مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

الدراسات الثقافية وأثرها في حماية العقل الجمعي

(الثقافة هي ذاكرة الأمة وضميرها) علي عزت بيجوفيتش
إن التحولات الكبيرة التي حدثت في تعريف الثقافة باتجاهاتها السبعة، ومفهومها ومراحل تطورها، وتأثر خطاب المفكرين والفلاسفة بها والحديث عنها، ونشوء نظريات لمحاولة استيعابها وهضمها وتأويلها لمواجهة التأثيرات المتسارعة في حياة الإنسان، كلها تؤكد أهميتها وقيمتها ودرجة تأثيرها على الإنسان والمحيط الذي أنتجها والمشهد الذي تنشط فيه.
أهم ما يمكن أن نعرِّف به الثقافة كعملية إنسانية مهمة وبالغة التأثير جديرة بالدراسة، هو أن نقول (هي مجموعة المعارف والقيم والمعتقدات والعادات والتقاليد والفنون التي تميز مجتمعاً أو مجموعة معينة)، لأن الثقافة تشكل هوية الأفراد والمجتمعات، وتؤثر في طريقة تفكيرهم وتصرفاتهم.
بالإضافة إلى اهتمام المفكرين بها وتخصيص جزء كبير من إنتاجهم الفكري والفلسفي لمناقشة قيمتها وتأثيرها على المجتمعات وارتباطها بالتعبير عنها وخطورة المساس بها، يقول إدوارد هيربرت كار (1893-1982)، وهو دبلوماسي بريطاني، صحفي ومؤرخ ومنظر في العلاقات الدولية: (الثقافة هي كل ما يبقى بعد أن ننسى كل ما تعلمناه).
هذا التعبير يؤكد أن الثقافة قادرة على البقاء ومواصلة دورها في قوة التعبير حتى لو نسيت المجتمعات ما تعلمته من معارف داخل قاعات الدراسة، لأنها تولدت من تجربة الإنسان المتراكمة عبر الأجيال، بالممارسة والمجايلة والتجريب واستخلاص الحكم من التجارب.
ففي ظل سرعة جريان العالم إلى حيث لا ندري، والسباق التكنولوجي المهول وهواجس السيطرة وصراع الأقطاب، فإن الثقافة أصبحت سلاحاً موجهاً إلى العقل البشري والسيطرة عليه وتوجيهه، حيث إن العقل الجمعي كما يُعرَّف هو (تسميات لظاهرة نفسية تحدث عندما يفقد الأشخاص قدرتهم على اتخاذ القرار المناسب، ويفترضون أن الآخرين يعرفون أكثر منهم، وأن تصرفاتهم ربما تكون هي الصحيحة، فينصاعون للسائد دون تفكير، فيما يشبه سلوك القطيع).
هذا يؤكد أن هناك عقلاً معيناً في مكانِ معين يتقاسم الآخرون نفس الرقعة الجغرافية ونفس السلوك الاجتماعي الذي يمثل عامل المطابقة الاجتماعية، وأن هذا العقل تنازل طواعيةً أو تحت تأثير موجه بغرض التغيير والتأثير، عن تحريك السؤال في جانب ما في الحياة، ليترك عقولاً أخرى تنوب عنه في هذا الصدد، مما قد يؤدي إلى استغلال هذا الموقف للعب على لحمة المطابقة الاجتماعية للاختراق أو التشويه للسيطرة عليه وتوجيهه لإحداث خلل في تركيبة هذا المجتمع يسهل عملية السيطرة الكاملة.
لذا فإن مساعدة هذا العقل وإعداده لمواجهة هذه المؤثرات الخارجية ضرورية، وأن ذلك لا يأتي إلا من خلال الدراسات الثقافية بمناقشة جذور كل مراحل تطور الثقافة وجمع بيانات عنها وتحليلها واستخلاص النتائج لتصميم خطاب ثقافي جاذب ومرن قائم على تعزيز القدرة على مواجهة الأفكار وغربلتها واتخاذ موقف منها يساهم في عملية الحفاظ على ما هو موجود من مطابقة في قوة ثقافة المجتمع وتطويرها بمرور الأيام وعظم التجربة.
إن نظرية إيميل دوركايم، وهو عالم اجتماع فرنسي (1857-1917) ترى (أنَّ العقل الجَمْعي دائمُ التغيير، يحلِّل اليوم ما كان بالأمس محرَّماً والعكس، فلا الدين ولا الأخلاق ثابتة، بل هي متغيرة بسلطة العقل الجمعي).
هذه النظرية بنيت بالأساس على ديمومة التغيير في عقل المجتمعات، وتكمن الخطورة هنا في أن هذا التغيير يمكن أن يتم استخدامه لضرب المجتمعات وتفتيت ثقافتها فيما يتعلق بالأخلاق، ومن المعلوم أنه إذا فقدت الأمم أخلاقها فقدت كل شيء، لذلك يجب توجه هذا التغير الدائم لتطوير طرق المحافظة على ثقافة المجتمعات، وهذا لا يتأتَّى إلا من خلال تأسيس معامل البحوث والدراسات الثقافية وتطويرها باستمرار.
لقد جسدت نظرية (كايم) خطورة تفنيد العقل لتجريده من خاصية تحريك السؤال، من خلال ضرب العقل ذاته بترسيخ فرضية ديمومة التغيير، ربما لقبول التنازل عن دوره الحيوي في تقليب الأفكار وتمحيصها والمفاضلة بين الخيارات الناتجة لاختيار أمثلها والمحافظة عليه وتعزيزه بالتكرار لتوكيد الثوابت وجعلها بقوة العقل مكتسبات وجودية لا يمكن المساس بها.
لم تعد أبداً مسألة أهمية الدراسات الثقافية رفاهية معرفية، وإنما ضرورة حتمية، لأن الثقافة باتجاهاتها كلها (الوصفية التي تركز على توصيف العناصر الثقافية باختلافاتها كما هي، دون تفسيرها أو تحليلها، والتاريخية فيما يعني التطور الخاص بها عبر الأزمان، وكيفية انتقالها من جيل إلى جيل، والمعيارية بشمولها للقيم والقياسات التي توجه سلوك الأفراد داخلها، والسيكولوجية المبنية على عمليات العقل والعمليات النفسية التي تشكلها وتُلقي بظلالها عليها، والبنيوية بمناقشة العلاقات بين عناصر الثقافة المختلفة وطرق تشكلها، والتطويرية بما يعني تطورها والتكيُّف مع البيئة، والشمولية بالارتكاز على الثقافة بما يشمل جوانب حياة الأفراد ومجتمعاتهم)، بل ضرورة وجودية، لأن كل تلك المراحل ووصفها تجعل من حركة العقل ومعرفة اتجاهاته وميوله ومداخله ومدى هشاشته من قوته وطرق التأثير عليه عناصر أساسية لدراسته وتحليله لمعرفة كيف بنى ثقافته وما مدى ثبات الثقافة التي بناها في كل تلك المراحل.
سوف يصبح العالم في القريب ساحةً لمعركة العقول، حيث يواجه العقل عقلاً آخر يختلف عنه في كل شيء ويرقب في التأثير عليه، فإذا لم يكن العقل المقابل مستعداً استعداداً كافياً من حيث معرفة أي عقل يواجه، وما سمات العقل الذي يواجهه ومميزات ونقاط ضعفه وأسلحته، ومدى الاستفادة من أرض المعركة وتضاريسها من خلال دراسة مسبقة؛ فإنه لا محالة سوف يخسر المواجهة وتهتز ثقافته ويسهل التأثير عليه، وبالتالي فإن ثقافته في الحياة ستكون شيئاً يفر منه أينما التقاه.
الآن ومع تطور تقنيات البحث وظهور الذكاء الاصطناعي، فإنه أصبح من السهل على القائمين على إدارة أمر المجتمعات جَعْل الدراسات الثقافية بكل جوانبها عنصراً أساسياً في حماية العقل الجمعي لمجتمعاتها، وجعله محمياً من خلال البحوث الثقافية دراسةً وتحليلاً.
يقول الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859 - 1952): (الثقافة هي التي تجعل الإنسان إنساناً).
كي نبقى على قيد الحياة بكامل إنسانيتنا، علينا دراسة ثقافاتنا أولاً، ثم التحلي بالتواضع اللازم لدراسة ثقافات الآخرين وتحليلها ووضعها في القياس مع ثقافتنا لمعرفة كيفية حماية عقلنا الجمعي ومواجهة العقول في معركة التفكير وبقاء الثقافات.

ذو صلة