مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

تمكين المرأة: المفهوم والواقع

منذ بضعة أيام, علمت أن ابنتي, كانت تلقي محاضرة حول موضوع هذا المقال في واشنطن, كاشفة الضوء عن وضع المرأة بعد أحداث الربيع العربي في مصر, وكنت قبلاً أخطط للكتابة في الموضوع, وبسبب الانشغال بالانتهاء من الجزء الثاني من كتابي (مصر التي في خاطري), فقد عزمت على المضي قدماً نحو استكمال ما تبقى من مقالتي حول المقصود بالتمكين, بعد أن هيأت ابنتي لي الفرصة كي أقول, ناهيكم عن هذا اللغط الذي بدأ يسري حول هذه القضية التي راحت تدلي فيها منظمات المجتمع المدني, والمدافعون عن الحقوق -دون الواجبات- بما لديهم من قول سواء أكان حقاً أم باطلاً.
أعترف بداءة أن الموضوع شائك ومعقد, إضافة إلى الالتباس الذي يغلف المصطلح, ويحيط باللفظة التي ربما تثير حفيظة الرجال بقدر ماتثير حنق البعض ممن يرون أن المرأة العربية أخذت أكثر مما تستحق, فضلاً عن أن المسألة برمتها تدخل في نطاق إغواء المرأة, ناهيك عن تحررها وتخلصها من دورها التاريخي في رعاية الأسرة وتربية الأبناء. لكن النظر للموضوع من زاوية ربما تبدو للبعض أنها نوع من التزلف أو التزييف للحقائق والبديهيات باعتبار أن كلمة (التمكين) ليست سوى مصطلح غربي المنشأ, تحرري الدلالة, خبيث المنحى ذي غرض غير بريء, لا أرى فيه صالحاً للأسرة العربية إن بقي المصطلح على حاله, وإن ظلت دعوات تحرر المرأة على نفس السياق.
وفي حقيقة الأمر فإن الالتباس الحاصل في تعريف مفهوم تمكين المرأة, نابع من المنطلقات الفكرية والعقائدية وربما الأيديولوجية التي تحيط بوضعية المرأة في المجتمعات الشرقية, وكذلك المجتمعات الغربية. ففي تعريف لمصطلح (تمكين المرأة) نقرأ ما يفيد أنه يعني: إعطاء المرأة حق السيطرة والتحكم في حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والجنسية, وحقها في اتخاذ القرارات المتعلقة بالإنجاب خاصة في سن المراهقة، والوقاية من الأمراض الجنسية أو الممارسات الجنسية غير المأمونة, وإتاحة كافة الفرص لحصولها على المشورة والمعلومات والخدمات. أما مفهوم التمكين، وبحسب ما خرج به مؤتمر المرأة في بكين العام 1995 ومؤتمر الأمم المتحدة العالمي للسكان والتنمية بالقاهرة العام 1994؛ فيعني: استخدام القوة الذاتية للقيام بنشاطات مشتركة مع الآخرين لإحداث التغيير، علماً أن هذا التمكين يشمل القدرة على اتخاذ القرارات واكتساب مهارات الوصول إلى الهدف, وهنا تقول فانيسا جريفين: «إنه يعني مزيداً من قوة المرأة، والقوة تعني لها: مستوى عالٍ من التحكم ومزيد من التحكم؛ وإمكانية التعبير والسماع لها، والقدرة على التعريف والابتكار من منظور المرأة، والقدرة على الاختيارات الاجتماعية المؤثرة والتأثير في كل القرارات المجتمعية، وليس فقط في المناطق الاجتماعية المقبولة كمكان للمرأة، واعتراف واحترام كمواطن متساوٍ وكيان إنساني مع الآخرين، والقوة تعني قدرة على المساهمة والمشاركة في كل المستويات الاجتماعية، وليست مجرد القوة في المنـزل، والقوة تعني أيضاً مشاركة المرأة مشاركة معترف بها وذات قيمة».
 وترجع جذور مفهوم التمكين لعقد الستينات من القرن الماضي، حيث ارتبط ظهور هذا المفهوم بالحركات الاجتماعية المنادية بالحقوق المدنية والاجتماعية للمواطنين, ومنذ ذلك الحين استخدم مفهوم التمكين بعدة معان, وكذلك استخدم في عدة مجالات، كالاقتصاد، والعمل الاجتماعي والسياسي وكذلك في التنمية. كما امتد مفهوم التمكين كمصطلح للتعبير عن عملية فردية يأخذ فيها الفرد المسؤولية والسيطرة على حياته ووضعه، ويعتبر التمكين كعملية سياسية لمنح المجموعات المهمشة حقوقهم وتوفير العدالة الاجتماعية لهم.
وهنا يمكن لنا أن نستخلص مستويات ثلاثة للحكم على هذا المفهوم الذي ينسب إلى جمهور الليبراليين من مفكري العرب, والتي تتحدث عن:
 - المستوى الفردي, الذي يعبر عن قدرة النساء على السيطرة على حياتهن, وإدراكهن وإحساسهن بقيمتهن وقدراتهن وقدرة المرأة على تحديد هدفها والعمل على تحقيقه.
- المستوى الجماعي, والذي يعكس قدرة النساء على تنظيم أنفسهن والعمل الجماعي وإحساسهن بقوتهن في تجمعهن.
 - المستوى الثالث, والذي يشير إلى المناخ السياسي والاجتماعي والقواعد الاجتماعية والحوار العام حول ما يمكن أو لا يمكن للمرأة القيام به.
فالهدف الأساسي, وهو تمكين المرأة في رأي تيار إسلامي غالب؛ يعني تمكين المرأة في صراعها مع الرجل، ولا يعني إصلاح وضع المرأة، وهي دعوة للتمرد على الأدوار الطبيعية لكل من الرجل والمرأة داخل الأسرة الطبيعية, والمصطلح يتمحور حول المرأة الفرد، وليست المرأة التي هي نواة الأسرة، لذا فإن المرأة العاملة هي المرأة المعتبرة، أما ربة الأسرة؛ فينظر إليها على اعتبارها متخلفة، وخارج السياق الدولي الجديد؛ لأنها لا تمارس عملاً مدفوع الأجر، ولأنها ربطت نفسها بالزوج والأولاد والأسرة. وفرض هذا المصطلح في جميع المجتمعات لا يتأتى إلا بانتشار مفهوم المساواة في العالم بأسره، وتجاوز القيم والمعتقدات التي تتحكم في حياة الملايين من الرجال والنساء .
على الطرف الآخر من النهر, يقف تعريف أصيل لعملية التمكين النسوي في الحياة, آخذاً في الاعتبار تصحيح المفهوم السائد عن دلالات ومفاهيم عن المرأة ودورها في المجتمع المسلم -الذي يختلف كلياً عن المجتمع الغربي- ناقداً النظرة السطحية والادعاءات الليبرالية والعلمانية  -على حد قول الواقفين في الطرف الآخر من نهر الحياة- حيث ينصب معظم النقد لفكرة التمكين, على الرفض للفظة ذاتها باعتبار أن كلمة التمكين لا تصح أو لا تجوز عند الحديث عن المرأة, بل إن اللفظة ذاتها تتسق مع مفهوم ومدلول الرجولة التي تسعى إلى التمكين بمعناه الواسع والفضفاض. أما في حالة المرأة فإن فكرة التمكين إذا جاز القول بذلك, فإنه ينصب على التمكين الاقتصادي, بمعنى الاستقلال الاقتصادي الذي يكفي المرأة مؤونة الاحتياج إلى الرجل. 
 فالنظرة النمطية غير الدقيقة إلى الإسلام تضع المرأة في خانة (مواطن من درجة ثانية), ذي حقوق منتقصة, ومكانة متلقية وغير فاعلة في المجتمع, لكن بزوغ نجم (الناشطات الإسلاميات) في السنوات الأخيرة من شأنه أن يأتي برياح التغيير على النمط السائد, ويضع الأمور في نصابها الصحيح. وقد قرأت كثيراً من تجارب وأبحاث العديد من الناشطات الإسلاميات – المثقفات- عن صيغ التمكين التي يرونها صالحة للمرأة, فالمفهوم عندهن يرتبط بجل مظاهر وصيغ التمكين, عدا الحرية الجنسية وما يرتبط بها من حقوق وسلوكيات غربية يحاول البعض فرضها على المرأة العربية والمسلمة بالتبعية.
أسئلة عدة تطرح نفسها نظراً إلى حساسية الظاهرة. فما رؤية المرأة المصرية لفكرة التمكين في الإطار الإسلامي, لا سيما أن الإسلاميين عادة ينظر إليهم بوصفهم لا يؤمنون بحرية المرأة؟ وأي نوع من التمكين يمكن للمرأة المسلمة أن تحققه من خلال نشاطاتها؟ وكيف يمكن لفاعلية هؤلاء الناشطات أن تساهم في تمكين المرأة المسلمة في مصر؟.
والمعروف أن مبدأ (القوة) أو (السلطة) حين يطرح في مجتمعات الشرق الأوسط قلما يضم النساء. والملاحظ أيضاً أن الدراسات التي تجرى على الحركات النسوية في الشرق الأوسط تتجاهل الناشطات الإسلاميات باعتبارهن جزءاً لا يتجزأ من الحركات الإسلامية الذكورية. ولم تتمكن من إدماج الجهود التي تبذلها النساء للمطالبة بحقوقهن من منطلق إسلامي في الدراسات والتحاليل إلا قلة قليلة. وربما يعود عدم رغبة أو تقاعس الباحثين عن درس مثل هذه الظاهرة إلى الصعوبة النفسية المفتعلة في تقبّل فكرة تمكين النساء ضمن مفهوم إسلامي, إذ يعتقد كثيرون أنهما طرفاً نقيض.
إلا أن الواقع يشير إلى أن الناشطات الإسلاميات يرتكزن على دعوة الإحياء الإسلامي في مصر، على رغم اختلاف خلفياتهن الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, إلا أن ما يجمع هؤلاء النساء هو حماس ديني يهدف إلى تحقيق قدر أكبر من التدين وتحسين الذات.
 والملاحظ أن الصورة المثالية للمرأة المسلمة التي تضعها نصب أعينها غالبية هؤلاء النساء الناشطات, سواء كن داعيات أو مجرد أفراد في الجمعيات الخيرية الدينية, مشتقة من أدبيات وكتابات جماعة الإخوان المسلمين. وعلى رغم التركيز الواضح في مثل تلك الكتابات على عفة المرأة وحشمتها, إلا أنها تشتمل كذلك على تبجيل عمل المرأة, شرط ألا يأتي على حساب أبنائها وزوجها.
 ويلاحظ في المنقول عن الكثير من النساء الناشطات والمثقفات أنهن جميعاً عارضن التطرق إلى نشاطهن باعتباره نوعاً من (التمكين)، للمدلولات الغربية السيئة التي توحي بها هذه التسمية باعتبارها دعوة غربية نبعت من الغرب. وتقول إحداهن وهي داعية: «القول بأنني متمكنة يعد تناقضاً مع ما أمثله كداعية, فمُهمتي أن أكون متواضعة. صحيح أن طبيعة مهمتي الدينية تمنحني إحساساً بالقوة مقارنة بأولئك النساء اللواتي يشغلن أنفسهن بالتوافه, لكن الحديث عن (التمكين) (للنساء) يناقض طبيعة الإسلام».
 والمعنى الذي خلصت إليه من مفهوم (التمكين) بالنسبة إلى النساء الناشطات دينياً هو أن (التمكين) وسيلة يستخدمنها لتحقيق الكمال الديني وليس كغاية في حد ذاتها. يتبعها التمكين الاقتصادي, وقد استطعن ابتكار أشكال بديلة (للتمكين) بدلاً من تلك الشائعة والمعروفة بين الحركات النسوية الغربية، والتي تعادل تمكين المرأة بمفاهيم (الاستقلال والحرية الجنسية والمساواة المطلقة بين الجنسين). ففي الوقت الذي تعمل فيه النساء الناشطات إسلامياً ضمن إطار يعتمد على التسليم بقوامة الرجل الشرعية على المرأة, إلا أنهن (يمكّن) لأنفسهن من داخل الإطار ذاته وتكون النتيجة واحدة وهي (التمكين(.
وتخلص بعض الآراء والدراسات إلى أن الناشطات الإسلاميات يعملن على إيجاد مكان لأنفسهن في خضم الإحياء الديني الحاصل حالياً, وهن بتبوئهن مراكز, مثل الداعيات والمعلمات الدينيات والواعظات, وجدن أنفسهن (متمكنات) وفي مكانة محورية في المجتمع. وهن يعملن على تغيير الظروف التي تقلل من شأن النساء في المجتمع, مثل الأمية, ونقص العناية الصحية والفقر, وذلك من خلال الخدمات المجانية التي يقدمنها في المساجد والجمعيات الدينية. ويكمن سر هذا النوع المتميز من (التمكين) النسائي في عدم نظر النساء إلى أنفسهن باعتبارهن كيانات حريتها مطلقة أو مستقلة تبحث عن الاستقلال عن سيطرة ذكورية مزعومة, لكنهن يعتبرن أنفسهن جزءاً لا يتجزأ من وحدة واحدة, تشمل الزوج والأسرة التي تعمل في سبيل الله.
وفي ضوء بروز الاهتمام بقضايا مشاركة المرأة عالمياً وإقليمياً ومحلياً؛ فقد بات من المؤكد عدم قدرة أي مجتمع على النهوض وتحقيق التنمية مع إضعاف نصفه, بل إن المرأة تمثل النصف الأفضل من المنظور التنموي. فالمرأة إن كانت تمثل حوالي نصف المجتمع من حيث العدد, فهي أكبر من ذلك بكثير من حيث الكيف لأنها العامل الأساس في تربية النصف الآخر إلى جانب دورها المهم في إعالة الأسرة, بل إن أعداداً كبيرة من النساء في مصر على سبيل المثال, يفخرن بكونهن العائل لآلاف الأسر المصرية, حين يتقاعد الرجل أو يموت أو يمرض. وقد أثبتت تجارب العديد من الدول أن مكافحة فقر المرأة وتمكينها اقتصادياً يؤدي إلى رفاهية المجتمع ككل, لأنه قد ثبت أن الزيادة في دخل المرأة تؤدي إلى زيادة في إنفاق الأسرة على الصحة والتعليم والتغذية مما يؤدي إلى الزيادة في دخل الرجل, وبالتالي إلى زيادة رأس المال البشري, فضلاً عن مردود تعليم المرأة على معدل الخصوبة وتغذية وصحة الأطفال.
كما أن مشاركة المرأة في التنمية وتمكينها يعد أحد المؤشرات التي يقاس عليها تقدم الأمم ونهوضها, ومن المؤشرات المهمة في ترتيب الدول في أدلة التنمية البشرية المختلفة. ولعلي أشير إلى المفهوم الحديث عن التمكين والذي أصبح يكثر استعماله في سياسات المؤسسات الحكومية والمنظمات الأهلية في برامجها, وهو مفهوم -أميل إليه- يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشاركة والتنمية؛ حيث يمكن القول بأن التمكين والمشاركة هما وجهان لعملة واحدة. وتستلزم المشاركة الفاعلة تنمية المرأة وتطوير قدراتها وإمكاناتها لتمتلك عناصر القوة التي تمكنها من إحداث التغيير في مجتمعها. وتكمن مصادر هذه القوة في المعرفة والثقة بالنفس وقدراتها والعمل ضمن إطار الجماعة وليس العمل الفردي.
كما يعني التمكين تعزيز القدرات والارتقاء بواقع المرأة لمعرفة حقوقها وواجباتها، وتوفير الوسائل المادية والثقافية والمعنوية والتعليمية لتتمكن المرأة من المشاركة في اتخاذ القرار. 
ونجد إن درجة المشاركة ونطاقها تحدد إلى درجة كبيرة توزيع القوة في المجتمع، »بمعنى القدرة على إحداث تأثير في الآخر الذي قد يكون فرداً أو جماعة أو مجتمعاً بأكمله. أي أن المشاركة لا تستهدف فقط تنمية المجتمع وصنع مستقبله بل تستهدف أيضاً تنمية الذات المشاركة وتطوير قدراتها وإمكاناتها ووجودها الفاعل والمؤثر في الحياة الاجتماعية على أصعدتها المختلفة. ومن هنا فإن درجة مشاركة النساء في الجوانب المختلفة للواقع الاجتماعي تقف مؤشراً أساسياً على وضع المرأة ومشكلاتها، ومكانتها وقوتها وتمكنها في المجتمع. وتشترط عملية المشاركة بصفة عامة درجة معينة من القوة أو التمكين, إذ أن المشارك في الحياة اليومية هو فاعل لديه القدرة على الفعل والاختيار وتحقيق الأوضاع والأهداف التي يرغبها«.
ومن واقع تحليل الأوضاع الاجتماعية للمرأة يتضح أن أهم معوقات تفعيل تمكينها تتمثل في اختلاف الأهمية النسبية لتعليم الفتيات عن تعليم الذكور, وهي ثقافة سائدة داخل الأسر العربية, وهو ما يعني حرمانها من التعليم, وبالتالي ارتفاع نسبة الأمية بين النساء عن الرجال. هذا على الرغم من أن ديننا الإسلامي الحنيف قد أكد على ضرورة إعطاء المرأة كافة حقوقها, وفرض للمرأة من الحقوق ما تصل إليه حتى الآن في أعتى الدول الغربية.
لذا فنحن نؤكد على أهمية تمكين المرأة؛ ولكن بالمفهوم الإسلامي وليس بالمفهوم الغربي الذي يرى أن التمكين يعني تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. وهذه رؤية خاطئة لأن المرأة (تماثل الرجل في أمور وتفارقه في أخرى, وأكثر أحكام الشريعة الإسلامية تنطبق على الرجال والنساء سواء).
ذو صلة