مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

د.عبدالرحمن الحاج صالح.. اللغوي الذي طالب بحوسبة اللغة عبر مشروع الذخيرة

ولد الدكتور عبدالرحمن حاج صالح في مدينة وهران بالجزائر، في 8 يوليو 1927م، وبعد أن أتم تعليمه المدرسي، بدأ في دارسة الطب، وفي سنة 1954 توجه إلى مصر ليكمل دراسة التخصص في جراحة الأعصاب. ولما كان يتردد على جامع الأزهر لحضور بعض دروس اللغة العربية؛ تعرف على تراثها بوعي جديد، فحول اهتمامه من حقل الطب إلى الدراسات اللغوية المعاصرة، وهناك اكتشف أهمية التراث العلمي اللغوي العربي، واتضح له الفرق الكبير الذي لاحظه بين وجهات النظر الخاصة بالنحاة العرب الأقدمين وما يقوله المتأخرون منهم، وكان هذا دافعاً مهمّاً في حياته العلمية. ولم يستطع أن يكمل دراسته في مصر، فالتحق بجامعة بوردو بفرنسا، ثم نزل بالمملكة المغربية والتحق بثانوية (مولاي يوسف) في الرباط أستاذاً للغة العربية، واغتنم الفرصة لمواصلة دراسة الرياضيات في كلية العلوم. وقام بتدريس اللسانيات في كلية الآداب بالرباط باللغة العربية في 1960م (لأول مرة في المغرب العربي)، وقضى حياته أستاذاً وباحثاً في جامعة الجزائر بعد الاستقلال، وعيّن في سنة 1964م رئيساً لقسم اللغة العربية وقسم اللسانيات، ثم انتخب عميداً لكلية الآداب، وفي سنة 1968 كان أستاذاً زائراً بجامعة فلوريدا، حيث التقى بالعالم اللساني آنذاك نعوم تشومسكي، فجرت بينهما مناظرة أفحمت هذا الأخير.
وقد تولدت لديه فكرة أطروحة الدكتوراه -التي أنجزها بعد عناء عشر سنوات من البحث والتنقيب- حول أصالة النحو العربي، واهتدى آنذاك إلى مشروع الذخيرة اللغوية العربية عن طريق البرمجة الحاسوبية، وكان أول عالم عربي يدعو إلى ذلك المشروع، كما كان أول الداعين إلى تبني المنهج البنيوي، وإنشاء جوجل عربي. وفي سنة 1988م عُيِّن الدكتور عبدالرحمن الحاج صالح عضواً مراسلاً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم انتخب عضواً عاملاً به سنة 2003م في المكان الذي خلا بوفاة الدكتور إبراهيم السامرائي، وسبق ذلك أن عُيِّن عضواً في مجمع دمشق (في 1978م) ومجمع بغداد (1980م) ومجمع عمّان (1984م). وهو عضو في عدة مجالس علمية دولية، وعضو أيضاً في لجنة تحرير المجلة الألمانية التي تصدر ببرلين. وقد حصل على جائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب في عام 2010م؛ تقديراً لجهوده العلمية المتميزة في تحليله للنظرية الخليلية وعلاقاتها بالدراسات اللسانية المعاصرة، وجهوده البارزة في مجال التعريب. 
وكان يرحمه الله يرى أن المحافظة على سلامة اللغة العربية، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون الحديثة وحاجات الحياة في هذا العصر وإحياء التراث العربي؛ يُعد من الأهداف الرئيسة للمجامع العربية، إلا أنه مع ذلك، فقد كان لكل واحد منها ما يجعله يتميز بصفة أو أكثر من صفة عن المجامع الأخرى، فمثلاً مجمعا دمشق وبغداد اهتم كل واحد منهما في الأول بالآثار المحلية وأُلحق بهما متحف، واهتم مجمع دمشق كثيراً بالتعليم، وتابعهما في ذلك المجمع الأردني، أما مجمع القاهرة فتميز عن كل المجامع العربية -ومنذ أول يوم من نشأته- بتعميمه لصفة العضوية العاملية لغير المصريين وبتنظيمه في آخر الربيع من كل سنة مؤتمراً يحضره كل الأعضاء من الداخل ومن الخارج.
ومما كان يستغربه الراحل ويعجب منه هو عدم اهتمام المؤلفين العرب في زماننا هذا بشيء يسمى مدونة لغوية، تكون هي المستقى الموثوق الذي يؤلفون منه وعلى أساسه معاجمهم. وربما يكون هذا التهاون -المطلق- هو التهاون الوحيد الذي يتصف به عمل الباحث العربي في زماننا في نقله الكامل لمناهج البحث الغربية. فقد قلد بعضهم الغربيين في كل شيء وتبنوا أفكارهم ومناهجهم إلا تدوين المدونات لتأليف معجم أو دراسة اللغة أو وضع مصطلح، مع أن استعمال اللغة العربية الفصحى لم ينقطع في وقت من الأوقات، ولا يرجع إليه مع ذلك، ولا يمكن الرجوع إليه إلا بهذه الطريقة العلمية. ثم لا نفهم أيضاً أن يحصل سكوت عن المدونة التي يجب أن تجمع وتحوسب مع كثرة ما يجري من الكلام عن المعجم التاريخي، فهل يمكن أن نتصور كيف يتم اكتشاف ما أصاب المئات من الألفاظ من التحول في مدلولاتها وما اختفى من ذلك وما ولد منها في عصر معين وفي كتاب معين إلا بالرجوع إلى مدونة كبيرة جداً تمكن الباحث من الحصول على كل السياقات التي ترد فيها لفظة من الألفاظ في ميدان معين. ويؤلف على هذا الأساس ما يسمى الآن (بملف الكلمة) تجمع فيه هذه السياقات الخاصة بها في شتى الميادين والعصور. وعن الكيفية التي يمكن من خلالها مراقبة السلامة اللغوية وإصلاح الأخطاء؛ كان صالح يرى أنه لا بد في ذلك من الاتصال المباشر مع جمهور الناس، وذلك بتنظيم حصص مبرمجة في التلفزة، ولا يكون التدخل على الشكل التقليدي (قل ولا تقل)، فهذا قد أثبت الخبراء أنه من خير الوسائل لترسيخ الخطأ في ذهن السامع عند الأكثرين. بل يتبع في ذلك طريقة التعليم العادية: بإيحاء العبارة السليمة هي وحدها بتكرارها في أكثر من نص عدة مرات وفي خطابات عفوية وحالات طبيعية من الحياة اليومية (في التعليم ووسائل الإعلام). وما يؤلف من الكتب لتصحيح التعبير. أما ما يمكن أن يعتبر عيباً مقابلاً للتخطئة الصريحة فهو محاولة تبرير العبارة الجارية في استعمال عامية من العاميات لأنه يخص عبارة من عامية واحدة دون العاميات الأخرى. أما ما يشيع ويكثر مجيئه في أكثر البلدان العربية فإقراره يكون أقل ضرراً، وقد يكون مقبولاً إذا لم يوجد لفظ آخر فصيح يدل على ما يدل عليه ويكون حينئذ بمنزلة المعرب الدخيل. أما إذا وجد بديل فصيح للعبارة العامية يكون نص عليه علماؤنا وأقروه فلا يحق لنا في نظرنا أن نجيز العبارة العامية في استعمالنا للغة الفصحى.
إنه المنطق الفني
 يمكن أن نعرف (المنطق الفني) بأنه: عالم متخيل يأتي على شكل فيلم أو مسرحية أو رواية... إلخ، تحكمه علاقات منطقية ليست بالضرورة كما هي في الواقع، ذلك أن نقل الواقع كما هو لا يعد فناً أبداً، ولا يمت له بصلة.
 المنطق الفني حالة إبداعية لا يمكن أن تقيسها بمعايير الواقع، ليست نصيحة ولا إرشاداً ولا رسالة ولا دراسة، هي عالم مستقل بإزاء العالم الذي نعيشه ولكن بعلاقات خاصة به، كل ما في الأمر أنه مقنع بالنسبة لعالمنا رغم حجم الخيال الذي يغلفه.
 مثال: أفلام الأكشن، ترى أحداثاً تقبلها في سياقها الفني وتراها منطقية، مثل: بطولات خارقة، قتل، دمار، حيوانات تتكلم، رجل آلي... إلخ. كل ذلك تقبله فنياً، رغم أنه مخالف للواقع، ولكنه في (منطقة الفن) تقبله، باعتباره فناً، بل تستمتع به وتعيش كل تفاصيله، ولا تستهجن الأحداث ولا الأشخاص ولا القصة ذاتها رغم أنها تخالف ما اعتدت عليه، والسبب أن ذلك محكوم (بالمنطق الفني).
 المنطق الفني إذا اختل بات العمل الفني (هزيلاً) مثل: بعض مشاهد الأفلام الهندية (المنطق الفني) بها مبالغ فيه، أما في أفلام هوليوود تقبل كثيراً من مشاهد الأكشن لأنها مصوغة بمنطق فني محترف غير مثير للاستهجان. رغم أنها لا تمت لقوانين الواقع بصلة..
 بعض من أعمالنا العربية مثيرة للاستهجان، لأن (المنطق الفني بها) مضروب.. يعني غير مقنعة فنياً. يعني غير مبررة. يعني (فكر) ضعيف، يعني يحتاجون لمراجعة النظام المعرفي لديهم وإعادة بنائه من جديد بما يتوافق مع المنطق الفني.
تطور المنطق الفني ودقته وعمقه مرهون بتطور (الفكر) وليس بالتمكن من الأدوات التقنية، فكلما تطور الفكر، تطور معه المنطق الفني، وصار استخدام التقنية أكثر احترافية، لهذا لا يعني توريد القطع الفنية أننا سنبدع في عالم الفنون، لأن الأمر مرهون بمدى تطور الفكر، وهو يحتاج إلى عقود وأجيال حتى يتطور ويكون قادراً على إنتاج أعمال مدهشة.
بمعنى إذا أردت أن تطور المنطق الفني، ارفع المستوى الفكري لأهل الفنون بجميع أشكالها وأنواعها، ثم تتطور أدواتهم الفنية بشكل مطرد، فليس كل من عمل فيلماً أو مسرحية أو كتب رواية أو عمل نحتاً أو رسم لوحة أو صمم ديكوراً داخلياً.. أطلق على نفسه «فنان» وصار يمشي بخيلاء ويتحدث بكبرياء، الأمر أكبر من ذلك.
 الفكر تبنيه القراءة والنظريات والفلسفة، وهذا يحصل إذا كان لدينا أكاديميات ومعاهد وجامعات متخصصة في مجال الفنون، والفنون التي نقصدها هي (الجمال والدهشة) المبنية على منطق فني راقٍ وليس ما يتداوله خصوم الفنون، بحيث يصورونه بصور مسيئة، أما الذي يخطئ في عالم الفنون فخطؤه يتحمله وحده.

ذو صلة