مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الرحلة اللحنية في الغناء العربي

الغناء يعتمد بشكل كامل على نوعية اللحن وفكرة الملحن، فالأغنية العربية كانت تقوم على قدرة الملحن في الوصول بالمستمع إلى النشوة الطربية التي يرجوها من سماع الأغنية، وذلك بناء على قدرات المطرب الصوتية، وعلى الارتجال بالتنقل بين المقامات والإعادة، وذلك بالرغم من وجود لحن محدد بنوتة موسيقية، إلا إنه في أغلب الحالات يقوم المطرب بالارتجال والإعادة اعتماداً على المناسبة وحالة الجمهور وتفاعله والحالة الأدائية للمطرب.
كان المطرب يغني بعد سلسلة من التمهيدات الموسيقية، تبدأ عادة بأحد القوالب الموسيقية التركية، وهو (السماعي)، وبانتهاء تقديم السماعي الذي يستغرق نحو 10 دقائق يقوم كل عازف في التخت لمدة 10 دقائق أخرى بأداء بعض التقاسيم المنفردة على آلته الموسيقية من نفس المقام الموسيقي الذي مهد له السماعي، ثم يبدأ المطرب بالتمهيد لنفسه بأداء موال يستفرد به عضلات صوته وينهيه بتكوين قفلة تثير إعجاب المستمعين وتشد انتباههم، وعندها يبدأ في الغناء لنصف ساعة أو أكثر، وهكذا ينهي وصلته الغنائية.
حتى بدأ أسلوب جديد بالتلحين وهو التلحين التعبيري الذي بدأ على يد سيد درويش، ونما وازدهر على يد محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وبقية العمالقة، وبدرجة أقل الشيخ زكريا أحمد الذي ظلّ متمسكاً بالمدرسة التطريبية بأسلوبه الشرقي التطريبي الذي لا مثيل له.
وقد كان هدف الموسيقى العربية قبل سيد درويش الطرب والتسلية فقط، ولكنه جعل منها رسالة أكبر حتى أصبح الغناء يطغى عليه الإحساس والشعور بالكلمات التي تُنطق، وأصبح التلحين يعتمد على توصيل المعنى والشعور الذي يحتويه النص، فصار التعبير عن معاني اللغة هو هدف الملحن في الأسلوب التعبيري أو كما تسمى (المدرسة التعبيرية).
وكما قال سيد درويش: (إن الموسيقى لغة عالمية، ونحن نخطئ عندما نحاول أن نصبغها بصبغة محلية، يجب أن يستمع الرجل اليوناني والرجل الفرنسي والرجل الذي يعيش في غابات أواسط أفريقيا إلى الموسيقى العربية فيفهم الموضوع الموسيقي ويتصور معانيه ويدرك ألغازه).
إن الموسيقى أبلغ من الكلمات، ‏وقد تكون أكثر إلهاماً من كلّ الحِكم والفلسفة، فهي لغة يستشعرها الجميع بشكل متفاوت، ويختلف استشعارها بحسب ثقافة المستمع الموسيقية وقدرة استيعابه وقوة الملاحظة لديه.
لقد اهتم عمالقة التلحين بالمتطلب اللحني، وإن طالت المدة الزمنية لأعمالهم. فهم يهتمون بأدق التفاصيل، وهذه التفاصيل الدقيقة يصعب استشعارها وملاحظتها دون تطوير مهارة الاستماع، فهذه الألحان لا ينبغي السماع ولا الاستماع لها ولكن يجب عليك الإنصات والتركيز وتفريغ جميع حواسك للعيش في اللحن.
إن إيصال المعنى لا يقتصر على تلحين النص فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تأليف الموسيقى بحيث تكون معبرة على المعنى المراد توصيله.
على سبيل المثال وليس الحصر المقدمة الموسيقية للأغنية التي قد يراها الكثيرون الأعظم في تاريخ الموسيقى العربية، وهي قصيدة إبراهيم ناجي الرائعة الأطلال التي قام بتلحينها الموسيقار العبقري رياض السنباطي، وشدت بها سيدة الفن العربي أم كلثوم.
في البداية الدخول الواضح لآلة التشيلو -النغمة غليظة- برفقة الكمان -النغمة الحادة- وكأنهما حبيبان يتذكران، ثم دخول القانون بنفس اللحن واصفاً الفؤاد وخفقانه عند تذكره للهوى، ثم يتغير اللحن لأن الواقع تغير، فالهوى أصبح من الذكرى فقط. مرة أخرى تعود آلة التشيلو والكمان في تصاعد لحني يصف تصاعد العواطف في تلك القصة التي ستنتهي فجأة مع نقْف الكمان، حيث يطرح القانون السؤال: أين الهوى؟ ثم يتخافض اللحن العام دلالة على ضياع ذلك الهوى (من تحليل المقدمة الموسيقية من برنامج نهج الأغاني للدكتور سعدالله آغا القلعة).
هكذا كانت الألحان في ذلك الزمن، تعزز لديك القدرة على التأمل والتفكر، حيث كل النقرات على الأوتار والضربات على الطبول لها هدف، ولها معنى عميق يلقي بظلاله على روحك دون أن تدرك.

ذو صلة