ويمكن تعريف (الثقافة التشاركية) اجتهاداً بأنها: أشكال الثقافة والإنتاج المشترك الذي تساهم في صنعه أجيال المستخدمين لشبكة الإنترنت عبر المواقع التي يؤسسونها والمنتديات التي يوجدونها ويشرفون عليها ويقومون بإنتاج موادها والإشراف عليها, وهي ظاهرة ستحدد ملامح علاقة الأجيال الجديدة بكل أشكال الإعلام الديجتال والمقروء والمسموع.
يتبين توجه الأجيال الجديدة، وبخاصة الشباب في الوطن العربي، إلى وسائل الإعلام الجديد، الإنترنت تحديداً، للتعبير عن آرائهم في العديد من الأمور والقضايا والهواجس المتعلقة بطموحاتهم من خلال عدة أشكال للتعبير، مثل: المنتديات، والمدونات، والنشر الإلكتروني عبر المواقع المختلفة. وهو ما يمكن أن يقلل من السلطة الأبوية المتمثلة في سلطة المجتمع وسلطة الدولة على الأبناء في ظل عصر المعلومات، دون خوف من مخاطر ذلك عليهم، كما أنه يحقق بعداً جديداً للتواصل الإنساني بين الشباب.
دراسات علمية على الصغار
في دراسة قامت بإنجازها مؤسسة (كايزر) على استخدامات الصغار والشباب من سن 8-18 سنة لوسائل الميديا المختلفة، وجد أن أكثر من نصف المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية وعلى اختلاف خلفياتهم يقضون ست ساعات ونصف كل يوم في التعامل مع مختلف أجهزة الميديا (إنترنت، تلفزيون، جوال، وسائط رقمية، وغيرها), كما أنهم يقومون باستخدام أكثر من وسيلة في وقت واحد (سماع موسيقى، استخدام النت، خلق مواد بوسائط متعددة ونشرها على الشبكة.. إلخ), إلى جانب ذلك وجد أن الأطفال الذين توجد أجهزة التلفزيون والكمبيوتر في غرف نومهم يقضون ساعات أطول في استخدام هذه الأجهزة.
دراسة أخرى نشرت مؤخراً بواسطة معهد M.I.T في الولايات المتحدة حول الإعلام الرقمي والتعلم: (مقابلة تحديات الثقافة التشاركية: التربية الإعلامية في القرن الواحد والعشرين), تناولت أشكال الثقافة والإنتاج المشترك الذي يساهم في صنعه أجيال المستخدمين لشبكة النت، ومن خلال الدراسة وجد أن نصف المراهقين المستخدمين للإنترنت في الولايات المتحدة قاموا بإنتاج مواد خاصة بهم ووضعوها على الشبكة وشاركوا بها آخرين، كما قام أكثر من الثلث بمشاركة آخرين في مواد وضعوها على شبكة التواصل مما خلق مصطلح الثقافة التشاركية.
وترى باحثة سعودية هي فوزية البكر أن ما يحدث في الغرب ليس ببعيد عن عالمنا العربي، وأن من الأشكال التي نلمسها حتى بين أجيال الشباب من السعوديين والسعوديات يعتقد أن هذه الظاهرة ستحدد ملامح علاقة الأجيال الجديدة بكل أشكال الإعلام الرقمي والمقروء والمسموع.
مع بداية عصر العولمة، في تسعينات القرن الماضي، لم تعد الوسائل التقليدية للمعرفة في عصر التدفق الحر للمعلومات كافية، وأصبحت المعرفة متاحة للجميع، وأصبح من الضروري إقامة مجتمع المعرفة، وهو بحسب ما جاء في التقرير العربي الثاني: العمل على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي والاقتصاد والمجتمع المدني والسياسة والحياة الخاصة، وصولاً إلى ترقية الحالة الإنسانية في المجتمعات العربية.
وتعتبر (الميديا)، في هذا الصدد، من أهم ركائز الأنماط المعرفية التي من شأنها صناعة القرارات الإستراتيجية والتأثير على الرأي العام. فقد أضحى مصدر الثقافة، بشكل أساس، هو الإعلام الجماهيري، خصوصاً الإنترنت، الذي أصبح وسيلة أساسية لدى الأجيال الجديدة، لطرح آرائهم ووجهات نظرهم تجاه الكثير من القضايا.
أصبحت الوسائط الإعلامية في عالمنا اليوم أوسع بكثير من الإعلام التقليدي الذي يقتصر على الصحافة الورقية والإذاعة والتلفزيون، إنها تعني كافة الوسائل التكنولوجية التي تقع بين أيدينا ونستخدمها في حياتنا كوسائط لنقل المعرفة ومنها التلفزيون والجريدة والجوال والإنترنت والأقراص الرقمية وكافة وسائط الميديا والملتيميديا. أصبح العالم يتحرك ضمن عجلة تكنولوجية مستمرة بدءاً من أجهزة الاستقبال الفضائية والأقراص والهاتف الجوال الذي أصبح آلة كاملة في الصور والموسيقى واستخدام الإنترنت والرسائل بمختلف أنواعها وغيرها من مصادر المعرفة الإلكترونية والمرئية التي تستفيد منها الأجيال الجديدة في صنع اتجاه ثقافي منفتح الآفاق هو الثقافة التشاركية.
فمن خلال شبكة الإنترنت يمكن التواصل بحرية بين مختلف الأعمار والتوجهات والثقافات، وقد حقق هذا نوع من التفاعل الحر وأثمر ما يمكن أن نسميه بميلاد الروح التشاركية، وذلك من خلال المدونات، المنتديات، نشر المقالات في المواقع المختلفة، التفاعل مع الأحداث الجارية بالتعليق عليها..إلخ.
هنا يمكن القول إن تطور السياسات الاتصالية والإعلامية في العالم العربي أدى إلى ظهور نوع من الإعلام الجديد، لا يخضع للسلطة السياسية ولا يخضع للرقابة ويمكن أن يحقق نوعاً من حرية الرأي خصوصاً في القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت؛ إذ يمكن للشخص أن يتحدث إلى قناة فضائية أو ينشر مقالاً أو صوراً عبر الإنترنت دون أن تحذف كلمة واحدة. وهي أمور كانت خيالية مع وسائل الإعلام التقليدي.
تقويض النظريات الإعلامية
هذه الطبيعة التراكمية لعملية التعبير عن الرأي تنتجها عدة أطراف فاعلة ويؤكدها رد فعل المتلقي وهو ما يعرف بـ(رجع الصدى), وقد استطاعت ظاهرة (الثقافة التشاركية) التي انتشرت في العالم أن تقوض نظريات الإعلام التي تقوم على الإعلام التقليدي.
وتعرف شاهيناز طلعت في دراستها (وسائل الإعلام والتنمية الاجتماعية) رجع الصدى feedback بأنه: رد المستقبل لرسالة المصدر، الذي قد يستخدمه –المصدر- فيما بعد لتعديل رسالته التالية. ومن ثم فإن رجع الصدى ما هو إلا رسالة من نوع خاص تتعلق بتأثير رسالة سابقة (من المصدر إلى المستقبل), ومن وجهة نظر المصدر قد يفهم رجع الصدى على أنه رسالة تحمل معرفة عن فاعلية الاتصال. ورجع الصدى سبيل للنظر إلى المصدر على أنه مستقبل، وهو يؤكد عملية التبادل في الاتصال الفعال.
وفي تحليلها لرجع الصدى تصل إلى أن رجع الصدى يحدث بدرجة أكبر وأكثر وضوحاً في الاتصال المباشر عنه في الاتصال بوسائل الإعلام، ومن ثم، فهناك فرصة أفضل لتوصيل رسالة مقنعة وجهاً لوجه. وهذه في اعتقادنا نظرة قاصرة غير قائمة على إسناد علمي، وبعيدة تماماً عن الواقع؛ إذ أن (رجع الصدى feedback) يمكن أن يحدث بدرجة أكبر وأكثر وضوحاً في وسائل الإعلام، الحديثة خاصة، عنه في الاتصال المباشر. ولقد لعب (رجع الصدى) دوراً كبيراً في التأكيد على وصول الرسالة وموقفه منها بوضوح في رسالة المصدر عبر القنوات الفضائية وعبر الإنترنت، والمثال على ذلك أثر الثقافة التشاركية أو مواقع التواصل الاجتماعي: فيس بوك وتويتر في أحداث الربيع العربي، وبخاصة في مصر وتونس.