مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

أدفارت مونك صاحب الصرخة والفنان المسكون بالهواجس

| في الليل جلست وحيداً، وشعرت كيف يمكن لصرخة مليئة بالألم أن تمر على العالم المنسي. |
أدفارت مونك


كان مرض السل واسع الانتشار في كريستيانيا الاسم القديم لأوسلو عاصمة النرويج وبخاصة بين الفقراء والمناطق المزدحمة، في عرض الفيلم الدرامي التوثيقي الذي يعود للعام 1974 م ومدته 174 دقيقة، عن حياة الفنان التعبيري النرويجي أدفارت مونك المولود في 12 ديسمبر عام 1863م في لوتن، من تأليف وسيناريو وإخراج المخرج الإنجليزي بيتر واتكينز والذي يقوم بالتعليق الصوتي أيضاً.
 وهناك لحظات تتحدث فيها الشخصيات مباشرة إلى الكاميرا وكأن اللقاء حي يتحدثون فيه عن آرائهم بمونش، كما توجد بعض الحوارات المرتجلة من الممثلين وبخاصة في بداية تكوين مجموعة البوهيميين والحالة العدائية التي كانوا يستقبلون بها أعمال ولوحات مونش مستخدماً المخرج النرويجيين الكارهين للوحات فعلاً، وتم إعادة تمثيل المشاهد من حياة مونش بطاقم كبير (معظمهم من الممثلين النرويجيين غير المحترفين)، بيتر واتكينز قام به جير وستباي، إدوارد مونش وقام بأداء الشخصية الفنان فرو هايبرج، والدور النسائي لغرو فراس قامت به الفنانة جرو جارتو، والفيلم الذي تم إنشاؤه في الأصل كمسلسل صغير من ثلاثة أجزاء تم إنتاجه بشكل مشترك مع شبكات التلفزيون لكنه حصل لاحقاً على إصدار مسرحي أمريكي في نسخة مدتها ثلاث ساعات عام 1976م، ويغطي الفيلم حوالي ثلاثين عاماً من حياة مونش مع التركيز على المؤثرات التي شكلت فنه، وبخاصة انتشار المرض والوفاة في عائلته وعلاقة الشباب بامرأة متزوجة، عرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي عام 1976م، ولكنه لم يدخل المنافسة الرئيسية.
كان إدفارد مونك حسب النطق النرويجي الابن الثاني من بين خمسة أبناء لعائلة مسيحية متشددة، والده طبيب بالجيش زرع في نفس الصغير إدوارد بذور القلق الديني، انتقل مع عائلته إلى مدينة أوسلو عام 1864م حيث توفيت والدته لورا كاترين بيوستالد بعد أربع سنوات من معاناتها مع مرض السل عندما كان عمره خمس سنوات ثم تبعتها أخته التي لم تكمل عامها الرابع عشر، وعندما بلغ عمره الخامسة والعشرين مات والده، ثم أصيبت أخته الأخرى بالجنون لتودع إحدى المصحات العقلية.
يصور لنا الفيلم أحداثاً تاريخية متتابعة ففي عام 1884 كانت لا توجد في كريستيانيا سوى المقاهي وقاعات الموسيقى، ولكن دون وجود للأوبرا ولا الباليه ولا أكاديمية للفن، وكانت الطبقة الحاكمة هي الطبقة الوسطى ال بورجر شكاب متحفظة سياسياً وبروتستانتية عقائدياً، والطريق الرئيسي كارل يوهان في الصيف إذا كان الطقس يسمح لتجمع الطبقة المتوسطة من سكان المدينة للتنزه بشكل يومي لمدة ساعة تقريباً يبدأ في حوالي الثانية بعد الظهر بمصاحبة موسيقى عسكرية، والنظام الاجتماعي الذي تدعمه العاصمة يتواجد بميزانية وطنية تقدر بمبلغ 41٫6 مليون كرون بموجب قانون جنائي يرجع تاريخه لعام 1840م ليس له أي فائدة على المرض ولا تأمين الشيخوخة في الوقت الذي شرعت الدعارة المنظمة خصيصاً للطبقة الوسطى، مع محاولة إصلاح وتقنين عمل الأطفال في المصانع.
فيما بعد، قرّر مونك أن يصبح رسّاماً، فاستأجر (ستوديو) في الحيّ البوهيمي من أوسلو. في الوقت الذي قرر أخوه بيتر أندراوس مونك متابعة دروسه ليكون طبيباً، بدأ الرسم عام 1879 خلال السنوات الأربع التالية بحوالي 12 لوحة معظمها مناظر للريف قرب منزله وصور وجوه العائلة قبل أن يقع تحت تأثير هانس غيفر، وهو قائد بوهيميي كريستيانيا وكانت له علاقات في أحد الأوساط المتطرفة، والتي يمكن القول إنها أثرت على أعمال مونك الفنية بشكل كبير، فتأثر مونك بأهمية التعبير عن (الذات)، رغم أن معظم اللوحات التي عرضت في معارض بالنرويج، أو ألمانيا والسويد وغيرها، قد تم رفضها باعتبارها إما مسودة أو أعمالاً وصفها النقاد بالوحشية وانحطاط التعبير، بل وصل الأمر للبعض أن يأمروه بإزالة ما أسموه لطخات مونك الفوضوية والقمامة التي لا تنتهي.
بعد عودة كبار الفنانين النرويجيين من أوروبا أنشأ البعض منهم أكاديميات غير رسمية منهم كريستيان كروهغ، ولوحاته التي تعلن عن قلق مباشر في الحياة، و(فرتيز ثولو) رائد رسامي المذهب الطبيعي وأعماله تعكس المدرسة النرويجية المتعارضة للفن، وآخرون مثل: (جيرهارد مونته)، و(كريستيان سكريد سفيغ)، و(هانز هايردل)، و(إيريك ويرنسكيولد)، و(هاربيت باكر) ويميلون للتعبير عن الشعور بالريف وبالناس، في مايو 1885 يزور باريس لأول مرة في حياته ويرى الفن الكلاسيكي الكامل وجهاً لوجه، ويرى (فالسكويز)، و(ريمبرانت)، و(مانيه) وبعد ثلاثة أسابيع يعود للنرويج، وبعد فترة يأخذ قارباً يحمل عائلته إلى قرية بونا الصغيرة أسفل مضيق كريستيانيا ويلتقي بفتاة جارة وتنتظر منه أن يقوم بزيارتها، وفي مذكراته يشير إلى هذه المرأة بالسيدة (هيبرغ) وهذا ليس اسمها الحقيقي، متزوجة ودون أطفال وترتبط معه في علاقة تنتهي بتجربة سيئة ظلت تطارده في كل المتخيل والمشاهد التي يحاول تجسيدها في أعماله.
وعن أعمال النرويجي أدوارد مونش تعد لوحة الصرخة 1893 أشهر لوحاته وبيعت مقابل ما يزيد عن 119 مليون دولار أمريكي عام 2012، مسجلة رقماً قياسياً جديداً، كانت من بين سلسلة لوحات سماها الفنان باسم (إفريز الحياة)، حيث طغت عليها مواضيع الحب والحياة، والخوف، والموت والكآبة كما هو الحال مع معظم أعماله الأخرى، أصدر أكثر من نسخة من لوحة الصرخة الأولى سرقت في عام 1994م، والأخرى في عام 2004م، وقد تم استعادتهما. مواضيع (إفريز الحياة) طغت أيضاً على معظم أعمال مونك الأخرى، مثل:
(الطفل
المريض)،
و(مصاص
الدماء)، و(الرماد)،
و(الجسر).
وقد كتب مونك في ما بعد في مذكّراته يقول: كانت عوامل الخوف والندم والموت تحفّ بي منذ أن ولدت ولم تكف عن مطاردتي طوال حياتي. كانت تقف إلى جانبي عندما أغلق عيني وتهدّدني بالموت والجحيم وباللعنة الأبدية. كان إدفارد شخصاً قلقاً ومسكوناً بالهواجس والأفكار المؤرّقة.
الصرخة
وترمز اللوحة إلى ذروة القلق، أي إلى النقطة النهائية لانكسار الروح. في النسخة الثانية من اللوحة، وهي التي أصبحت مشهورة جدّاً فيما بعد والتي تُقدّر قيمتها اليوم بأربعين مليون جنيه إسترليني، اختار مونك أن يرسم الشخص ذا الوجه الطفولي والذي لا يبدو إن كان رجلاً أو امرأة واقفاً أمام طبيعة تهتزّ بعنف وهو يحدّق في الناظر، فيما يطبق بيديه على رأسه الشبيه بالجمجمة ويفتح فمه بذهول ويأس.
وقد كتب إدفارد مونك في مذكّراته شارحاً ملابسات رسمه لهذه اللوحة: كنت أمشي في الطريق بصحبة صديقين. وكانت الشمس تميل نحو الغروب عندما غمرني شعور بالكآبة. وفجأة تحوّلت السماء إلى لون أحمر بلون الدم. توقفت وأسندت ظهري إلى القضبان الحديدية من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب. واصل الصديقان مشيهما ووقفت هناك أرتجف من شدّة الخوف الذي لا أدري سببه أو مصدره. وفجأة سمعت صوت صرخة عظيمة تردّد صداها طويلاً في أرجاء المكان. وقد ظهرت حكايات عديدة تحاول تفسير ما حدث لمونك في تلك الليلة المشهودة. بعض المحلّلين استوقفهم بشكل خاصّ منظر السماء في اللوحة وقالوا إن هالة ما أو غسقاً بركانياً قد يكون صَبَغ السماء والغيوم باللون القرمزي في ذلك المساء. ويحتمل أن يكون ذلك المشهد قد ترك تأثيراً انفعالياً دراماتيكياً على مونك.
في 22 أغسطس 2004 اقتحم أربعة لصوص متحف مونك في أوسلو وقاموا بسرقة النسخة الرابعة للوحة الصرخة وأعمال أخرى من ضمنها لوحة مادونا من أعمال مونك أيضاً وثلاث لوحات لرمبرانت. وفي سبتمبر 2006 نجحت الشرطة النرويجية في استعادة اللوحات المسروقة.
كانت نفس النسخة من اللوحة قد سرقت لفترة قصيرة في عام 1994 واستعيدت بعد ثلاثة أشهر دون أن يلحق بها أية أضرار.
يعيش مونك حياة ألم وعزلة ومرض تفاقم بسبب التدخين والكحول وتسلط الصحافة المتحفظة المستمرة في انتقاد أعماله للدرجة التي جعلته يكتب بنفسه على قماش اللوحة في سماء الصرخة الحمراء (لم تكن ترسم اللوحة إلا من قبل رجل مجنون)، مونك الذي تأثر بالروائي الروسي الكبيرديستوفيسكي. وقد قال لأحد أصدقائه ذات مرّة: لم يظهر من الرسّامين بعد من استطاع النفاذ إلى العوالم الموسيقية للروح والميتافيزيقيا واللاوعي بمثل ما فعل دستويفسكي في الرواية. كان واضحاً أن مونك يريد أن يرسم الروح. وفي عام 1890، رسم سلسلة لوحاته المشهورة «دوامّة الحياة» التي يصوّر فيها قصّة نموذجية لرجل وامرأة ينتقلان خلالها من الحبّ والعاطفة إلى الغيرة والحزن ثم أخيراً إلى القلق فالموت.
وبعد لوحته القلق يعلن أن الفرد في قبضة شيء أبعد من سيطرته وبعد تحول إلى حفر الكليشيهات واستخدام الحمض ليستحوذ على الصورة وقاعدة من مسحوق الراتنج المطبوخ لإعطاء بنية إضافية، ومع الضغوط النفسية التي يتعرض لها، يضع نفسه في عيادة نفسية في كوبنهاجن من عام 1908م في نفس الوقت الذي يتم فيه إعلامه بأنه قد تم جعله فارساً (جائزة نرويجية لنظام سانت أولاف الملكي النرويجي)، وكانت الوفاة في 23 يناير 1944 عن 80 عاماً بأوسلو بالنرويج.

ذو صلة