جاء انطلاق الدراسات الثقافية انعكاساً للتفاعل الفكري والنقدي بين الحقول المعرفية، خصوصاً في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث تجاوزت هذه الدراسات النظرة الأدبية التقليدية، وتبنت رؤىً ما بعد حداثية في التعاطي مع الثقافات والخطابات الأدبية والفنية. ونجم عن ذلك ظهور جملة من الخطابات تضم المادية الثقافية البريطانية، والتعددية الثقافية الأمريكية، وما بعد الكولونيالية والتاريخانية الجديدة.
تشكلت الدراسات الثقافية، وبخاصة في بداياتها في بريطانيا في سياق الدراسات الأدبية. ففي سبعينات القرن الماضي، تأسست مدرسة بيرمنغهام البريطانية، حيث تُعد من أهم المدارس النقدية، التي يرتبط مشروعها الفلسفي والمعرفي بالنقد الأدبي بشكل عام، واعتمد باحثوها في تحليل النصوص الأدبية أو الثقافية على تخصصات معرفية أخرى مثل علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ واللغويات والتحليل النفسي.
كما كان لمدرسة فرانكفورت الفلسفية النقدية في ألمانيا التي تعود جذورها إلى عشرينات القرن الماضي؛ دور بارز في تشكيل مشروع الدراسات الثقافية. وقد أُسست النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت على دراسات قائمة على التراكم الفكري لأعلام فلسفية متعددي الاختصاصات وذوي توجه نقدي شامل لبنية الحضارة المعاصرة. كما ركزت على تحليل مقولات الجدلية التاريخية والحتمية الاقتصادية والصراع الطبقي في مجتمعاتهم. وكان هذا النقد منصباً على البعد الاجتماعي فجاء الرفض لكل ما يؤدي إلى ظاهرة الاغتراب من ظواهر حضارية في فترة ما بعد الحداثة والعصر الراهن.
وقد تأثر أعلام مدرسة بيرمنجهام بأفكار ثيودور أدورنو، الذي يعتبر من أبرز أعلام مدرسة فرانكفورت، حيث تناول بالنقد موضوع صناعة الثقافة التي أصبحت تخضع للعقل الأداتي والتقني، ما أفقدها الأصالة فغَدت خاضعة للاستهلاك والتصنيع.
ولعل السمة البارزة للدراسات الثقافية هي العالمية، إضافة إلى التعددية، حيث تتنوع فيها الموضوعات والاهتمامات والممارسات النظرية والمنهجية التي يمكن لهذا المجال استيعابها. كما تتداخل فيها التخصصات بحيث يتم تطبيق التحليل الثقافي النظري والتجريبي على مصفوفة من القضايا تضم الهيمنة الثقافية والهوية، بما يسهم في تعزيز الوعي النقدي وتأكيد البعد الاجتماعي والسياسي واللغوي لما يُعرف بالتعددية الثقافية.
ويعد سؤال الهوية من أهم الموضوعات التي عُنِيَتْ بها الدراسات الثقافية. إن الهوية في أساسها مسألة وعيٍ بالضرورات، لا تلبث أن تحاط برموز وشعائر مستمدة من الثقافة. والسؤال الذي يُطرح باستمرار في البحث الحضاري: كيف يمكن الحفاظ على الهوية في مواجهة تحدياتٍ في الوعي والواقع؟
لا تنفصل (الهوية) عن سمات التركيب والتعقيد والتغيير. وإذا صح هذا التوصيف للإنسان، نجد أنه يتقاطع مع توجه الباحثين في الدراسات الثقافية إلى تعريف الإنسان بأنه ذات متعددة الأبعاد والجوانب. فالهوية هي سيرورة تتسم بالتراكمية والتركيب والتعقيد، ولا بد من سبر غورها من أجل تحقيق متطلبات العيش المشترك وتعزيز ثقافة الحوار والتواصل واحترام الرأي الآخر.
إن البديل الحضاري للهوية الأحادية هو الهوية المتصالحة مع ثقافتها وذاتها وتاريخها ولغتها. فمن الضروري الانتماء إلى هوية واضحة المعالم متجذرة في أعماق التاريخ والمجتمع، تتم ترجمة قيَمها إلى خطط عمل وبرامج حضارية تصوغ الكيان المجتمعي، بما ينسجم مع المنطق العقدي والتاريخي لتلك الجماعة البشرية. وعند النظر في العلاقات الإنسانية والاجتماعية؛ نجد أن التداخل والتفاعل الثقافي والاجتماعي بين الأنا والآخَر في الفضاء العام على أكثر من صعيد؛ يؤكدان الطبيعة المركبة لهويات الأفراد لا الهوية الخالصة. إن اتساق العلاقة بين الهوية والحركة المجتمعية يسهم في صناعة التضامن بين أفراد المجتمع. وعند انحسار التركيز على الهوية أو التخلي عنها يقع المجتمع ضحية التقليد الأعمى لشعوب العالم وطرائقهم في العيش، كما يفقد ذاته وإدراكه لها. فمن المهم بمكان المحافظة على قدر من التوازن المجتمعي عند التعامل مع التطورات والمنجزات العالمية. ويبقى تحقيق ذلك منوطاً بالمحافظة على الهوية وتفعيل مكوناتها في المجتمع وإدراك التنوع الذي تنطوي عليه.
فلا يكون حوار الثقافات أو الحضارات؛ مجرد مناظرة بين أطراف ثقافية ودينية، أو حواراً مثمراً، إذا انغلقت الثقافات في نسبية مطلقة، فتكون كالجزر المعزولة، بلا معيار يقيمها. ويمكن القول إن الخصوصية الثقافية واقع قائم ومشروع لا يستقيم من دون أي معيار، مثل معيار حقوق الإنسان على سبيل المثال.
إن التفاعل والتعايش والتواصل مع الآخَر في عصرنا هذا يتطلب منا الاعتراف بثقافة الآخَر، ومد جسور الحوار معه، وتأكيد القيَم الإنسانية العالمية المشترَكة. فلكل حضارةٍ رؤية للعالم Weltanschauung، وقد ظهرَ هذا المصطلحُ للمرة الأولى في كتابات الفيلسوف والمؤرخ الألماني فلهلم دلتاي Wilhelm Dilthey، كما أن للحضارة روحاً أو طابعاً شاملاً. لكن الحضارات والثقافات تتواصل وتتفاعل أيضاً.
ولكن لا ثقافة بدون هُوية حضارية، ولا هُوية بدون إنتاج فكري نقدي، ولا معرفة ولا تواصل ولا تأثير بدون لغة قومية تستوعب العصر بكل تداعياته. وكما يقول الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف في كتابه المشهور (الهويات القاتلة): إن اللغةَ قُدمتْ دائماً على أنها «أحد العناصر التي تحدد الثقافة والهوية... فهي الانتماء الأكثر تحديداً ضمن سائر الانتماءات التي نرى أنفسنا فيها». فهي عامل محدد للهوية وأداة تواصل. ومن أجل الحفاظ على العيش المشترك، لا بد من الانتقال من صراع الهويات الفرعية إلى تكامل الهوية الإنسانية الجامعة. إن حماية التنوع بأشكاله الثقافية والإثنية والدينية والمحافظة عليه واحترامه يستند إلى الاعتراف بالآخَر بحيث لا يتم إلغاؤه وجودياً ومعرفياً. ويرتبط هذا المسعى بتأسيس خطاب فكري مجتمعي، انطلاقاً من مفهوم الدولة المدنية أو دولة المواطنة.
وكما أن الدين واحد من أبرز مكونات هوية أي أمة وثقافتها، فإن التراث يعتبر محدداً للهوية التاريخية والاجتماعية للأمم، وبخاصة الأمة التي لها حضارة متميزة وثقافة غنية، إذ تتجلى فيه ثقافة المجتمع والهوية التاريخية الثقافية له. إن عظمة الثقافة الإنسانية تكمن في تنوعها الذي هو مبعث خصوبتها وسر تجددها، وتراثنا غني بالتنوع والتعددية، ما يتيح لنا أن نستلهمه في حياتنا المعاصرة، حيث نجد فيه بذور التغيير والتجديد في إطار رؤىً شاملة.