تكتسب الدراسات الثقافية أهمية متزايدة؛ وذلك لأنها تستفيد من عدة تخصصات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والعلوم السياسية والجغرافيا البشرية واللسانيات والأدب بمختلف فروعه. إن تقاطع هذه العلوم والتقاءها في دراسة ثقافية واحدة يضفي عليها موثوقية عالية، بل عمقاً معرفياً؛ لأنها تنظر للموضوعات محل الدراسة من عدة جوانب، دون الاقتصار على تخصص واحد.
هذا التوجه البحثي يشكل الآن مدرسة قائمة، ولعل أكثر الجامعات تطبيقاً لهذا النموذج في الدراسات الاجتماعية -على وجه الخصوص- هي الجامعات الأوروبية كجامعات بريطانيا، بحيث يتجنبون الفصل بين التخصصات الإنسانية الذي قد نراه في بعض الجامعات الأمريكية. وقد يعود هذا التوجه البحثي إلى الإرث الأوروبي الطويل في دراسات الاستشراق والبحوث الحقلية الإثنوجرافية التي طبقت خلال الحقبة الاستعمارية وما تلاها، الأمر الذي ساعد في نمو الدراسات الثقافية لدرجة أنه يصعب أحياناً موضعة دراسة ثقافية في تخصص محدد.
وحتى لا أشتت الموضوع؛ فإنني أسلط بعض الضوء في هذا المقال على تخصص الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) الذي يعد رائداً في الدراسات الثقافية، أي دراسة ووصف ثقافة الشعوب من خلال أدوات البحث الأنثروبولوجي، كالعيش مع المبحوثين لفترات طويلة، وتطبيق تقنيات الملاحظة بالمعايشة، والمقابلات المعمقة، والإفادة من الوثائق والأدوات المادية والنقوش والرموز. ورغم ذلك فقد أحاط بهذا التخصص التباس في فهم وظيفته، ودور الأنثروبولوجي الذي يقوم بدراسة مجتمع آخر بعيد عن مجتمعه. لم يكن الأمر بريئاً في بداية الأمر؛ فالإدارات الاستعمارية أفادت من الأعمال التي اضطلع بها أنثربولوجيون، وبخاصة الأعمال التي تمت في الدول الأفريقية وأستراليا وأمريكا اللاتينية وجزر المحيط الهادي، وبالطبع بعض الدول العربية.
ففيما يخص الأنثروبولوجي؛ كانت مبرراته في الغالب علمية، وذلك للقيام بدراسة مجتمعات في طور التحول، أو ما قبل التحول، بغرض فهم جوانب من ثقافتها والحياة الاجتماعية، بافتراض أن تلك المجتمعات البسيطة والتقليدية التي درسها كانت تمثل (الطفولة البشرية) التي استلزم الأمر رصدها قبل أن تختفي. كان الأنثروبولوجي وهو يجري دراساته الحقلية يود البرهنة على أنه يقدم صورة لما كانت عليه البشرية في مراحل مبكرة من التاريخ الإنساني، وفي ذهنه بالطبع مجتمعه الأوروبي الذي وفد منه.
وقد دفعه كل ذلك إلى دراسة ثقافة بعض المجتمعات التي أطلق عليها في بداية الأمر تحيزاً (البدائية)، من خلال رصد ما اعتقد أنه غرائبيات لم يألفها في مجتمعه الأصلي، كالعادات والتقاليد والطقوس والشعائر الدينية والنظم القرابية وأساليب الإنتاج الاقتصادي، ونمط القيادة، وطرق العلاج، والتعامل مع البيئة الإيكولوجية، ثم استقر الرأي على وصف تلك المجتمعات بالتقليدية للخروج من مأزق التصنيف السلبي.
بعض الأنثروبولوجيين مكثوا سنوات طويلة في دراسات حقلية، كالذي قامت به الأنثروبولوجية الأمريكية مارغريت ميد (1901-1978) التي مكثت زهاء خمس وعشرين سنة، وإن على فترات متقطعة، في مجتمع الساموا جنوب المحيط الهادي، وكذلك دراسات لفيف من الإنجليز في أفريقيا وأستراليا وأمريكا اللاتينية. نشير بهذا الخصوص إلى كتابات بعض الرحالة الذين زاروا الجزيرة العربية، أمثال: تشارلز داوتي والتشيكي الويس موزل والليدي آن بلنت؛ وهذه مجرد أمثلة لعدد كبير من الرحالة والأنثروبولوجيين الذين قاموا بدراسات أصبحت اليوم من كلاسيكيات الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة.
ومن الدراسات الحديثة نسبياً عن المملكة كتابات اليابانية موتوكو كاتاكورا (1975) عن سكان وادي فاطمة بمكة المكرمة، وأعمال دونالد كول عن بدو آل مرة شرق الجزيرة العربية (1975 - 2004)، وكتاباته الأخرى عن منطقة القصيم مع زميلته السعودية ثريا التركي، وأعمال أخرى في بعض المجتمعات المحلية في مصر، وهناك الباحثة الإنجليزية دون شاتي وكتاباتها عن البدو في سلطنة عمان، وقد مكثت فيها نحواً من عشر سنوات. يمكن بهذا الخصوص اعتبار سفر ابن بطوطة الرحالة العربي (تحفة النظار في غرائب الأمصار) من الدراسات الإثنوجرافية المبكرة جداً (القرن 14م)، وقد سبقت أعمال الأوروبيين بعدة قرون، عدا أن بطوطة مال للوصف وتدوين المشاهدات.
الدراسات الأنثروبولوجية من هذا النمط، أي الثقافية؛ تستوجب الإحاطة بجميع تفاصيل الثقافة، وذلك من منظور وظيفي، بحكم أن جميع النظم الاجتماعية مترابطة ومتساندة، ومن ثم صعوبة الفصل فيما بينها، الأمر الذي يحتم النظرة الكلية للثقافة دون تجزئة، ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسات وشموليتها في فهم المجتمعات التي خضعت للدراسة، وإن من منظور غربي لا يخلو أحياناً من التحيز والمركزية العرقية.
تستوجب هذه الدراسات كذلك بقاء الباحث مع الجماعة المبحوثة فترات طويلة، يحددها البعض بفترة لا تقل عن سنة لرصد (دورة الحياة)، والإلمام بجميع المناشط والمناسبات التي تجري مدة سنة كاملة، كما تتطلب هذه الدراسات في الغالب إلمام الباحث بلغة المبحوثين، ليتمكن من فهم الظواهر موضع الدراسة، دون وسيط مترجم، قد يشوه الحقائق عن قصد أو غير قصد، ومثالاً على ذلك أعمال المستعربين: الإنجليزي بروس إنغهام والهولندي مارسيل كوربرشوك، وإجادتهما اللغة العربية والمحكية وسط وشمال الجزيرة العربية.
وقد خضعت معظم الأعمال الأنثروبولوجية التي تخصصت بمجتمعاتنا العربية للنقد من قبل باحثين محليين -دون إغفال فوائد تلك الأعمال- بحكم أن الباحث الأجنبي غير المنتمي لمجتمع الدراسة سينظر للمجتمعات التي درسها بعين (الخارجي) أو اللامنتمي، مما سيضفي على ملاحظاته أهمية علمية، بل درجة من الدقة، خصوصاً عندما يتناول قضايا قد لا يلتفت لها الباحث المحلي الذي يعدها مسلمات لا تستوجب الكتابة عنها أو الإشارة إليها. ومشكلة هذا النوع من الأعمال الأنثروبولوجية الغربية أنها ربما عكست في بعض الأحيان منظور الباحث وتمركزه العرقي، فيقوم ويفسر موضوعات دراسته في ضوء ثقافته الخاصة، دون الغوص بدرجة كافية في مجتمع الدراسة. مشكلة أخرى قد تتمثل في الأدلجة النظرية، وذلك عندما يتبنى الباحث توجهاً نظرياً بعينه في تفسير الوقائع والظواهر الثقافية والاجتماعية. يحضرني بهذه المناسبة ما كتبه باحث أمريكي عن مهر الزواج في المجتمعات الإسلامية الذي أطلق عليه (ثمن العروس)، وكأن العملية مقايضة تجارية دون الأخذ في الاعتبار الرمزية والدلالة الثقافية للمهر في المجتمعات الإسلامية وماذا يعني، وأنه قد ينحدر إلى مبلغ رمزي لا يكاد يذكر وبخاصة في المجتمعات الحضرية.
بناء على ما سبق؛ فإنه يبدو من الأهمية بمكان إنشاء أقسام للأنثروبولوجيا الثقافية في جامعاتنا السعودية، لتكتمل حلقة العلوم الاجتماعية التي لا تتوافر على هذه التخصص، رغم أهميته العلمية. ليس المقصود بالطبع دراسة السلالات البشرية والأجناس، فهذه من الصور الشائعة عن اهتمامات الأنثروبولوجيا، رغم أن هذا الفرع يعد أحد فروع الأنثروبولوجيا، وليس كل الأنثروبولوجيا، فهناك الأنثروبولوجيا الاجتماعية التي تعنى بدراسة النظم الاجتماعية وكيف تتشكل وترتبط وتؤثر في حياة المجتمعات، وهناك الأنثروبولوجيا التي تعنى بدراسة الثقافات المحلية والفرعية، ما يستدعي كذلك دراسة الإثنيات والجماعات العرقية والمناطقية، وهناك الأنثروبولوجيا الحضرية التي تعنى بدراسة المجتمعات الحضرية ومشكلاتها، وهناك الأنثروبولوجيا الطبية وهو فرع نامٍ في المجتمعات الأوروبية ليدرس العلاقة بين الأمراض والممارسات الاجتماعية والثقافية، وهناك الأنثروبولوجيا التي تركز على دراسة الثقافة والشخصية، وهو فرع يتقاطع مع علم النفس الاجتماعي، وذلك بتركيزه على سمات الشخصية في المجتمع وكيف تتشكل وعوامل تشكلها؟
وحقيقة الأمر فإن للأنثروبولوجيا عدة فروع تغطي مختلف أوجه الحياة. إن وجود أقسام جامعية لتخصص الأنثروبولوجيا على الأقل في المستويات العليا (ماجستير ودكتوراه) سيكون عاملاً مهماً ومفيداً في خلق جيل من الباحثين للاضطلاع بدراسات حقلية موسعة تتراكم بمرور الوقت، فمجتمعنا السعودي خصب وثري بتركيبته القبلية والحضرية ووجود نسبة كبيرة من الوافدين إليه، ناهيك عن تنوعه المناطقي والجغرافي، وتعدد لهجات سكانه، وثقافاتهم الفرعية، ولبروز عدة موضوعات بحاجة إلى تسليط الضوء عليها وبحثها من خلال أدوات ومنهجيات الأنثروبولوجيا.