مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

رسول حمزاتوف.. حروف شاهقة كالجبال

| شيئان في هذه الحياة يستحقان الصراع: وطن حنون، وامرأة رائعة.. |
رسول حمزاتوف

تحتاج كيمياء الشعر إلى كثير من الدقة والانضباط لاكتمال عناصر النص الشعري وتجانسه، وتحتاج في ذات الوقت إلى قدرٍ عالٍ من البساطة والشفافية والخيال لمزج هذه العناصر وتفاعلها لإنتاج مادة آسرة ومؤثّرة، ولن تمتزج الكلمة الصادقة والصورة الناطقة والموسيقى الباذخة، لتغوي الخيال كي يحلّق عالياً للبحث عن أسرار القصيدة ما لم يمتلك المبدع الحواس النابضة بالحساسية والحيوية، والرؤية الثاقبة التي تمكّنه من التقاط اللون والرائحة والطعم بمهارة.
وبهذه الدقة وهذا الوعي، وبتلك الخلطة السحرية كتب رسول حمزاتوف (شاعر داغستان العظيم) أجمل شعره ونثره، ورسم أمانيه وأحلامه منذ بواكير شبابه، وظلّ مثابراً ومخلصاً لحروفه حتى ناهزت أعماله الأربعين كتاباً، فاستمرأها القارئ في كلّ مكان بعد أن تُرجمت إلى لغات عالمية متعددة، ولعلّ أشهرها: (النجوم العالية - عام ولادتي - قلادة السنين - نجم يهمس لآخر - طالما الأرض تدور - وغيرها...)، وبذات الصدق والبساطة والوفاء كتب حمزاتوف ملحمته الخالدة (داغستان بلدي)، فحفظها شعب داغستان عن ظهر قلب، ورتّلها أناشيد في كلّ مناسبة حتى نافست النشيد الوطني، لتعلو في سماء (تسادا) -قريته الجبلية الوادعة-، حيث التقطت أذنا المبدع حمزاتوف أنغام الشعر الأولى في بيته الريفي البسيط، إذ كان أبوه الشاعر يؤجّج مراجل الشعر، ويوقد جذوته الملتهبة ليبثها في فضاء داغستان البارد، حتى تحوّلت حواس الفتى إلى قمم الجبال الشاهقة التي تسيل منها حِمم الأبجدية الملتهبة، فأزهرت كلمات مرصّعة بالألوان البهيجة، وتفوح منها رائحة هيام شهي.
في داغستان -الوطن- أحبّ رسول الأرض والإنسان، وهام بالماء والشجر، وعشِق الطير والسهل والجبل، فأنشد لكلّ هؤلاء أعذب الأشعار، ونثر عشقه في كلّ بقعة من تضاريس محبوبته، وقال مدافعاً عن جنونه هذا: (إنّ الشعراء ليسوا طيوراً مهاجرة، والشعر بدون تربة كشجرة بلا جذور، أو كطائر بلا عش..)، ومن أصدق غنائياته في داغستان قوله:
داغستان، ياملحمتي، كيف لي أن لا أصلّي من أجلك؟!..
أن لا أحبك؟!،
وهل يمكنني أن أطير بعيداً عن سرب الغرانيق في سمائك؟.
داغستان، كل ما أعطاه الناس لي أتقاسمه بالعدل معك،
أوسمتي.. وجوائزي.. وسأعلّقها على قممك.
ولكي يتوارى عن عيون جلاديه، كتب حمزاتوف أدبه بحذر شديد، وهو الذي عاصر الحقبة الماركسية في أوج قوتها، ولكي ينجو من بطش الإيديولوجيا الحاكمة لجأ إلى الأسطورة، واحتمى بالتراث، وهام على وجهه في تضاريس الطبيعة الخلّابة نحو الحرية المطلقة، وهو الأعزل الذي لا يملك سوى قلمه وأوراق بيضاء تتسع لكلّ أحلامه، فخرج من المواجهة مع القبضة الحديدية بأقل الأضرار، إلاّ أنّ حذره لم يمنعه من التنبؤ بطوفان سيجتاح إمبراطورية البطش، وقد أعلن ذلك في قصيدته (رعد) بقوله:
أيا نوح.. عُد خشية أن يدهمنا الطوفان
عليك بناء فلك جديد لإنقاذ الإنسان
ما الذي ينقذ هذي الأرض الغارقة في الأمواج العكرة المسعورة؟!
ومن يعيد الطريق إلى السماء؟
إذن.. لنرفع إلى الله العظيم الضمير والشرف..
يلمس القارئ في شعر حمزاتوف نفحات إيمانية رائعة شربها من ماء داغستان، وتشرّبها من حلقات مساجدها، وضمّها في مكان قصي بين جوانحه، ولم تطفئها الأيديولوجيا رغم القمع، ولم يُخفِتْ وهجها المال، ولا الشهرة، أو الأسفار التي أخذته بعيداً، لأنه -كما يعلنها صريحة- إنما كان يستمدّ إلهامه من القرآن الذي ينير له عالمه، ويتجلّى ذلك في قوله:
أستغرب عندما أقرأ أشعاري،
فأي شاعر أنا.. بالله عليك؟!،
إذا كان نور القرآن لم يغمر روحي بسنائه؟!،
لسبب ما: أنعم الله علينا،
-نحن الجهلة- بنوره الساحر.
ولأنّ رسول كاتب وشاعر إسلامي الروح والهوى، وذو نزعة إنسانية مرهفة، ولم يكن يوماً كاتباً أو شاعراً ماركسياً مخلصاً، فقد كانت قصائده -خاصة- دون نثره تعبق بشذى التوبة والإيمان، وتحمل آهات الندم على عجزه وتقصيره في سنوات الخوف والفوضى، وها هو يعترف بصدق:
أما أنا.. فتعلّمت من المعارف المختلفة
أني كنت أقوم بحماقات
وأرتكب أخطاء موجعة
ولم أراجع دروسي، ولم أفعل ما ينبغي
وقليلاً ما نجحت..
وقال في قصيدة غيرها:
لقد وقعت كثيراً، ولسوف أقع أيضاً
غير أنني أنهض، وأجري، أو أجرّ قدمي
فأنا لا أخشى أن أضلّ الطريق..
ولا يكتمل الحديث عن سمات رسول حمزاتوف دون المرور على حكمته وصبره ومواعظه الرزينة، وهو الذي عاش ثمانين عاماً من العطاء والمثابرة والتأمل، ولم يبخل بحصاد ثقافته وتجاربه وخبراته على قارئه، ولنسمع قوله:
سمعت أنّ ابن سينا
كان يكتب وصفاته للمرضى شعراً،
وسمعت أنّ أورفيوس
كان يشفي المرضى بالموسيقى،
وأنا لست طبيباً أو معالجاً خرافياً
ومع هذا أستطيع أن أقدّم نصيحة شافية إلى الناس:
أحبّوا بعضكم بعضاً بقدر ما تستطيعون.
ومن المهم الإشارة إلى فلسفة الحب لدى حمزاتوف حيث يراه طريقاً لا نهاية لها، وإن كان حبه لزوجته يختلف عن نكهات الحب العبثي، لأنها جزء من عشقه لأرضه ووطنه.. (غالباً مايشبه الحب معركة قضى علينا القدر أن نخسرها تماماً، وفجأة!.. يا للمعجزة، ها نحن نربح القتال، وتصلنا الأخبار فجأة بأننا قد خسرناها تماماً..). أمّا ولعه في كتابة (السونيت)، فهو نابع من اختزال حكمته وخبرته في الحياة لكل مشاهداته، واستدراكه لبعض الصور والأحداث التي تداهمه فجأة، ونقرأ منها:
الأقلّ فائدة من ثمرة غير ناضجة تقطف قبل الأوان؟
هي الثمرة الساقطة على الأرض لتتعفّن ولم تقطف في حينها.
ونختم إضاءتنا على شعر حمزاتوف بالاعتراف له بأنه قد صنع لوطنه داغستان مجداً، ورسم خارطتها في وجدان قارئه أينما كان، وله كبير فضل في حماية تراثها الإنساني عندما أرّخه شعراً ونثراً، وعلّم الإنسان كيف يعشق الحياة، ويهيم في تفاصيلها، وهو الذي رأى الحياة كـ(قصيدة يكتبها الشاعر ليستريح)، وهو ذاته الذي كان يؤمن بأنّ الموت مكافأة جميلة، وينبغي على الإنسان ألاّ يتشبّث بالحياة إذا ما أدّى واجبه، وقال كل ما عنده..
كلّ إنسان سيوافيه أجله
وها هي عربتي تنحدر من فوق القمة،
وأنا أتضرّع إلى الخالق العظيم
أن يشملني برحمته.
إشارة:
رسول حمزاتوف شاعر داغستان عاش ثمانين عاماً (1923-2003م)، وألّف أربعين كتاباً، وُترجمت أعمالة إلى معظم لغات العالم.

ذو صلة