مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

جلال خوري في ذكراه الثالثة

جلال خوري في ذكرى غيابه الثالثة، رحيل لا بعد أن ضاق به المسرح ولا بعد أن ضاقت به الحياة. مات الرجل فجأة في الرابع من شهر كانون الأول العام 2017. لا مرض ولا عجز ولا اكتهال. بقي الرجل شاباً حتى الأيام الأخيرة هو المؤمن بالطب اللاتقليدي، الطب الهندي تحديداً. صادق أحد الأطباء الهنود في بيروت، طبيب يفر العقرب من نظراته، لأن العقرب يعرف أن لا مفر من الشفاء مع ما يخفق به هذا العالم العليم. اعتمد الماركسي/ الليليني الطب الهندي. نصح بالطبيب والطب الهندي دائماً. آمن بطبه، كما آمن بموت الحضارة الغربية. ولأن المسرح جزء من الحضارة الغربية، مات المسرح بموت مولده الرئيس.
لم يخفق بالأشهر الأخيرة إلا بالكلام على المسرح في ذهابه وإيابه، حين وجد أن عالم المسرح أضحى دغلاً لم يهم بالحشرجة لأنه وقع فيها. أصبح جلال خوري عائقاً أمام المسرح، والمسرح عائقاً أمام جلال خوري.
لم يعد يؤنسه، كما فعل على الدوام، منذ أن رسم الإخراج لمسرحية (يا ظريف أنا كيف)، فودفيل قدمت في واحد من مسارح مدينة جونية على الساحل اللبناني. ذلك أن إخراجه المسرحية تزامن وإخراجه لواحدة من أشد المسرحيات إشكالية بتاريخ المسرح اللبناني (بونسيون الست نعيمة) (قدمت على مسرح الجان دارك، في منطقة الحمراء في بيروت الغربية). هكذا، حين وجد أن لديه مسندان اختار مسند الفودفيل، حتى رحنا نتعجل الخطى على طريق الساحل البحري، مع كاتب المسرحية أسامة العارف، ليداوم في كواليس مسرحية تروي حكاية الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال مدينة بيروت، حيث يكشف النص أن ثمة جندياً إسرائيلياً شاباً، يبحث عن والده البيروتي المسلم في المنطقة المحتلة. مذاك راح يرقص أمام أشباح المسرح لا أمام ضحكات المشتغلين في المسارح الضالعة في تقاسيم السفر بين مرحلة ومرحلة وبين حقبة وحقبة. إذاك، وجد مكسراته المالحة في التعليم، حيث ترأس قسم المسرح في الجامعة اليسوعية في بيروت. التعليم وصيته الأخيرة، بعد أن زرع أبرز معاونيه في الجامعة، لكي يعملوا على عمى التلاميذ الجدد في خطوهم على نصف قدم إلى عالم المسرح.
لم يترك جلال خوري لا دفاتر ولا مذكرات للمسرحيبن وطلاب المسرح والمهتمين بالمسرح منذ هبوبه الفاجع في ستينات القرن العشرين. إلا أن هؤلاء جميعهم يعلمون أن خوري أحد كبار المسرح المعاصر في لبنان (المسرح الثقافي)، حين ساهم بلا جدال في رفع الفن هذا فوق التعقيدات المفهومية، ليحضر في حياة اللبنانيين دون اعتراض. بغياب جلال خوري يغيب ضلع من أضلاع التأسيس. منير أبو دبس أولاً. ثم، انطوان ولطيفة ملتقى وروجيه عساف ويعقوب الشدراوي وشكيب خوري وبيرج فازليان ونضال الأشقر وأنطوان كرباج. أحدهم جلال خوري. الأخير من جماعة (مدرسة الآداب الفرنسية) على طريق الشام في بيروت. مجموعة مشكلة من خلاءات الثقافة الفرانكوفونية. إذا وجد هؤلاء بالثقافة هذه عاج البلاد. بعد العام 1967، بعد هزيمة العام 1967، وجد المسرحيون أن لا حظ لهم بالتواجد في نسغ الحياة اليومية بشرب القهوة على شرفة اللغة الأساس، لغة العموم المحلي. آنذاك، وجدوا أن الفرانكوفونية مملكة سوداء وأن لا بد من العمل على اللبنانية المحكية، حتى يطحنوا حنطة المسرح في حنطة الناس، لا بعيداً عنها.
هكذا، خرجوا من دورانهم على ضباب الفرانكوفونية واللغة الفصحى إلى التعطر بلغة (الجمهور). الأخير هم الناس/العامة لا نخب ساهمت في فتح أقفال الصمت على المسرح في مرحلة نشوئه. تجربة جلال خوري واحدة من التجارب الأكثر حسماً. لأنها تجربة أيديولوجية على صعيد اللغة وعلى الصعيد الجمالي الإستيتيكي. حيث وجد أن لا شيء خارج المفهوم/ العقيدة. لا شيء خارج مسرح بريشت والتغريب الأنتي أرسطي. مسرح لا تغلب عليه طبائع العلبة الإيطالية ولا هندستها. ولا يغلب عليه تغريب اللغة، بعد أن وجد منير أبو دبس أن اللغة العربية لغة مُغربة. مسرح لا يشوش على المشاهد لا بالشكل ولا بالصورة ولا بتخليق وتلفيق المواضيع. مسرح كحلبة الملاكمة، يشرب فيه المشاهد ويدخن وهو على مسافة من الأحداث المسرحية. المسرحي الحقيقي عنده هو المسرحي الماركسي، من يوتر الجمهور لا من يرجمه. علاقته بالماركسية لا من آفاقها الفكرية المفتوحة بالكتب والمراجع والأحزاب، من رفاق الوالد (رفاق بالحزب الشيوعي اللبناني) المختبئين من عسف السلطات اللبنانية في محترف خياطة والده في منطقة الأشرفية. ماركسية رجال قذفوا النظام بالتفجر. ماركسيو نخب. مثقفون عضويون. مثقفو طبقات برجوازية وأريستقراطية، يمد أحدهم الآخر بصداه، وسط صراع الطبقات. مثقفو عبور محاصر بالصفات إلى البروليتاريا والبروليتاريا الرثة. مفارقة مدهشة.
لم يستطع جلال خوري هجر الماركسية مذاك. وجدها كأغراس الزيتون بذاته، بروحه. ثم، تعزز حضور الماركسية بالشاب ذي الهوى الماركسي حين تحصل على منحة للدراسة في ألمانيا الشرقية أو ألمانيا الشيوعية بأيام الألمانيتين (عبر صحيفة الأوريون لوجور الفرانكوفونية - تصدر بالفرنسية). هناك، تسنى له أن يذعن تماماً لما شاهده وعاينه في البرلينر إنسامبل. أو مسرح برتولد بريشت وهيلينا فايغل. لينين المسرح وكروبسكايا المسرح (زوجة لينين). وجد الرجل في بيروت بعد ذلك، كمنتم لا منشق، مقلداً بصرامة كل ما هو حاسم بمسرح بريشت. أو مسرح بريشت. لأن مسرح المسرحي الألماني الشهير مسرح حارة واحدة لا شوارع وزواريب. شرشف واحد إما أن تفرشه وإما أن تشحطه عن الطاولة.
وجد جلال خوري غبطته في مسرح بريشت من خلال فكر المنظر المسرحي، من أوجد فكره المسرحي في (الأورغانون الصغير). كتيب لا كتاب، وجد كالدم في شرايين الكثير من المسرحيين بلبنان والعالم العربي. لم يشف جلال خوري من حب بريشت منذ أن زار مسرحه. تصعلك فيه بعد أن وجد صاحبه بحجم نيزك. وجد نفسه في عجيج نجومه العلية غير المتآكلة، من خلال فكره. فكر صلب كالقذيفة. هكذا استعار جلال خوري عضلات الفكر لا عضلات المسرح. عضلات الفكر بالمسرح. لم يحاجج وهو يعلن أن الإخراج لا يطّلع زهوراً في مسرحية. الإخراج شيء فائض بالمسرح. صرح بذلك بصوت آدمي دون أن ترمش عيناه. لم يدرِ أنه يحول المسرح إلى ورق بالكلام هذا. هكذا مضى دون معاناة من آلام الإخراج بالمسرح. قبلة الضاجين خلف الأجناس والمناهج، من العبث إلى الواقعية والواقعية السحرية والفودفيل والتقويل ومسرح الكباريه السياسي ومسرح البورديل كلونديستان (الليفنغ تياتر: مسرح جوليان بك وجوديت مالينا). جارى الجميع الجميع بتلك المرحلة. جمهرة خفيفة توزع المقاعد بالقطار الحديث. أعطي جلال خوري حق افتتاح سفارة المسرح الملحمي ومسرح التغريب على الأراضي اللبنانية، منذ (جحا بالقرى الأمامية) عن (شفايك) لبريشت. ساهمت المسرحية بقلب الأوضاع. بحيث لم يعد المسرح في وضعية دفاعية أمام الجمهور.
حققت (جحا بالقرى الأمامية) نسبة عالية من الحضور الجماهيري. قفزت المسرحية، بعدها، من عرضين أو ثلاثة، إلى ثلاثين وأكثر. لا سكنى لخوري إلا ببريشت. سكن بريشت في (سوق الفعالة) و(زلمك يا ريس) (عن أوتورو أوي). بالمسرحية الأخيرة، أودع جلال خوري مقدمة (بمطوية المسرحية) بقلم بشير الجميل، قائد القوات اللبنانية، في واحدة من المفارقات المدوية على نحو نقي بإقحام عظام السياسة بلحم المسرح. دق أبواب الوضع بقلم من يفترض أن تهجوه المسرحية. غاية خفية عند البعض. انتهازية عند البعض، وسط مجازر البلاد.
لم يبقَ ظل بريشت ممدوداً على مسرحيات خوري، أحد أبرز المنظرين المسرحيين. كتب دعوة إلى مغادرة المسرح لأنه لم يعد سوى أجزاء مشتتة على تخوم الحضارة الغربية. ثم، اندفع بعد أن تقطعت حبال حنجرة بريشت في لبنان والعالم العربي إلى الصوفية بأحيان (مسرحية عن راهبة تدعى هندية) وتقديس أوربانيسم المدينة الأول وأشكال العلاقات القديمة في (رزق الله على أيامك يا بيروت) والواقعية المتفكرة في واحد من أجمل النصوص المسرحية بلبنان (بونسيون الست نعيمة) لأسامة العارف. وعلم النفس في (مستر فرويد).
لا يدري الكثيرون أن جلال خوري وراء بداية محرقة الفودفيل، مع (عريسين مدري من وين) نص مروان نجار، عن مسرحية مترجمة. عُرف المسرح بمسرح الشنطة، إثر ازدهاره، بعد أن درج شراء النص والإخراج ورسوم الديكور، دفعة واحدة في حقيبة، تسلم باليد بعد دفع المبالغ المتوجبة. المثقف الغرامشاوي، بنك المعلومات، الأستاذ الجامعي، المؤلف، الدراماتورج، أنف صفة المخرج. وجدها صفة لفظية. المؤمن بالطب غير التقليدي، مدمن اليوغا، نام دون أن يصيبه النعاس. نام بعد أن تقاسم السكر والسكر المر مع المسرحيين اللبنانيين، هو من لم يفكر إلا بالبقاء. لأن البقاء لذته. وجد الرجل نفسه في أقصى المجرات المسرحية، ثم وراء الستائر في فوضى البلاد، حيث لم تعد الخيل نفسها قادرة على الخطو في المسارات الجديدة. حين وجد نفسه في عمق صحراء المدينة مات وهو يرى أن ثمة غرباء ينشطون بين أسافل المحاق وبين الخطايا. لم يعد المسرح فتنة، لم يعد المسرح فتنة ما قاد المسرحيين إلى المسرح. إذاك مات. مات بهدوء، مخلفاً ما أحببناه وما لم نحبه. حيث إن ما ميز خوري إشكاليات حضوره ومسرحه. جدل مسرحه وجدله. بغيابه يتواكب الحلم والحقيقة لمرة أخيرة. حيث لا جسد من طبيعة مع التحليقة الأخيرة. حين قال وصلت وصل. وحين قال إن لا شيء سوى النواح مات. آخر ما سمعه نواح النواحين، عليه لا على المسرح من ينوح هو نفسه أمام ازدياد الوجوه الفاخرة والفاجرة على سحنة العالم.

ذو صلة