مع تكاثر أنماط الموسيقى صار من الصعب الاستماع والاستمتاع بنمط أوحد مما ينشر عالمياً وعربياً كـ(الجاز والميتال والهيفي ميتال والراب والهيب هوب Hip hop)، ولقد انتشرت الأخيرة خلال السنوات الماضية بشكل واسع لتنافس وتتفوق على العديد من الموسيقات والغنائيات المعاصرة؛ فوصلت مبيعاتها إلى 13,8 % من إجمالي مبيعات الموسيقى الأمريكية.
يدمج فن الهيب هوب وغنائياته بين مجموعة من الثقافات الموسيقية التي تم تفكيك أنغامها وتحديث إيقاعاتها ودمج موسيقاها وإضافة بصمة خاصة أنتجت أكثر الموسيقات الصارخة إثارة للجدل بتجسيدها لقضايا الإنسان المعاصر وإشكالياته المختلفة، ورغم أنها موسيقى وافدة على المنطقة العربية من أحياء وشوارع أمريكا إلا أنها موسيقى عالمية وشعبية في آن واحد، تتجاوز الاختلافات الثقافية واللغوية بمفاهيمها وأهدافها المعلنة في الإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
فن شعبي أم عنصري
الهيب هوب حركة ثقافية وفنية تجمع بين عدة عناصر. أنشأه الأمريكيون من أصول أفريقية وأمريكية جنوبية خصوصاً جامايكا وبور توريكو في أوائل السبعينيات، وكثيراً ما يخلط بين الراب والهيب هوب فتطلق كلمة راب Rap على ما كان يسمى قائد الاحتفال Master ceremony وهو عادة الشخص الذي يقدم العازفين، أما العنصر الثاني فهو DJ أو الفن الخاص بتشغيل الأسطوانات الموسيقية ودمج الأصوات والمؤثرات بالقصائد التي تستخرج كلماتها من الواقع وتعبر عنه، وكانت بداية تكتب على الجدران وترسم ليقودنا بذلك للعنصر الثالث وهو فن الجرافيتي Graffiti وهو الرسم على الجدران كنوع من التعبير البصري، وهو يرجع إلى العصر الروماني لكنه اتخذ شكلاً معاصراً اختفى عن الهيب هوب طابعاً مرئياً فريداً، ويشكل الرقص أو Breaking Dance عنصراً رابعاً. من ناحية أخرى تعتبر كلمة الراب اختصاراً لجملة Rhythmic African poetry وتعني الشعر الأفريقي المقفى، ولقد استخدمت الكلمة في اللغة الإنجليزية بمعنى (يقول) منذ القرن الـ18م وباتت جزءاً من لغة الأمريكيين الأفارقة منذ الستينات، والراب نوع غنائي صاخب الأنغام متقطع الإيقاع وأحياناً بدون إيقاع نهائي مجرد سرد سريع يجري فيه التحدث وترديد الأغنية بقافية معينة دون الالتزام بلحن معين أو إيقاع فيما يعرف بالنمط الحر (فري ستايل)، وعامة فإن صوت المغني ليس هو المعيار إنما نبضات الموسيقى وكلمات الأغنية، وهكذا فالراب من حيث الأسلوب يقع في منطقة رمادية وسطى بين الكلام والشعر والنثر والغناء يقوم المؤدي بترديد (وليس غناء) إيقاعي سريع لكلمات تتكون من عدد كبير من القوافي تعالج عدداً من الموضوعات الشخصية أو الاجتماعية أو العاطفية أو السياسية التي غالباً ما تكون مثيرة للجدل ومتحررة إلى حد كبير فهناك جرأة في استخدام أي لفظ بدون أي تحفظ ولعل ذلك أكبر مشكلات أغاني الراب والتي تتعارض مع خصوصيات وثقافات وعادات الشعوب العربية، أما جماليات صوت وحنجرة المؤدي يعد عاملاً ثانوياً –رغم جماليات أصوات البعض– لكنها عامة غير مهمة فمن الممكن أن يؤدي الراب أي شخص ولذلك لا يسمى مغنياً بل مؤدي راب أو رابر RAPPER. وتؤسس موسيقى الهيب هوب ضمن أنواع أخرى كالراب والبيرليسيون والأليكتروفيزون والهارد روك والجاز والبلوز؛ تؤسس جميعها لانتماءات موسيقية مصدرها المجتمعات الهامشية والشوارع بمشكلاتها، فحين تحدث العالم الاجتماعي (السوسيولوجي) إميل دور كايم عن أن الوعي الجمعي هو نظام من القوالب الجاهزة السلطوية كان يمهد إلى لغة هامشية مركزها الذات وتؤسس للغيرية والاختلاف. هذه الفلسفة نهل منها العديد من الاتجاهات الفنية والموسيقية وهكذا ولدت ثقافة الهيب هوب تحديداً بحي BRONX في نيويورك وسط أجواء من الظلم وعذاب العبودية والعنصرية بين الأبيض والأسود والمشكلات الاجتماعية المستعصية التي تأتت كرد فعل وتعبير عما يجول في صدور شباب دون سن الثلاثين من ضيق وحقد، وأيضاً كفن مستقل بهم بقي لأكثر من ثلاثين عاماً معروف ضمن نطاق محدود جغرافياً لكنه خلال السنوات الأخيرة عبر لكل القارات بعد أن وجد كثقافي صدى كبيراً فظهرت عدة فرق غنت الهيب هوب كلغة جديدة حركت سكون المجتمعات بصرخاتها المثيرة للجدل فاقتسمت المجتمعات بدورها مابين مؤيد لها ومعارض.
وغالبا ما يتداول هذه الموسيقى والغنائيات الشعراء الشعبيون وشباب الشوارع الذين يعانون من القهر والظروف المادية والاجتماعية المتعثرة، كالفقر والبطالة والإدمان، أو الذين دفعتهم قسوة الحياة إلى الانخراط في عالم العصابات وتجارة المخدرات، ولا يضع ذلك الهيب هوب ضمن إطار ضيق حدوده الفقر والمخدرات والجريمة والانحراف فهناك اتجاهات كثيرة وروافد اتحدت مع موسيقاه، مثل الجاز التي شهدت بدورها تطوراً حاكت من خلاله موسيقى الراب والهيب هوب، وبإلغاء نظام العبودية عام 1863م على يد الرئيس الأمريكي الراحل إبراهام لينكولن وبنهاية الحرب الأهلية الأمريكية التي تكثر فيها علب الليل وصالات الرقص والفرق الموسيقية فأطلقوا العنان للموسيقى التي توارثوها من بلادهم الأصلية عبر الأجيال لتعبر عن روحهم المخطوفة الممزوجة بعذابات العبودية، وشيئاً فشيئاً عرفوا الآلات النحاسية كالساكسفون والترمبيت التي تركتها الفرق الموسيقية العسكرية بعد انتهاء الحرب فابتكروا موسيقى الجاز وتطوروا بها نحو العالمية.
وهناك نماذج للجاز قلدت موسيقى الهيب هوب أضيفت لها روافد جديدة كالراب روك منذ الثمانينيات من القرن الماضي العصر الذهبي لموسيقى وغنائيات الهيب هوب حيث تطورت موسيقى الراب بشكل مكثف وتحولت الهيب هوب تحولاً تاريخياً مع إبداعات بعض الفرق الموسيقية ولم تعد حكراً على الأحياء الفقيرة المهمة ليبدأ عصر جديد من الراب يعرف بالجانجستا GANGSTA، وقد قوبل هذا النجاح بجدل إعلامي واسع للأسلوب العدائي المتطرف لبعض الفرق إضافة للكثير من الصفات السلبية كالعنف واللامبالاة والعدوانية والعصبية والكلمات البذيئة المسفة.
هيمنة النموذج الأمريكي
لعل أحد أهم الأسباب التي دفعت بموسيقى الهيب هوب إلى الشوارع العربية هو هيمنة أنموذج الثقافة الأمريكية من خلال السينما ووسائل الإعلام المختلفة، فهناك ميل دائم لدى الشباب العربي للتقليد خصوصاً أن أي نوع من الثقافات الأمريكية يروج له بمنتهى الذكاء والمهارة والحرفية إضافة لشبكة الإنترنت العالمية الأنموذج والوسيلة الأمثل للترويج الموسيقي خصوصاً أن معظم روادها من الشباب، فتوسعت قاعدة المعجبين بغنائيات الهيب هوب وموسيقاه بجرأتها وخروجها عن المألوف في تعبيرها عن الغضب والإحساس بالقهر والفساد، وربما يكون استخدامها لما يتعارض مع خصوصيتنا العربية والإسلامية من أخطر المشكلات التي تعترضها خصوصاً شكلها الخارجي الذي يتشبه بالغرب من زي وإكسسوار ورقصات خليعة وألفاظ بذيئة ممجوجة وتحريض على العنف والتوتر والصراخ والتطرف فقد نشأت كاستجابة للعبودية والتعبير عن مشكلاتها، يقول أستاذ الموسيقى (باترسون): «ثقافة الهيب هوب رد فعل على الظلم الذي تعرض له السود من البيض، وهي أيضاً نظام للاتصالات بين الزنوج في جميع أنحاء أمريكا». وكان أحد أهدافها التي خطط لها بعناية هو إشغال الشباب السود في أمريكا وامتصاص طاقاتهم وتحييدها بانضمامهم لفرقها والمنافسة في الرقص والغناء بدل الانضمام لعصابات الجريمة المنظمة، وبالتالي العنف والقتل والمخدرات.. فهل حدث ما تم التخطيط له من فوائد؟ للأسف ظهرت العديد من المشكلات والتي تتزايد إلى الآن ففرقت الجهود وأهدرت الطاقات فيما لا طائل من ورائه واستفاد الرجل الأبيض من استغلاله للأسود بعد أن أصبحت حفلات الهيب هوب الأمريكية الصناعة مكاناً لاستعراض الأسلحة وتناول المخدرات وممارسة الفواحش والكبائر وسيطرت عليها ونظمتها عصابات عتيدة في الإجرام.
وقد أفرز ميدان التحرير أثناء الثورة 25 يناير أشكالاً جديدة للأغنية الوطنية كالهيب هوب التي جاءت كلماتها وألحانها من أفواه الشباب (حسب رأي الموسيقار حلمي بكر) إلا أن غنائياتهم السطحية لم تصمد طويلاً أمام أغنيات الجيل الماضي الوطنية باعتبارها أغان خالدة لن تموت بمرور الزمن.
ويتم استغلال موسيقى الهيب هوب في تغيير اتجاهات الشباب نحو مزيد من الانفلات اللفظي والأخلاقي بغناء يثير البلبلة في الإفهام ويحمل الكثير من صفات العنف واللامبالاة، فتاريخ الراب والهيب هوب يمتلئ بالنماذج السلبية التي من الممكن ممارستها في أجواء متفجرة، فتتحول بدلاً من الإصلاح -وهو الهدف المعلن- إلى إفساد الأذواق والفوضى الفنية -وهو الهدف السري الإستراتيجي- وهذه هي الحرب بالموسيقى وبالغناء.
ويصعب على الكثير من شباب الراب تذوق الموسيقى العربية أو الكلاسيكية وفي كثير من الأحيان تعقد صداقات وتنفك أخرى خصوصاً بين المراهقين طبقاً لأنماط الموسيقى المصغى إليها، فمن المتواتر رؤية فتيان يتبادلون النقد بحدة ويحطمون صداقات لأن عضواً من مجموعة أصدقاء يستمع إلى أنواع موسيقية مختلفة، ونعثر أيضا على الأمر ذاته بين عدد كبير من الكهول، وفي هذا الصدد تسهل ملاحظة التطرف وقمع هؤلاء المعجبين بالهيب هوب كغناء وموضة جديدة لهويتهم الشخصية ليأخذوا هوية نجوم الهيب هوب والراب بكل ما تحمله من إشكاليات وسلبيات فيقلدونها تقليداً أعمى لتنزل بهم الحرب الموسيقية الغنائية هزائم نفسية ووجدانية متتالية أبلغ أثراً من كل الحروب العسكرية.