(ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة وجعله في النهاية لا ينسى). (آني إرنو)
تمثل الكتابة لدى الكاتبة الفرنسية (آني إرنو) -الحاصلة على جائزة نوبل للآداب في نسختها الأخيرة 2022- حجر الزاوية في تفسير علاقتها مع العالم من منطلق الذات وإليها، في علاقة مركبة ظاهرها التعالق الاجتماعي/ الوجود في حيز مضطرب مليء بالضغوطات وإشكالية الوجود الفردي المرتبط/ اللا مرتبط بالمجتمع في صوره الشائكة، وفي باطنها (كتابة الألم)، ومواجهته وإعطائه هذه القيمة التي تشير إليها في هذا الاقتباس السابق، والتي تسبغ على النفس تلك الصرامة في التعامل مع الذات من جهة، ومن جهة أخرى تملك شجاعة التمرد على ذاك القيد الاجتماعي من خلال جسارة الإبداع وسلوك دروب غير معتادة في تكريس علاقة الذات مع الذات، ومع الآخر، ومع المجتمع بكليته، وإن كان من خلال حالة الارتداد الرافض عنه، ومن خلال حالة البحث المستمرة عن تلك الجذور، ومحاولة سبر غورها بكتابة ربما دخلت بقوة في مضمار (كتابة الاعتراف)، ونهجها لها في كافة أعمالها بصورة ما أو بأخرى، مع ما يمكن تجسيده من خلال (المخيلة الإبداعية) المنتجة للرواية كأحد أخلص الفنون السردية للتعبير عن الداخل المنصهر بعد تلك الحالة من التشظي التي أتت بها ما بعد الحداثة، بالعودة إلى ما قبل الحداثة وعودة صوت الفرد في مقابل صوت المجتمع، بتلك الحساسية الجديدة للكتابة الكاشفة عن أغوار الذات والآخر في آن. حيث تأتي حيثيات فوز الكاتبة بالجائزة هذا العام، فيما أعلنته الأكاديمية السويدية، لتؤكد تلك النزعة الإنسانية الطامحة إلى معانقة الوجود بقوة: (لشجاعتها ورهافة حسها المفرطة في كشف الجذور وانفصال الذاكرة والقيود الجماعية المفروضة عليها)، وأنها (تستكشف باستمرار ومن زوايا مختلفة حياة تتسم بتباينات قوية فيما يتعلق بالجنس واللغة والطبقة).
شجاعة تأسيس علاقة الذات بالذات
هذا التداخل الحميمي الذي يجعل من الكتابة كتلة من لهب، تنطلق حممها من الداخل/ الذات من خلال صور متعددة ومتباينة ورافضة لذلك القمع المجتمعي من خلال قيوده الحاكمة ومتطلباته التي تشق على النفس المتمردة التي اشتقت جذور تمردها من طفولة مترسبة في الذات من حيث الانفصال عن الجذور، كما جاء في رواية (المكان) أحد أبرز رواياتها التي تؤسس لتللك النزعة الرافضة لطقوس المجتمع وعاداته من خلال انفصالها المؤلم عن والدها، وتؤسس علاقة الذات مع الذات في كتاباتها التي أخلصت فيها للذات وعمقت من جراحها بكتابة روائية كاشفة موجعة حد الحقيقة المرة، بهذا التأصيل والتأريخ لذلك البعد النفسي والمادي عن الأب، ثم انتمائها فكرياً وعقيدياً إلى عالم مثقف ساخط ورافض لكل الممارسات الطبقية الاجتماعية، وكاشف عن عوار شديد وممارسات أكثر حدة، في حضرة اليأس منها:
(الشجاعة ليست غياب اليأس، وإنما هي بالأحرى القدرة على التحرك قدماً، على الرغم من اليأس، وكذلك لا تتطلب الشجاعة مجرد العناد، فمن المؤكد أننا سنبدع بالتعاون مع الآخرين، ولكنك إن لم تعبر عن أفكارك القديمة الخاصة، وإن لم تنصت لوجودك الخاص، فإنك سوف تخون نفسك، بل ستخون مجتمعك إذ تفشل في إسهامك إلى المجموع).
ما يدخل الكتابة في حيز النضال مع النفس من خلال الكشف والتعرية، والتعبير عن تلك الأفكار التي تمثل النبع الأثير الذي استمدت منه الكاتبة وعيها بالواقع وإشكاليات وجودها من خلاله كشخصية روائية واحدة/ بطلة، ممتدة في سلسلة من حلقات حياتها، فهي لا تدعي التقمص بقدر ما تدعي التجسيد الكامل لصور الذات في تعاملاتها مع طقوس الحياة وصروفها ومعاناتها النفسية والجسدية فيها، فالتحميل النفسي لابد من تحويله على الجسد كبوتقة تمتص تلك الصدامات مع الواقع، وكسمة من سمات الكتابة الأوتبيوغرافية القائمة على تلك التفاصيل الكاشفة التي تعري الواقع، وكأن الذات تنظر في مرآتها وحدها وتستطلع تلك الهالة عميقة السواد التي تزين عينيها بلا رتوش، مع ما يمكن أن تطرحه هذه التيمة من اشتباك مع آخرين يبدون من خلال النص الروائي البكر بشحم ولحم الواقع وعظامه ودون مواربة/ مخاتلة، وهو ما يسهم به المجموع في تجسيد تلك الرؤية المنبثقة من علاقات ممتدة ومنبتة بالكاتب على حد السواء:
(ربما يمكننا أن نضيف ميزة أخرى عند آني إرنو، أصبحت تظهر بشكل أوضح في كتاباتها الأخيرة، وهي تقدمها ضمن حقل العلاقة ما بين الكائن الفرد والكتابة، لا نغالي لو قلنا إن الذين سبقوها إلى الغوص في هذا الحقل، لم يذهبوا عميقاً في الأمر، مع هذه الرغبة في عدم ترك أي شيء مخفي في الظل. كذلك نجد أن الذين سبقوها، لم يخاطروا كثيراً في عرض ذواتهم الداخلية أمام الجميع، على هذه الدرجة من التعرية، وبالمعنى المزدوج للكلمة).
بين شجاعة الاعتراف والتطهر
وهو ما تستدعيه هذه الشجاعة في كونها مكرسة لنوع من العناد الذي أشرنا إليه، على الرغم من عدم جدواه على المستوى التأسيسي لمعنى الكتابة، فالشجاعة بحسب ما سبق لا تكون لمجرد العناد، ولكنها ربما كانت أداة لممارسة هذا العناد مع الواقع والتمرد عليه، من خلال سرد كل تلك التفاصيل الموجعة التي تنشع بالألم، ربما لتكون الكتابة مطهراً من إثم ذلك الواقع، وهي الصيغة الاعترافية للكتابة القائم عليها عمل مثل (الاحتلال) في كونه اعترافاً علنياً وليس ضمنياً، عن رحلة بحثها عن المرأة الغريمة/ الآخر التي احتلتها نفسياً ووجدانياً على إثر علاقة منتهية مع الرجل/ الزوج السابق. أو كما نجده على الصورة التي ربما بدت فيها الذات ضمنياً في مذكرات الكاتبة عن رحلة فقدها لعنصر آخر من عناصر وجودها/ الأم في روايتها (لم أخرج من ليلي)، وهي الجملة التي نقلتها حرفياً من آخر جملة قالتها الأم في حياتها قبل أن تموت!
نحن بصدد كتابة لا تدعي المثالية، ولا تدعي شرف التخييل المطلق في السرد، كما لا تدعي عدم اتجاهها بقوة نحو محاولة ترميم الواقع القديم ومعالجته سردياً بالحفاظ على الألم الناشع منها، وإعطاء الروح لتلك الذكريات التي لا ينبغي أن تموت لتستمر ذاكرة الألم والتطهر، فالألم النفسي الذاتي هو ما تكرس له روايتها (الاحتلال)، بينما تكرس روايتها (لم أخرج من ليلي) لذلك الألم المزدوج بينها وبين الأم، وإن كان من خلال تيمة المذكرات التي تأتي بتاريخ العلاقة من جذورها، فالآخر هنا هو الأم الذي يصبح بديلاً كربونياً من الذات في علاقاتها المتطابقة، وكأن الكاتبة ترى نفسها من جديد في مرآة أمها، ومن خلال استنساخ تلك المشاهد الطفولية التي ارتدت إليها الأم ورأت الكاتبة نفسها فيها طفلة، حين تمارس طقوس وجودها على هامش وجود الأم من خلال ذكرياتها المكتوبة معها على صورة يوميات - تمتع بقدر ما تؤلم - من خلال فلسفتها القائمة على ضبط إيقاع علاقة الوجود والرضوخ للقدر الذي ربما أجبرها على التطهر من خلال ذلك التوحد مع شخصية الأم، والتي تنسال منها تلك الحقائق الدامغة التي ربما أعادتها إلى الصواب!
وهي الأشياء غير قابلة للنسيان التي تخلِّد الكتابة/ الكاتبة من خلالها تلك اللحظات من العلاقات التي راحت ماديتها واندثرت أدراج الرياح، فالبعد التأسيسي من خلال أثر غياب الأب كمشكلة وجودية مؤرقة في رواية (المكان)، متطابقة تماماً مع الواقع النفسي والمادي لشخصية الكاتبة التي تشكلت من خلالها رحلتها الشخصية الإنسانية كما تشكلت مع القلم والكتابة، يعطي صلابة قد لا تعطيها ممارسة الألم على الورق وإعادة إنتاجه في عمل روائي حميمي عن الأم - لا يقل درجة عن سابقه - هذه القوة ولا الصلابة التي تضمن لها استمرارية التعامل مع الواقع بشكله الفاضح، أو بتعريته أكثر من ذلك، ودخوله في معترك فلسفي وجودي صادم دافع للتطهر من خلال العديد من المواقف التي تثير نزعة الضمير الإنساني.
المتخيل السردي وكتابة الذات
يقف المتخيل السردي، موقفا ذاتياً/ متعلقاً بالذات وتفسيرها للواقع من حولها، وهي سمة نفسية تتمثل من خلال الهاجس الذي يدفع البطلة/ الكاتبة إلى اختراق الحجب، لتفسير ما يعنُّ لها من علاقات قائمة أو وهمية مختلقة، وهي تمثل ما ورائية العمل السردي/ الميتا سرد، حيث يأتي المتخيل هنا مكملاً للصورة الذهنية التي تعمل من خلالها على خلخلة الواقع وإشاعة هذه الفوضى الخلاقة في ذهن الكاتبة/ البطلة ليمتد أثره للدخول في حيز إقرار حقيقة لدى المتلقي قد تتوازى مع الوهم القائم من خلال الذات التي تتم من خلالها عملية التخييل/ الاختلاق، وهي سمة نفسية ربما كانت طبيعية في السياق الإنساني المحرك لتلك العلاقات بين الذات والآخر.
وهو ما نجحت الكاتبة في تجسيده في نموذج بارز لها هو رواية (الاحتلال)، حيث يبلغ (التخييل الذاتي) مداه بتلك العلاقة الهلامية الناشئة في الوعي الذاتي الذي يصر على خلق حالة من التخييل تطبع واقع الحياة لتحل محل (الفراغ النفسي) الذي يحدثه ابتعاد ظل الرجل/ تأثير هذا الفقد المرتبط صراحة بالغيرة النسائية شديدة الوطأة (كملمح من ملامح الصراع الجندري) ما يجعلها شديدة الوطأة والضغط على الوعي النفسي الوجودي، والذي ربما انسحب على كل التفاصيل التي ارتبطت بالآخر/ المرأة التي ربما التبست بها الساردة، أو تقمصتها الساردة لدرجة الإحلال مكانها، أو تمني ذلك، وصولاً إلى نشوة مرتجاة وقرب من ذلك النموذج الذكوري المخاتل الواقف خلف أسباب الصراع النفسي.
هذه القرينة النفسية بالغة التعقيد التي تُطرح من خلال عملية التخييل تعمل على إثارة النوازع الباطنة، وتستجلب حالة من حالات الفصام الشخصي التي تجعل من الساردة/ الكاتبة ذلك الوجه الشائه الذي تريد إعادة تجميله من جديد، وهي سمة الكتابة التي تنطبع دائماً كي ترسي حقائق لا يجوز نسيانها، وتكون مهمة الكاتبة وشجاعتها في الحفاظ عليها من النسيان، وهي صور مرتبطة بالواقع أكثر من ارتباطها بالخيال، أو ما يمكن أن نطلق عليه التخييل، أو البعد عن الأزمة باختلاق أزمة أخرى للذات مع تلك الصورة التي ربما اختلفت عن الأصل، وهو ما يؤكد عليه الخطاب الميتاسردي من كونه:
(كتابة نرجسية كما يطلق عليها أحياناً، قائمة على المركزية الذاتية وسبر أغوارها، حيث نلحظ فيها أن الكاتب يعمد لفضح لعبته السردية من خلال التعليق عليها واللعب بأحداثها وتحريك شخوصها).
وهو المنهج الإبداعي الذي ربما توافقت عليه نصوص الكاتبة الروائية، واصطلحت عليه كتابتها.