شهد العالم في العقود الأخيرة تحولات جذرية طالت مفهوم الثقافة، ووسائط إنتاجها، وشروط تداولها، خصوصاً في ظل بروز الإعلام الرقمي وتحول الفضاء العام إلى ساحة مفتوحة لإنتاج المعنى وتشكيل الهويات. وقد استدعت هذه التحولات مراجعة الأدوات المعرفية والمناهج النظرية المستخدمة في مقاربة الظواهر الثقافية والاجتماعية.
وقد مثّلت الدراسات الثقافية ضمن هذا الإطار -بوصفها حقلاً نقدياً بينياً عابراً للتخصصات- أحد أبرز الاستجابات لهذه التغيرات، فهي نشأت في بريطانيا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبرزت بوضوح في ستينات القرن العشرين من خلال مركز برمنغهام للدراسات الثقافية المعاصرة الذي أسهم في تأسيسه مفكرون بارزون مثل ريتشارد هوغارت، وستيوارت هول، ورايموند ويليامز، ممن سعوا إلى تحليل كيفية إنتاج الثقافة وإعادة تشكيلها ضمن علاقات الهوية، والتأثير الاجتماعي، والنظام الرمزي.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن مفهوم (الثقافة) نفسه ظل محل جدل وتأويل. فكما يقول رايموند ويليامز: فإنها -أي كلمة الثقافة- واحدة من أعقد كلمتين أو ثلاث في اللغة الإنجليزية، مما يُبرز الطابع الجدلي لهذا المفهوم. فالثقافة ليست كياناً ثابتاً أو موضوعاً جاهزاً للتحليل، بل هي مفهوم متغير تُعاد صياغته وفق الأهداف النظرية المرجوة، ويكتسب معناه من استخدامه وسياقه.
وقد وصف كريس باركر الدراسات الثقافية بأنها ليست شيئاً واحداً، وليست مجالاً محدوداً، بل مجموعة من الاتجاهات والممارسات والمواقف النظرية، في إشارة إلى طبيعتها المركبة والمنفتحة. كما يرى أنها تنشغل أساساً بأسئلة الذات والهوية، وكيف نتحوّل ونتشكّل، ونُحدد موقعنا في هذا العالم، مؤكداً أن هذا الحقل لا ينفصل عن التجربة الإنسانية المعيشة.
وتُعدّ الدراسات الثقافية اليوم حقلاً عالمياً متعدد التخصصات، يستمد أدواته من علم الاجتماع، ودراسات الإعلام، والأدب، والأنثروبولوجيا، لتحليل ظواهر تشمل الثقافة الشعبية، واللغة، والجندر، والتمثيل، والعرق. وهي لا تكتفي بالنظر إلى الثقافة بوصفها تعبيراً جمالياً أو تراثاً رمزياً؛ بل تعدّها ميداناً للصراع الرمزي والاجتماعي، حيث تُنتج المعاني وتُعاد هيكلتها ضمن شبكات الهيمنة والتمثيل.
ورغم انفتاح المشهد الثقافي العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة على هذا الحقل؛ فإن تلقيه ظل محدوداً ومُجزّاً، تحكمه الاجتهادات الفردية وتطغى عليه الترجمة الجزئية. أما في السياق السعودي، فتبدو الحاجة إلى تأصيل الدراسات الثقافية أكثر إلحاحاً، في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية المتسارعة التي تطرح أسئلة جديدة حول مفاهيم الهوية، وتمثيلات النوع، ودور الفاعلين الثقافيين.
تسعى هذه المقالة إلى تقديم ملحوظات أولية حول تشكّل الدراسات الثقافية في السعودية، من خلال تتبع عام لبدايات التلقي، واستعراض أبرز العوائق النظرية والبنيوية، واقتراح أفق لتوطين هذا الحقل بما ينسجم مع التحولات الوطنية الراهنة.
مفارقة الغياب.. لماذا تأخر تشكّل الحقل؟
رغم الانفتاح الثقافي الواسع الذي شهدته المملكة العربية السعودية في العقد الأخير، ورغم تنامي الإنتاج المعرفي والأدبي والفني، ما يزال حقل الدراسات الثقافية غائباً -أو على الأقل، غير مؤسّس- على المستوى الأكاديمي والمنهجي. ويمكن تفسير هذا الغياب بعدة عوامل مترابطة:
أولاً، ظلّ مفهوم الثقافة في السياق المحلي حبيس الرؤية التقليدية التي تربطها بالتراث، أو تقصرها على الإنتاج النخبوي في الأدب والفن، وقد أقصت هذه النظرة الحدّية الثقافة اليومية من مجال التفكير النقدي، وأبقت على الفصل الموروث بين (الثقافي) و(الاجتماعي)، وهو ما يتعارض مع المنطلقات الأساسية للدراسات الثقافية التي ترى الثقافة بوصفها ممارسة مجتمعية، ونظاماً من الرموز والصراعات.
ثانياً، غابت الدراسات الثقافية عن البنية المؤسسية للجامعات السعودية، إذ لم تُنشأ أقسام متخصصة، ولم تُدرج مقررات واضحة ضمن الخطط الدراسية، باستثناء بعض الاجتهادات الفردية التي ظهرت في مقررات النقد الأدبي أو الإعلام أو الدراسات الاجتماعية. وغالباً ما بقي تناول هذه المسائل محكوماً بالإطار الأدبي التقليدي أو النظريات الغربية المجتزأة، دون وعي كافٍ بأصول الحقل وسياقاته.
ثالثاً، واجهت مفاهيم الحقل -مثل (الهيمنة)، (التمثيل)، (الهوية الجندرية)، (الثقافة الشعبية)- مقاومة ضمنية من بعض الأوساط الأكاديمية، إما لاعتبارها دخيلة، أو لتداخلها مع حقول فكرية (إشكالية) كالنسوية، وما بعد الكولونيالية، ودراسات العِرق، أو لافتراض تهديدها للغة والهوية العربية، وهذا التوجس أضعف فرص النقاش المفتوح حول هذه المفاهيم، وحدّ من قدرتها على الترسّخ محلياً.
وعليه، فإن غياب الحقل لا يرتبط بقلة الموضوعات أو الظواهر الثقافية في السعودية، بل على العكس، فإن زخم التحولات التي تشهدها المملكة يجعلها أرضاً خصبة للدراسات الثقافية، وإنما يعود إلى تأخر الوعي بموقع هذا الحقل، وحاجته إلى تأطير معرفي مؤسسي يربطه بالسياق المحلي، ولا يكتفي بنقل تجارب الغير.
تشكّل الدراسات الثقافية في السعودية
رغم غياب التأسيس المؤسسي لحقل الدراسات الثقافية في السعودية لفترة طويلة، فقد ظهرت على مدار العقدين الماضيين اجتهادات فردية وممارسات نقدية يمكن اعتبارها بدايات غير معلنة لتوطين هذا الحقل أو التفاعل مع أسئلته. وقد تمثلت هذه المحاولات في كتابات ومشاريع نقدية ومداخلات ثقافية عكست وعياً متنامياً بضرورة تجاوز الرؤية الجوهرانية للثقافة، والانفتاح على مقاربات تنظر إليها بوصفها ممارسة اجتماعية مشبعة بالدلالات والصراعات.
من أبرز هذه التجارب مشروع (النقد الثقافي) الذي أسّسه عبدالله الغذامي في مطلع الألفية، حين دعا إلى تجاوز النقد الأدبي المعياري والانخراط في تحليل تمثّلات الثقافة في النصوص والخطابات والممارسات اليومية. ورغم الجدل الذي أثاره المشروع، إلا أنه فتح أفقاً جديداً لقراءة النصوص بوصفها أنظمة دلالية مشبعة بالأيديولوجيا. كما أسهم بعض الباحثين في الإعلام، والدراسات الاجتماعية، وتحليل الخطاب، في مناقشة قضايا متنوعة ضمن إطار يقترب من روح الدراسات الثقافية، حتى وإن لم يُسمَّ كذلك. ويمكن هنا الإشارة إلى تلك الأعمال التي تندرج ضمن نقد الهوية الذكورية، والدراسات التي تناولت علاقات الهيمنة وأنماط التأثير والتراتبيات الاجتماعية، والتحليلات الثقافية الحديثة لروايات وأفلام سعودية تكشف عن تقاطعات بين الطبقة، والجندر، والتدين، والفضاء الرمزي.
وقد ظهرت في الحقول الإبداعية -لا سيما الرواية والسينما والفنون البصرية- أعمال تقدّم مداخل تطبيقية لحقل الدراسات الثقافية، حيث تُفكّك هذه الأعمال البنى الاجتماعية، وتكشف العلاقات السلطوية المتجذرة في اللغة والجسد والفضاء، مما يجعلها مادة نقدية خصبة لهذا الحقل، حتى وإن لم تُقرأ بعد ضمن إطاره النظري.
وفي السنوات الأخيرة، بدأ الحقل يتجه تدريجياً نحو التأسيس المؤسسي، مدعوماً بحزمة من البرامج الأكاديمية والمبادرات الحكومية. فقد أطلق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برنامجاً للدراسات الثقافية يُعنى بتحليل السياسات والقضايا الثقافية في ضوء السياقات الاجتماعية، ويرتكز على مفهوم واسع للثقافة يشمل الهوية، والذاكرة، والتنوع، والممارسات والخطابات الثقافية. كما يتناول البرنامج العلاقة بين الثقافة والتنمية، ويهتم بدراسة الفنون والمجتمع، والثقافة والمدينة، بوصفها مداخل لفهم التغيرات الحضَرية والاجتماعية. وفي السياق الجامعي، أنشأت جامعة الأميرة نورة برنامج بكالوريوس الآداب في الأدب الإنجليزي والدراسات الثقافية، كما أطلقت جامعة الملك سعود برنامج ماجستير الآداب في الدراسات الأدبية والثقافية المقارنة، وهي خطوات تعكس تحولاً ملحوظاً في الرؤية الجامعية تجاه هذا الحقل، وإن كانت ما تزال محدودة ومتأخرة.
وعلى مستوى السياسات الثقافية، تندرج كل من إستراتيجية تنمية القدرات الثقافية وبرنامج الابتعاث الثقافي ضمن توجه واضح لتمكين الباحثين والمهتمين بالثقافة من دراسة موضوعاتها بعمق ومن منظور متجدد. وتشمل بعض الموضوعات البحثية التي بدأ الاهتمام بها في السياق السعودي: الهوية، تقاطعات التقليد والحداثة، اللغة والإعلام، تمثيل الجندر، الثقافة الرقمية، وتحولات الذائقة الشعبية.
ومع ذلك، ما تزال هذه الجهود -على أهميتها- موزعة بين مبادرات فردية وبرامج ناشئة، وتفتقر إلى خطاب نظري موحِّد، وإلى تفعيل متكامل داخل الحقل الأكاديمي. وهو ما يفتح السؤال حول الجهة التي يمكن أن تضطلع بمهمة تأصيل الدراسات الثقافية وتطويرها سعودياً: هل هي الجامعات؟ أو المؤسسات الثقافية؟ أو المبادرات البحثية المستقلة؟ أو مزيج متكامل بينها جميعاً؟
عوائق التلقي المنهجي والنظري
لا يكمن التحدي في غياب الدراسات الثقافية بوصفها مجالاً مؤسسياً فحسب، بل يتعداه إلى ما يمكن تسميته بـ(عسر التلقي النظري) لهذا الحقل في السياق السعودي. فحين تصل بعض المفاهيم المرتبطة بالدراسات الثقافية، فإنها غالباً ما تُستقبل بقدر من التوجس، أو تُوظّف بشكل تجزيئي بعيداً عن سياقاتها الفكرية الأصلية. وهذا ما يجعل التلقي العربي عامة، والسعودي خاصة، محفوفاً بصعوبات ذات طبيعة معرفية وأيديولوجية في آن واحد.
أول هذه العوائق يتصل بغياب الترجمة الوافية والمفاهيمية لأعمال المؤسسين والروّاد في هذا الحقل أو ممن أثروا فيه تأثيراً عميقاً، مثل ستيوارت هول، ريتشارد هوغارت، إدوارد سعيد، ميشيل فوكو، هومي بابا، بيل هوكز، بل إن كثيراً من النصوص التأسيسية لم تُترجم بعد إلى العربية، أو تُرجمت بترجمات مشوشة تفقدها دقتها المفهومية، أو تأخذها من سياقاتها، بما يضيع كثيراً من النقاشات الجوهرية التي تشكّلت في ضوئها، كما أن الترجمة وحدها -حتى لو وُجدت- لا تكفي إن لم تُصاحبها قراءة نقدية محلية تُعيد إنتاج المفهوم ضمن سياقنا المحلي.
ثانياً، ما تزال المنهجيات المستخدمة في الدراسات الأدبية والاجتماعية تفتقر في الغالب إلى أدوات البحث الكيفي التي ترتكز عليها الدراسات الثقافية، مثل البحث الإثنوغرافي، وتحليل الخطاب النقدي، والدراسة الميدانية للممارسات اليومية. ويعود ذلك إلى تقليد أكاديمي يفضل التناول التاريخي أو الوصفي أو النصّي المحض، على حساب أدوات تربط الثقافة بالبنى الاجتماعية والرمزية.
ثالثاً، ثمّة حساسية مؤسساتية ومجتمعية تجاه بعض المفاهيم التي تتناول الجندر أو الهيمنة بأشكالها أو الجسد أو العِرق، ما يجعل الباحثين يتجنبون الاشتباك مع هذه الموضوعات، أو يمرّون بها سريعاً دون تعمّق، خشية الاصطدام بأعراف أكاديمية أو مجتمعية محافظة. وهذا بدوره يفرغ الدراسات الثقافية من راديكاليتها النقدية، ويحولها إلى خطاب تجميلي أو مجتزأ.
ولهذه الأسباب وغيرها، لم يتطور الحقل بوصفه رؤية متكاملة أو منظومة منهجية في السعودية، بل ظل أقرب إلى (فضاء احتمالي) ينتظر من يفعّله، لا سيما في ظل الحراك الثقافي الكبير الذي تعيشه المملكة اليوم، والذي لا يمكن فهمه وتحليله من دون أدوات نقدية متعددة التخصصات، تأخذ بعين الاعتبار ديناميات الهوية والتمثيل وأنماط النفوذ والتأثير الاجتماعي والرمزي والمعرفي.
لماذا نحتاج الدراسات الثقافية اليوم؟
في خضم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تشهدها السعودية منذ إطلاق رؤية 2030، تزداد الحاجة إلى أدوات معرفية جديدة قادرة على تفكيك هذا الواقع المتغير، وتحليل تمثلاته الرمزية والمادية على حد سواء. ومن هنا، تبرز الدراسات الثقافية بوصفها حقلاً نقدياً فاعلاً، يمكن أن يواكب هذه التحولات، لا بوصفه امتداداً للحقول التقليدية، بل باعتباره إطاراً تحليلياً يتعامل مع الثقافة بوصفها ممارسة يومية، ونظاماً من المعاني، وساحة لصراعات الهيمنة والتمثيل.
إن التحول الذي يشهده مفهوم (الثقافة) نفسه -من كونه معطى نخبوياً أو تراثياً إلى كونه ممارسة شعبية ومتجددة- يتطلب استجابة معرفية مرنة تتجاوز التحقيب، والمركزية، والنماذج الجاهزة. فلم تعد الثقافة اليوم منحصرة في الكتب والمجلات الأدبية والمعارض، بل أصبحت تتشكل أيضاً في الفضاءات الرقمية، وفي الفيديوهات القصيرة، وفي الأنماط الاستهلاكية، وفي اللغة اليومية. وضمن هذا السياق تتيح لنا الدراسات الثقافية تحليل هذه الممارسات باعتبارها مؤشرات على تحولات أعمق في مفاهيم الهوية، والذات، والانتماء، والجسد، والمجتمع. كما توفّر أدوات لفهم ظهور (المثقف الجديد)، ذلك المثقف غير الأكاديمي -أو من يمكن وصفه بالمثقف الرقمي، أو الجماهيري- الذي يعيد رسم العلاقة بين المعرفة والسلطة بأشكالها والجمهور.
إننا بحاجة إلى هذا الحقل ليس من أجل (فهم) الثقافة فحسب، بل من أجل مساءلتها: كيف تُنتج؟ من يُمثَّل؟ من يُقصى؟ وكيف يمكن فتح المجال لبدائل رمزية تخاطب المجتمع من داخله؟ إنها حاجة نقدية، لكنها أيضاً حاجة تربوية، وتنموية، وسياسية، لأن أي مشروع للتغيير لا يمكن أن ينجح ما لم يصاحبه تفكير نقدي في الثقافة بوصفها الحقل الأعمق الذي يُعيد إنتاج ما هو كائن، أو يفتح الطريق لما يمكن أن يكون.
ولا تمثّل هذه المقالة أكثر من محاولة أولية لإثارة النقاش حول موقع الدراسات الثقافية في السياق السعودي، في ظل واقع يتغير بسرعة ويتطلب أدوات معرفية أكثر حيوية وشمولاً. إن تشكّل هذا الحقل محلياً لا يمكن أن يتم عبر استيراد المفاهيم أو استعارة التجارب، بل يحتاج إلى جهد تأصيلي نقدي يعيد التفكير في الثقافة من داخلها، بما يعكس الواقع المحلي ويشتبك معه بوعي نظري ومنهجي.
تبدو الحاجة ملحّة إلى أن تتجاوز مقاربة الثقافة في السعودية حدود الأدب والتراث والرمز النخبوي، لتُقرأ في ضوء التمثيل والخطاب والممارسة اليومية، وأن يُفتح المجال أمام البحث الثقافي متعدد التخصصات ليكون جزءاً من مشروع وطني أكبر لفهم الذات والمجتمع. وما لم يتم ترسيخ هذا الحقل في الجامعات، ودعمه في مراكز الفكر والمؤسسات الثقافية، وتشجيع الباحثين على الاشتباك النقدي مع تحولات الواقع، فستبقى الدراسات الثقافية احتمالاً معلقاً، ومشروعاً مؤجلاً.