مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

مقاربات حول نصوص خرافية عالمية ظاهرة الاحتفاء بالضئيل مثالاً

تمتاز الحكاية الخرافية بأنها تأتي دون أي ذكر لمكان الحدث أو معلم يدل على مكان حدوثها أو في أي زمان جرت، هذه خاصية مهمة جداً للأدب الخرافي، لجعله نصاً شعبياً عالمياً. وتأتي أهمية دراسة الحكاية الخرافية، ونفض الغبار عنها؛ كونها تعبر عن ثقافة الشعوب، وعن معتقداتها وأفكارها وسلوكها، والتركيبة الاجتماعية والنفسية لذلك المجتمع، ونظرته للكون والخالق الإله.

وهذا يقودنا أحياناً إلى طرح تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الشعوب القديمة تحمل ذات الهم والثقافة، وهل هي ذات مصدر واحد، رغم اختلاف الرقعة الجغرافية؟ ذلك حين نلحظ تكرار بعض المضامين في نصوص حكائية وردت عند شعوب مختلفة.
إذا أردنا أن نقف عند ظاهرة الاحتفاء بالضئيل/ قصير القامة؛ نلاحظ من خلال تتبع بعض النصوص الخرافية أننا أمام ظاهرة تكاد تتكرر في ثقافات متعددة، يفصل بينهما فواصل اجتماعية ودينية وحضارية.
كيف كان هذا الاحتفاء؟
المتتبع لهذا المورث يلحظ الكيفية التي احتفت بها الشعوب بقصير القامة/الضئيل، وذلك من خلال الانتصار له، وجعل له قيمة ثقافية ومكانة اجتماعية، ذلك لما يتمتع به من حكمة وذكاء واستخدامه للعقل واستطاعته القيام بالمهام الصعبة وحل المشكلات إزاء الإخوة الكبار ذوي الجسم القويم أو مصارعة الغول/الغولة (الذي جسد الشر في الموروث الحكائي الشعبي العالمي).
والضئيل كما تقدمه نصوص الموروث الخرافي عبارة عن مخلوق بشري ولد بحجم صغير جداً، لا يتعدى طوله حجم الكف أو الأصبع أحياناً أو طول أذن البعير كما عبرت به خرافات التركمان كما سنرى بعد قليل، حيث احتفت بهذا الكائن البشري لما يناله من السخرية أحياناً أو الاستهانة بقدراته حيناً آخر، بينما يمتاز هذا الضئيل بقوى ذهنية عقلية وبحكمة قد يفتقدها أسوياء الجسم.
فمن تراثنا الخليجي مثلاً (انتيفا انتيفان) هذه القصة تنتشر بشكل كبير على ضفاف حوض الخليج العربي، وقد سمعتها في مدينة القطيف، و(انتيف) هو بطل الحكاية الذي قد عانى ضآلة في جسده وقبحاً في شكله وهيئته، تقول الحكاية باختصار:
يحكى أن امرأة عاقراً قادها التفكير بأن ترقد على أربعة أرغفة، فجاءتها في إحدى المرات جارتها التي قادها فضولها إلى أن تطلب منها عمل القهوة، فلما رأت الأرغفة قامت وأكلت من أحد الأقراص قطعة، ومع الوقت اكتست هذه الأرغفة لحماً ودماً وصاروا رجالاً إلا واحداً أصبح ضئيل الجسم وقبيح المنظر، وبعد سنين انطلق الإخوة للبحث عن الكنز، رافضين أن يكون معهم انتيف، ركبوا الخيول وانطلقوا بينما ركب انتيف انتيفان تيساً ولحق بهم، وكان التيس يمثل الأداة السحرية للبطل، وهذا هو دأب الحكاية الخرافية، حيث يكون للبطل أداة سحرية، لكنّ انتيف هو من ذلل لهم الصعاب أثناء رحلتهم بحنكته وحكمته وأداته السحرية.
وتقدم هذه الخرافة مثالاً للذي يُطلب عند الحاجة رغم الإقلال من قيمته والسخرية من مظهره وضآلته، فيحضر لهم ويذلل لهم الصعاب، ويحل لهم المشكلات.
وفي التراث الفرنسي حكاية (عقلة الأصبع)، وهي تشابه حكاية انتيفان في بنيتها وفي تسلسلها باختلاف بعض الموضوعات.
ويقدم لنا الأخوان غريم حكاية عن (الثلاثة الأقزام) الذين قدموا المساعدة للفتاة التي أرغمتها زوجة أبيها على الخروج في البرد والصقيع والبحث عن نبتة الفريز نظير حسن أدبها معهم ومقاسمتهم للخبز الذي كان معها رغم كونه يابساً.. وغيرها من الحكايات.
كما يرويان لنا أيضاً حكاية أخرى عن القزمين اللذين كانا يأتيان ليلاً، وبعد أن ينام الحذّاء يساعدانه في صنع الأحذية، إذ لم يكن يملك من الجلد ما يكفي إلا لصنع فردة حذاء واحدة، وهكذا كانا يأتيان كل ليلة دون علمه والحذّاء في كل يوم يزداد بيعاً للأحذية، وبفضل القزمين أصبح الحذاء وزوجته أغنياء حتى قررا السهر في ليلة عيد الميلاد ليعرفا من يساعدهما ليتعرفا عليهما.
وقد روى لنا عبده خال حكاية خرافية وهي أبناء العجينة (المنتوف)، وهي تتقارب كثيراً مع خرافة انتيفان في هيكلها العام، بينما البطل المنتوف مع إخوته كانوا أبناء ملك وجدهم ملك، حيث قتل ابن الوزير جدهم لأمهم الأميرة وتسلم الملك.
وفي الموروث الحكائي العراقي نجد حكاية (القزم الذي طوله شبر وطول لحيته أربعون شبر)، حيث فشل أخوه الأكبر في استرداد أموال أبيه من الدائن، فاستأذن من أبيه للذهاب إلى (الديو) وهو اسم الدائن، رغم أن والده رفض طلبه إلا أنه لم يستمع لكلامه وانطلق مع كلبه الذي طوله نصف شبر، وكان هذا الكلب هو الأداة السحرية التي امتلكها، إذ أعانه كثيراً على استرداد أموال أبيه.
ويحفل الأدب الشعبي التركماني بشخصية يرطة بولاق الذي لا يتعدى حجمه نصف أذن البعير، فنجده في أكثر من حكاية خرافية كيف تخلص من الحفرة التي وقع فيها، وتارة كيف يخلص الحسناء ذات الصوت الحسن من محمد خان الذي كان يريد الزواج منها عبر خطة ذكية، وتارة نجده في حكاية أخرى كيف أقنع الرجل العجوز أن يصبح ابناً له رغم حجمه الصغير، وأنه ذو فائدة. كما يحدثنا يرطة بولاق ويسوق على لسانه الحكم منها مثلاً: (إن الماس أيضاً صغير ولكن الماسة الواحدة تساوي من حيث الثمن مئة بعير كبير).
هذه النصوص تسير في خط موازٍ، وتنتهي عند نقطة ونهاية واحدة، وهي الغلبة لصاحب الجسم الضئيل المتمثلة في غلبة العقل والحكمة على الكمال الجسدي وقوته، فنجده حيناً في نهاية الحكاية يتزوج ابنة الملك أو يصبح ملكاً، وحيناً آخر ينقذ الأسرة أو القرية من شر الغول. هذه النصوص كما رأينا أنها تقع في مواقع جغرافية مختلفة لكن القيمة الفكرية والاجتماعية تتكرر بشكل ملحوظ وكأن البيئة واحدة والشعب واحد.
وهذا ما نجده في النصوص الحكائية التي انتصرت للأخ الأصغر لتقدم لنا ذات المضامين الاجتماعية في تقديم الأخ الأصغر بما يملكه من الخبرة والإتقان.
منشأ التشابه
أدى هذا التشابه والتكرار في المضامين إلى سجال بين دارسي الأدب الشعبي والميثولوجيين وانقسامهم إلى مدرستين، القسم الأول يقول: إن هذه الحكايات إنما كان ذات مصدر تاريخي واحد وتناقلتها الشعوب فيما بينها من خلال الاتصال الحضاري، وهذا ما ذهب إليه العالم الفلكلوري فلادمير بروب، حيث يرجع أصل الحكايات إلى مصدر مشترك وهي الهند، إذ اكتشف أن الحكايات الخرافية تأتي وفق نظم معينة لا تخلو منها الحكايات الخرافية وتسير عليها بشكل دقيق ومدهش، حيث اكتشف أن الحكايات الخرافية تحتوي على واحد وثلاثين وظيفة، ولا تفرق بين حكاية من بيئة عن بيئة حضارية أخرى في بنيتها، وقد تأثر بهذا المنهج البنيوي كذلك غريماس إلا أنه قلل من الوحدات الوظيفة إلى عشرين وظيفة.
أما القسم الآخر من الميثولوجيين فيرون أن سر تكرر الحكايات في موضوعاتها ومضامينها إنما هي إنتاج محلي، وذلك لتشابه العقل البشري في خبراته وتساؤلاته عن الكون وحاجته في الحفاظ على الأخلاق الإنسانية والنظام الاجتماعي، فهذه حاجة ماسة لكل الشعوب، والمشاكل التي تواجهها الشعوب واحدة، ولهذا تنشأ الحكايات، مستخدماً الإنسان فيها لغته وتفكيره وثقافته التي تعتبر شاهدة وإرثاً لتلك الحقب القديمة. يقول الباحث: جوزيف بيلي: (إن كل حكاية أو نموذج لحكاية يمكن أن يؤلف ويعاد تأليفه من جديد مئات المرات، في أزمنة وأمكنة مختلفة، وإن التشابه الذي يلاحظ بين حكايات بلاد مختلفة، ما هو إلا نتيجة لتشابه العوامل الخلاقة للعقل البشري).
ومن أولئك الباحثان الأخوان غريم لتشابه الحكايات في مضامينها في نظرهما، وإن اختلفت في أحداثها، ولكن البنية تتقارب مع بعضها، وكانا قد جمعا الحكايات بهدف معرفة اللغة الروسية القديمة ومقارنتها باللغة الروسية الحديثة، وهذا مما يدلل على أهمية الموروث الحكائي الشعبي لمعرفة لغة الشعوب إلى جانب العلوم الإنسانية الأخرى كعلم الاجتماع والنفس.. وغيرها من العلوم. وعلى ذلك فإن الحكايات الخرافية بحسب أصحاب هذا الرأي ليس بالضرورة أن تكون جاءت من مصدر واحد، بل نشأت من داخل المجتمع.
من منشئ هذه الحكايات؟
بالعودة لشخصية ضئيل الجسم يتكرر سؤال خطير، وهو: هل عاشت في هذه الشعوب شخصيات ضئيلة؟ ولماذا اختارت هذه الشخصية وتكررت بشكل لافت ومدهش في عدة حضارات؟ لماذا تصرّ الشعوب على جعلها ضمن ثقافتها، فإن أي شعب حين يتقبل نصاً شعبياً أو خرافياً ويتلقفه عبر ألسنة الرواة إلا لأنه اندمج مع فكره وروحه، وراح يرويه مشافهة جيلاً بعد جيل، مما يجعل مثل هذه الحكايات تنشأ لإيصال مضامين اجتماعية وإنسانية لتلك الشعوب، سواء اعتبرنا أنه أنشأها من خياله أو شوهدت مثل هذه الأصناف، ولا يستبعد أنها شوهدت، ففي حياتنا الآن يولد لدينا مواليد بضآلة في الجسم ولكننا نلاحظ فيهم إبداعهم وتغلبهم على الصعاب، وهنا نشعر أن هذه النصوص أنشئت لتعبر عن القيمة الاجتماعية لهذه الفئة في تغلبهم على الإنسان المكتمل جسداً بالحكمة والعقل والإبداع.
فالإنسان ذو الجسم الضئيل الذي اختلف عن بقية البشر في شكل جسمه أو في خلقته لديه رسائل وقيم يراد منه بثها في المجتمع الإنساني، ولذلك فإن من المحتمل أن منشئ هذه الحكاية هو الإنسان الضئيل (أو الأخ الصغير)، حيث أراد تمرير فكرته عبر الحكاية لجعلها ثقافة وقانوناً اجتماعياً ينظر من خلالها على أنه ذو فائدة، ويمكنه أن يقوم بعمل أشياء لم يستطع فعلها ذوو الأجسام القويمة، فالاحتكام يكون للعقل والحكمة والأخلاق، لا الصفات الجسدية القويمة فقط، وذلك عبر إنتاج النصوص الحكائية التي كانت محبذة للمتلقين الجماعة. وثمة احتمال آخر وهو أن القائل، قد يكون شخصاً، سواء أكان رجلاً أم امرأة، يمتاز بالحكمة والنضج ومحبة الخير للمجتمع، محاولاً الحفاظ على نسيجه من أن تصيبه ثغرة، فيبث تلك القيم الأخلاقية والاجتماعية في قالب حكائي للإمتاع من جهة ولتقديم قيم تربوية واجتماعية تضامنية من جهة أخرى.
فقائل الحكاية بحسب الاحتمالين كان يسعى لفرض قانون اجتماعي، ويؤطر علاقاته لجعلها أكثر نضجاً وانسجاماً ومتساوية في التعاطي فيما بينها، بداية من الأسرة التي هي لبنة المجتمع وإلى جميع أطيافه، وحتى علاقة الملك مع الرعية. يقول عالم الأساطير الأمريكي جوزيف: (الذي اخترع الأسطورة هو في الأصل إنسان عبقري ومحب جداً لقومه، لكنه لم يكن يملك القوة لفرض القانون ففرضه من خلال الأسطورة).
وظاهرة الاحتفاء بالضئيل ليست ببعيدة عن زمننا الحاضر، ففي كل فترة نقرأ أو نشاهد في قنوات التواصل عن ذوي الضآلة كيف تجاوزوا قصورهم الجسدي ليحققوا طموحاتهم، ففي إحدى المرات احتفى العالم برجل فلبيني ولد بجسم ضئيل جداً لكنه تحدى كل العوامل وحقق ذاته حيث اشتغل في الطب، ومنذ فترة طالعت فيلماً وثائقياً يسجل حياة فتاة هندية اسمها جيوتي أمجي يصل طولها 62.8 سم، ولدت وكانت تعاني ضآلة في جسدها، ولكن ذلك لم يعقها أن تصبح مطربة مشهورة.
إذن فالحكايات والأساطير التي كان ينظر إليها على أنها نصوص للأطفال وللسذج من الناس ما هي إلا ميراث الشعوب وديوان الأمم، كما كان ينظر للشعر في مراحله التاريخية بأنه ديوان العرب، فإن الحكايات تقدم لنا هذه الشعوب على أنها ذات فكر صافٍ لا يشوبه الانحراف، ولا نجد في الحكايات الخرافية والشعبية إلا انتصاراً للخير ضد الشر، وهي عبر التاريخ ظلت ترافق الإنسانية، تسجل حياته، وما كان يواجهه من مصائب ومتاعب، وكيف كان ينظر إنسان ذلك العصر للكون؟ وما هي تصوراته الدينية والثقافية؟ وما هي لغته التي يسجل فيها تساؤلاته الكونية وما يشاهده من ظواهر؟ فالعالم يدين للمكتشفات من الأساطير التي لولاها لما وصلنا خبر عن حياة تلك الحقب الموغلة في القدم كأسطورة جلجامش وأسطورة الإلياذة والأوديسة وأساطير اليونان والأساطير الفرعونية عبر المكتشفات الحجرية من نقوش وأحجار وأحافير وغيرها.

ذو صلة