ذكر الفيلسوف جيلبرت رايل Gilbert Ryle في محفل فلسفي حكاية الفلاحين الذين أذهلهم سماع صافرة القطار البخاري وهو يتحرك لأول مرة يشاهدونه فيها، وكيف أن مطران كنيستهم جمعهم في محاضرة شرح لهم فيها كيف تعمل الآلة البخارية. فقام أحد الفلاحين وقال: (نعم سيدي المطران، نحن قد فهمنا تماماً كل ما قلته عن الآلة البخارية، وأن الحصان صار داخل تلك الآلة يجرها من داخلها، أليس كذلك؟). إن هذا الفلاح البسيط لم تيسر له نشأته وبيئته من حوله أن يتصور قط أن تتحرك آلة من غير أن تجرها خيل، وبالتالي فكل ما قد عناه تطور الآلة البخارية لديه فقط أن الحصان لم يعد يقود القاطرة من الخارج وإنما من الداخل، هذا منتهى ما وصل إليه عقله في الاستدلال، ولعل هذا كان نزوعاً طبيعياً لديه أن يميل لقبول ما هو تليد عنده أكثر مما هو وافد، فأكثر الناس يألف ما يأتيه من العالم خارج قريته إذا نظر إليه فقط بمنظور طريقة حياة قريته. وهكذا تكون الثقافة - على وجه الاصطلاح الممكن - هي المنظور إلى العالم الذي يتخذه شعب معين في إدارة حصيلة المعارف العامة الواردة إليه بما يتوافق مع طريقته في الحياة. فالمعارف والعلوم هي ملك مشاع لجميع من يضربون بأيديهم في الكون تنقيباً واكتشافاً، بينما الثقافة هي التفاعل الاجتماعي الشخصي أو المخصوص مع هذه المعارف والعلوم وتوظيفها بما يلائم. على هذا الأساس يمكن إيضاح نوعين متكاملين ومتداخلين للدراسات الثقافية، (الدراسات الثقافية العامة) و(الدراسات الثقافية التحليلية)، فإن الدراسات الثقافية العامة هي التي تحدد القوالب والأطر الكلية للثقافة التي تتم فيها معالجة العلاقة بين مختلف العلوم والمعارف على نحو معين من الارتباط. لتأتي الدراسات الثقافية التحليلية فتقوم بعملية التحليل التطبيقي النقدي لهذه الأطر والقوالب العامة للثقافة تنزيلاً على شعب معين أو فئة اجتماعية معينة بحسب طريقة حياتها المحلية بغرض فهمها وتحديد ملامح هويتها مقارنة بغيرها، كأن يكون هذا التحليل التطبيقي محدوداً بالثقافة العربية مثلاً، وذلك على أيدي المختصين بالفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والفلكلور والتاريخ وما نحو ذلك. فهما، إذاً وجهان لعملة واحدة. وقد سميت بالدراسات الثقافية التحليلية لأنها تدع كل شيء في الموضوع محل التحليل على حاله وتعمل على ما هو قائم في الواقع دون حذف منه أو إضافة عليه، فقط بغرض الفهم وإيجاد التأثير.
وبهذا تكون الدراسة الثقافية التحليلية هي الأداة المستعملة في قراءة ما يعرف في الاصطلاح الفلسفي (العقول الأخرى) other minds والمقصود به تحقيق مقولة (النص الحي) وذلك أن طريقة الحياة المخصوصة لدى أي شعب هي ما يحدد الشكل النموذجي للرسم الاجتماعي والاقتصادي الملائم لها. ولكي يمكن تحقيق هذا النموذج والتأثير فيه لابد أن يأتي الأمر بمعايشة مباشرة من داخل طرق الحياة ومجرياتها وتصرفاتها وليس مجرد النظر إليها من خارجها بنحو ما يفعل التحليل الثقافي العام. بهذا يكون القائم بالتحليل الثقافي لشعب من الشعوب كما القارئ لنص مفتوح أمامه، فهو يقرأ ثقافته الحية من خلال هذه المعايشة له مثلما يكون التعمق في معاني ودلالات النصوص. ويمكن إطلاق تسمية (الوعي الشعبي) على المادة التي يقرأها المحلل الثقافي في هذا (النص الحي)، ليكون مغزى قراءة العقول الأخرى هو فهم حالة الوعي الشعبي لطريقة حياة شعب معين ومنظوره الثقافي. يأتي ذلك مصداقاً لقول توفيق الحكيم في كتابه (فن الأدب) بأن مصدر أي طريقة في الحياة هو (شعور الجماعة نحو موقف من المواقف، وقرارها إزاء مسألة من المسائل. وهذا الشعور وهذا القرار ينبعان فجأة وفي الوقت عينه، كأنهما خارجان من قلب واحد وعقل واحد. كأنما هذا الرأي العام إذاً يخلق وينمو إلى أن يصبح قوة ناضجة، محركة موجهة تؤثر في الدولة والمجتمع)، فهكذا إذاً هو توصيف مفهوم (الوعي الشعبي) على أقرب تصوير. فيمكن القول، إن أصول الوعي الشعبي لدى بعض الشعوب والقبائل مرجعه الأصلي هو الاحتفاظ بحالة التكوين الإثنوجرافي الأسري لها، في حين أن هناك قبائل أخرى قد انفتحت بنحو كبير تجاه الآخرين لم يقس فيها بالأساس الوعي الشعبي على الشكل الإثنوجرافي الأسري وإنما على التجريد للثقافة المحلية وتوارث عادات وتقاليد أي أنماط سلوكية مشتركة تميز طريقتهم في الحياة، وهذا الشكل الأخير هو معظم الحالة الراهنة في عالمنا اليوم.
على ما سلف، يكون الوعي الشعبي هو مجموعة الطبائع والأمزجة النفسية التي شكلت وجدان فئة من الناس بشكل مشترك -وليس بشكل فردي- بتأثير العوامل الإطارية المحيطة بهذه الفئة من تكوين إثنوجرافي وبيئة مشتركة ومقومات حياة ووسائط اتصالية لغوية محكية وحركية، وأيضاً بتاريخ عام ورؤية مستقبلية مشتركة. لذلك كان لابد من منهج ما لأجل تنزيل أنماط من المتغيرات المختلفة والمستحدثة على شعب معين بخطاب لا يحدث تناقضاً مع ثوابت الوعي لدى هذا الشعب، وهو ما يقوم به التحليل الثقافي التطبيقي في إطار المجال العام للدراسات الثقافية.
ويمكن لنا إعطاء أنموذج من الآداب العربية على فائدة الدراسة الثقافية التحليلية في قراءة العقول الأخرى وفهم الوعي الشعبي، فهو الذي قدمه الكاتب اللبناني مارون عبود وهو القائل: (الأدب خلاصة عقل الأمة، يدل على السبيل التي اختطتها أوائلهم)، بأن قام بتوظيف فريد للغة العربية وفق كيفية معينة في الاستخدام، بحيث أتى بالفصحى معجونة بشبه الدارجة على نحو مثمر دلالياً تماماً في فهم صورة الوعي الشعبي وعقله، فصارت هذه الكيفية تقنية وعلامة إبداعية بارزة يمكن تداولها على المستوى الفني بجانب المقصد الأدبي الدرامي في تجسيد الواقع الثقافي الحي والمباشر.
ويمكن القول، إن الأهمية الحقيقية لنموذج مارون عبود تكمن في أنه بجانب رسمه لطريقة فهم الذات للعقول الأخرى، قد تضمن أيضاً طريقة إفهام تلك العقول الأخرى لعقل الذات أي عقل المتكلم أو صاحب الثقافة المحلية بمضامين طريقة الحياة المنتمي هو إليها والمتمثلة في التعبيرات اللغوية والحركية والانفعالية فيما يعرف بعرض الذات. وقد قدم مارون عبود هذا النموذج تحديداً وبشكل بارز في روايتيه (الأمير الأحمر) و(فارس آغا) بحسب العقل العربي اللبناني الذي ينتمي هو إليه كنوع من الاستبطان الاجتماعي التحليلي الذي يكشف عن عمق أصالة وتراث وأخلاقيات شعب قريته (عين كفاع) في التحام توافقي مع بيئتها الطبيعية.