدوا منذ البداية على أن الثقافة ميدان صراعٍ على الدلالة، حيث ينظر إلى كل نصٍ سردي -سواء كان نصاً تقليدياً أو سلسلة بودكاست أو فيلماً قصيراً على تيك توك- بوصفه موقعاً تُفاوض فيه الهوية ويُعاد رسم حدود المركز والهامش من خلاله.
ومن خلال هذه الرؤية الإدراكية نجد أن البودكاست والسرد الرقمي لا يُنتجان قصصاً فحسب، بل يُبلور كل منهما أيضاً بنية فكرية جديدة للانتماء والمشاركة، فالتقنيات التفاعلية للبودكاست مثلاً تمكن المستمع من الانتقال من موقع المتلقي السلبي إلى موقع المشارك المنتج للمعنى، فتتداخل تجارب المستمعين اليومية مع السرد القصصي المنشور وتعاد برمجتها داخل الأطر الخوارزمية للمنصات. وهنا يكتسب مفهوم الوسيط الرقمي أهميته، حيث يحدد تصميم التطبيق وخوارزمياته مساحات الظهور والإخفاء، فتبرز لنا أصوات بعينها وتصبح أخرى مهمشة، ليُعاد بذلك إنتاج تباينات الجندر والطبقة والعرق وغيرها على نحو معين.
وفي ظل تنوع وانتشار ظاهرة البودكاست باختلاف توجهاته وتنوع محتواه وتزايد إقبال المستمعين إليه وكثرة تداول مقاطع منه عبر الوسائط الرقمية المختلفة؛ تأتي أهمية تفعيل مجال الدراسات الثقافية في المؤسسات الأكاديمية وغيرها من المراكز البحثية للنظر في كيفية تفاعل الجمهور مع هذا المحتوى، وكيف يفسرونه، وما طبيعة المحتوى الثقافي الذي يوفره البودكاست والسرد الرقمي، وكيف نجح هذا المحتوى في أن يكون المساحة الرحبة للأفراد السعوديين لاستكشاف جوانب مختلفة من هوياتهم؟ وهل هذه المساحة آمنه أم مضلله؟ وذلك لأن المحتوى الرقمي أصبح يركز بشكل كبير على سرد قصص وتجارب للآخرين، مما أتاح للأفراد المشاركة في نقاشات حول قضايا شخصية متعددة مثل الصحة النفسية، والعلاقات، والتطلعات المهنية، والاستثمار، وبناء البراند الشخصي وتشكلات الهوية.. وغير ذلك الكثير مما يمكن للمستمعين من خلاله تأكيد هوياتهم أو إعادة تعريفها. فقد يجد بعض الأفراد في بودكاست معين صوتاً يعبر عن تطلعاتهم وتحدياتهم، مما يعزز شعورهم بالانتماء والفهم. ومن ناحية أخرى نجد أن الاهتمام بالبودكاست قد تجاوز الإطار المحلي وأصبح هناك سرد قصصي سعودي يقدم باللغة الإنجليزية (مثل AlUla FM Podcast)، ويستهدف جمهوراً عالمياً عبر الفضاء الرقمي العام ومن خلال إتاحته على متن طائرة الخطوط السعودية التي تجوب العالم وهي تحمل سرداً قصصياً عن تاريخ هذا البلد الذي يعتز بإرثه وثقافته في كل مكان.
وهكذا نجد أن البودكاست والسرد الرقمي قد استخدم بوصفة وسيلة لتعزيز الهوية الثقافية السعودية من خلال تسليط الضوء على التراث، أو التاريخ، أو القيم الثقافية المشتركة. وهو بذلك يمكن أن يكون وسيلة فاعلة لمناقشة التغيرات الاجتماعية، مما يساهم في تشكيل فهم جماعي للهوية المعاصرة. حيث اكتسب السرد الرقمي ميزة إضافية من الفضاء المفتوح جعلته ممكناً للجميع دون استثناء، فخرجت لنا أصوات لم تكن ممثلة بشكل واضح في الإعلام التقليدي. وهنا أستحضر بودكاست حكايات أفريقية على سبيل المثال وحلقة (قصة الأفارقة في مكة) الذي قدم سرداً قصصياً تاريخياً واجتماعياً وثقافياً لطبيعة اندماج هذه الفئة مع المجتمع السعودي عامة والمكي بشكل خاص.
وعليه يمكن للبودكاست أن يكون منصة للفئات المتخصصة أو للأقليات للتعبير عن هوياتها وتجاربها، مما يساهم في إثراء المشهد الثقافي بأسلوب يتجاوز التصورات النمطية. وينبغي أن يحظى هذا المحتوى السردي المتدفق والمتنوع بمواكبة وحراك ثقافي ونقدي جاد لتحليله وقراءته والوقوف على غاياته وطبيعة تأثيره.
وتعد مقاربة الدراسات الثقافية ضرورية لفهم التعقيدات الكامنة وراء ظاهرة البودكاست والسرد الرقمي، وذلك من خلال تحليل كيفية إنتاج هذا المحتوى، واستهلاكه، وتأثيره على الهويات والمجتمعات، والكشف عن الأبعاد الخفية لهذه الظاهرة الإعلامية. ولا يقتصر الأمر على مجرد تحليل المحتوى، بل يتعداه إلى فهم كيف تصبح هذه المنصات الرقمية جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي للمملكة، وكيف تساهم في رسم ملامح المستقبل الاجتماعي والثقافي.
إن تحليل محتوى البودكاست والسرد الرقمي من منظور الدراسات الثقافية يعني تفكيك طبقات النص (الصوت والصورة والوسيط)، وتتبع كيفية تشكيل المعنى عبر الراوي والجمهور والمنصة، وبمعنى آخر دراسة التفاعلات المتعالقة نصياً ودلالياً وتقنياً، ويشمل ذلك دراسة حملات الهاشتاق وخيارات المونتاج بوصفها خطابات تسهم في تشكيل الواقع الاجتماعي السعودي. حيث يوفر مجال الدراسات الثقافية الأدوات المنهجية التي تساعد على تحليل المحتوى السردي الرقمي بهدف الكشف عن الكيفية التي يعيد بها الأفراد والمجتمعات رسم ذاكرتهم الجمعية لنفهم كيف يخوضون صراعاً على تمثيل ذواتهم في فضاء رقمي عابر للحدود. وبذلك يصبح البودكاست والسرد الرقمي مختبراً لتحليل روايات الهوية والمواطَنة وفهم الذات وتشكيل المجتمع، وليس مجرد حكاية تُروى بصوت واثق أو مقطع عابر على منصة رقمية.