مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

فن الشارع بين الانزياح والإحلال

مع تقلبات الدراسات الثقافية العالمية، وضمن الانزياحات الثقافية في العالم؛ تبرز موضوعات ثقافية عربية ضمن اهتزازات نقدية فاعلة. ورغم أن هذه الدراسات مازالت تتأرجح بين الاعتراف والمراوغة، بين المؤسسة والفرد؛ إلّا أنها كوّنت مساراً إشكالياً. ولأن الدراسات الثقافية تسعى لإيقاظ الوعي النقدي والالتفات إلى البعد التاريخي والسياسي؛ فإن الثقافة ليست فضاءً أحادياً، كونها رُؤى متعددة ضمن انزياحات الواقع المتبدّل. ذلك أن الواقع العربي متعدد في منابته العرقية والثقافية، وتتنوع مرجعياته في قراءة الفن بشكل عام والجرافيتي وفن الشارع بوصفهما سياقات بصرية بشكل خاص، ضمن نتاجات الثقافة العربية، هذا التنوع يضعنا ضمن التباسات قراءة الواقع الثقافي في تعدديته، وفي هذا السياق تبرز عدّة تساؤلات، ومنها: هل يتوافق المجتمع بثقافته الجمعية مع قراءة علاقة الفرد مع المجتمع وبعلاقة الفرد مع متغيرات الواقع في إيجاد هوية جمعية تجمع تلقي الخطاب الفني وتحليل الظواهر الثقافية المتعددة ضمن سياق دراية واعية، بعيداً عن ظاهرة إحلال فن على حساب فن آخر.
برز الفن الجرافيتي واكتسى معالم المدن حول العالم، محوّلاً المكان إلى أعمال فنية تحاكي الحياة الاجتماعية زماناً ومكاناً. تعود أصول هذه الأعمال الفنية إلى الحضارات السابقة، بوصفها موئل النشاط الإنساني الأول، ثم إلى مدينة نيويورك في ستينات القرن الماضي، حيث ظهر هذا الفن من رحم صراعات التنوع ومحاولة الفنان خلق هوية تميز مجتمعه، إذ بدأ مغايراً ومناكفاً للمكان كونه غير قانوني ويعاقب عليه القانون، بعكس فن الشارع الذي يلتئم ويتفق مع الفن الجرافيتي بعدّة جوانب عدا مشروعيته، حيث اكتسب فن الشارع أحقيته في الظهور على حساب الفن الجرافيتي، إلا أن كليهما كان يسير ويحفر في وجدان المجتمعات رسائله البصرية، حتى أصبحا جزءاً من السياق الحضاري الحديث.
يشكّل المكان بوصفه وعاءً للحدث وتحولاته في الخطاب البصري بشكل عام والخطاب الجرافيكي بشكل خاص؛ القوة التعبيرية الكامنة للتلقي وإدراك مكونات الخطاب وتأويلها والإحساس بها. (فالمكان يختلف في تأويله فلسفياً بحسب فعله في شتى المجالات، فهو ما يحمل فيه الشيء أو ما يحويه ذلك الشيء ويميزه ويحيده ويفصله عن باقي الأشياء)، ويستند الفن الجرافيتي وفن الشارع بشكل أساسي على خصائص المكان باعتبارهما فنّين يخاطبان كل فئات المجتمع، كونهما يُمارسان على جدران المكان الخارجية، ومن هنا تأتي أهمية رسائلهما البصرية، إذ ليس على المتلقي الذهاب إلى المتاحف أو دور العرض للتفاعل مع النص البصري، ومن هنا فإن تفاعل المجتمع مع المكان يؤسس لإمكانية الحكم، في اعتبار أنّ البيئة المكانية هي نتاج علاقة الإنسان بالمكان، وهي نتيجة متحققة من خلال التلقي، إن مؤثرات المكان في التلقي شكّلت محفزات لفهم الرؤى والتجارب في بعدها الزمني، وذلك لأن المكان يمثل بيئة خصبة تتصارع فيه أزمنة التلقي داخل العمل الفني الجرافيكي وفن الشارع.
شكّل فن الشارع والفن الجرافيكي رؤية جمعية مجتمعية توالدت مع تطور واعتراف العالم بهما من ناحية الاقتناء وحضورهما في دراسات النقد الثقافي، إذ تبنّت مدن حول العالم فن الشارع شكلاً يضفي طابعاً سياحياً على جدرانها، حيث حوّلها إلى مناطق حضرية ومراكز تترجم ثقافة المجتمعات وازدهارها.
ظهر الفن الجرافيكي في العالم العربي بشكل شخصي من مجموعة من العامة، أرسلوا رسائلهم المنقوشة والمكتوبة على جدران المكان بشكل عفوي، وفي بعض الأحيان كانت الجدران فضاءً لكتابة الأحلام إلى أن وصل الفنان الجرافيتي العربي إلى نقد الحكومات وبث رسائله البصرية من خلال كتابة ورسم شعارات متبناه من رؤى أيديولوجية وسياسية يجتمع ويختلف عليها المجتمع إلّا أنها تشكّل مرجعاً مهماً لدراسة المجتمعات العربية بكل أطيافها، وتطورت استخدامات الفن الجرافيتي مع تطوّر حاجات الحياة الحديثة، لتستخدم أداة للتعبير السياسي بعد الثورات العربية، فكان لها الأثر الكبير في خدش ذاكرة المجتمعات العربية نحو التغيير وزعزعة الساكن، مما عرض هذا الفن إلى إزالته من الجدران كونه ينافي الرسالة الرسمية للحكومات، وهذا ما لمسناه أثناء الثورات في مصر وتونس واليمن بالإضافة إلى سوريا، لذا اتجهت الحكومات إلى تشجيع فن الشارع على حساب الفن الجرافيتي، ففن الشارع كان يتلقى دعماً من مؤسسات مدنية وحكومية لبث رسائل تتناغم والخطاب الرسمي، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن فن الشارع أصبح يتمدد بعد الثورات العربية ليوازي ويحل مكان الفن الجرافيتي، وهنا تبرز قيمة التلقي ووعي المجتمعات العربية في فهم الظواهر التي تتصارع بين المكبوت والمباح بين الفن الجرافيتي وفن الشارع.
بقي أن نقول هل نجح المجتمع بفهم وتلقي العمل الفني (العام) بين الفن الجرافيتي وفن الشارع ضمن سياقاته ومحتواه الفكري، أم أن محاولة الخطاب الرسمي نجحت في إحلال فن الشارع بدلاً عن الجرافيتي لتدجين المجتمعات نحو رسائل مقولبة؟ وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المجتمع العربي ما زال يبحث في تلك الإشكالية والتي تستوجب دراسات ثقافية جادة تبحث تلك الظواهر.
يشكّل التلقي ظاهرة جديرة بالدراسة، بوصفه الآليّة التي تتمحور من خلال الرسالة البصرية بمختلف صورها وفنونها وأشكالها المتنوّعة إلى المتلقّي الذي يختلف من حيث المرجعيات الفكرية والثقافية والاجتماعية والعقائدية وغيرها. ولا بدّ من الإشارة إلى أن المجتمع هو من يستطيع أن يقدم لنا حكماً قاطعاً أحياناً أو نسبياً في أحيان أخرى لمدى تقبله للخطاب الجرافيكي أو خطاب فن الشارع. إن عملية التلقي عند المجتمعات العربية مرهونة بمرجعيات متفاوته من الإدراك والتأويل ضمن مرجعيات المجتمعات العربية والتي ما زالت تحاول أن تعي أهمية الصورة التي اختلف بمشروعيتها ثقافياً.
ما الذي تشكله عملية التلقي من انعكاسات وظيفية ورمزية في الخطاب الجرافيكي المعاصر؟
(إن العقل لا يدرك إلّا الظواهر)، والتي ارتبطت هنا ارتباطاً قوياً وضرورياً بثقافة المجتمع العربي، (لذلك فإنّ فلسفة التأويل تركز على علاقة تفاعل الإنسان بالعالم)، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن قوّة الخطاب الفني في الظاهرة تستلزم مجتمعاً مثقفاً بصرياً ومقاوماً للأفكار المقولبة.
يمثل الخطاب التاريخي قدرة المجتمعات العربية على تحليل الرسالة المبثوثة من خلال العلاقة الإشكالية بين تلقي فن الشارع والفن الجرافيكي، (فالتاريخ مادة أساسية لولوج الذات إلى صميم الحدث وتحسس التجربة التاريخية).

ذو صلة