توافقت جميع المعاجم والقواميس الدرامية على وصف المونودراما (monodrama) بأنها من الأنواع الدرامية العريقة -كما سنعرف في السياق, وأضافت أن أعم وأشمل تعريف دارج لها هو القول بأنها (مسرحية متكاملة العناصر يقوم بالأداء التمثيلي لجميع أدوارها ممثل فرد أو ممثلة واحدة). وقد عادت المونودراما إلى الظهور بصورة جديدة على سطح المشهد المسرحي العربي والعالمي بعد غياب طويل انتصرت فيه الدراما المسرحية لما لا حصر له ولا عدد من الأنواع المسرحية والدرامية الجديدة.
ومن مظاهر ذلك انتشار المهرجانات المسرحية المخصصة لهذا النوع الدرامي النادر, فيقام حالياً سنوياً في مصر وبصفة منتظمة ومستمرة أكثر من مهرجان مونودراما مسرحي, أحدها يقيمه مركز (ساقية الصاوي) الثقافي, وآخر يقيمه مركز (روابط)، وثالث تستدعيه أحياناً الجمعية المصرية لهواة المسرح, بالإضافة إلى عدد من الخلايا المسرحية الخاصة والمهرجانات الحديثة التي أنشئت في أعقاب ثورة يناير2011، والتي تترك في برامجها حيزاً للمونودراما. وفى سوريا كان يقام (مهرجان اللاذقية للمونودراما)، وفى دولة الإمارات العربية المتحدة تستمر فعاليات مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما، وفى العراق أقيم مهرجان (جعفر السعدي) للمونودراما, وفى فلسطين يقام مهرجان (مسرحيد) للمونودراما, وهو عنوان مقتبس من تعريف فن المونودراما بأنه مسرحية ممثل واحد (وحيد). ويقام في المملكة العربية السعودية أكثر من مهرجان للمونودراما, إلى جانب وجودها ضمن كثير من الفعاليات المسرحية بسبب ندرة العناصر التمثيلية بالمملكة. وفى المغرب وتونس وكذلك الأردن.. وغيرها, حتى أعلنت بعض المواقع الإلكترونية عن إطلاق رابط تشعبي خاص فقط بمهرجانات المونودراما.
والتحدي الذي يلقاه هذا النشاط الدرامي المونودرامي يتمثل في صعوبة إعداد عروضه التي تعتمد على مؤدٍّ واحد خلاف نظائرها من العروض المسرحية الأخرى التي تتعدد فيها العناصر التمثيلية, فتساعد بعضها في أداء المهام الدرامية العديدة الخاصة بعنصر التمثيل الذي يتحمله في المونودراما عنصر وحيد, لذلك يجب أن يمتلك طاقات تمثيلية كبيرة وفريدة لكي تكون قادرة على جذب اهتمام المتلقي بموهبة تمثيلية حقيقية, يتسم صاحبها بالصدق وأصالة الأداء وبراعة التشخيص, بحيث لا يسبب للمتابع (المشاهد) إحساساً بالملل نتيجة الرتابة وبطء الإيقاع أثناء التلقي بتوظيف جميع مهاراته, وتراعى كذلك الاحترافية في تطويع جميع الوسائط لضبط إيقاع العرض بطريقة تحتفظ بانتباه المشاهد طوال وقت العرض, تيمناً بكل القواعد التي يرددها المسرحيون لتحقيق ذلك من أول الحرص على براعة الاستهلال مروراً بالموضوع الجيد للعرض وصولاً إلى حسن الختام.
لأجل هذه الصعوبات كانت العروض المسرحية المونودرامية نادرة, وأوشكت على الانقراض والاختفاء مثل العديد من الكيانات الأصيلة التراثية العريقة, بالرغم من أنها بديل مثالي للمسرح الميت أو حالة اللامسرح التي تهدد الكثير من بلدان العالم بسبب الطفرات التكنولوجية المتلاحقة وسيطرة التليفزيون بقنواته الفضائية والسينما والزحف الموحش للمالتيميديا على نوافذ المشاهدة والتعليم والترفيه. والأمل الوحيد للخروج من هذا المأزق الدرامي الذي تمر به بعض الكيانات المسرحية الجادة هو إعادة إحياء المونودراما, وهو ما حدث على المشهد المصري والعربي, بل العالمي دون استعداد أو تخطيط, لأن المسرح يحمل في داخله عناصر بقائه التي اكتسبها من سنوات ملازمته الطويلة للإنسانية بوصفه نشاطاً موازياً للحياة الدنيا (المسرح الكبير).
صناعة العرض المسرحي المونودرامى تحتاج إلى قدر أكثر من إعمال الفكر وبذل الجهد بغية الحصول على أفضل توظيف ممكن لجميع العناصر المسرحية, والتي وصل عددها حسب أحدث النظريات النقدية إلى ثلاثة عشر عنصراً مسرحياً هي (الإكسسوار والديكور والإضاءة والملابس والسينوغرافيا والموسيقى والمؤثرات والأغاني والاستعراضات والأقنعة بالإضافة إلى النص والتمثيل والإخراج)؛ وذلك لهدف تغطية ثقوب العرض التي يسببها ندرة عدد المشاركين من الممثلين فيه، وكثير من العناصر المسرحية المذكورة تعتبر نواتج لتطورات في التقنية التي عرفتها الإنسانية في سنواتها الأخيرة, وبالرغم من ذلك استوعبها المسرح الذي كان فى بداياته يعتمد فقط على العنصر البشري مع بعض الأقنعة التي تعتبر العنصر الوحيد الثابت في الماضي والحاضر من بين العناصر المسرحية المذكورة. ونخلص من ذلك إلى واقع أن المسرح يحمل من خصائص المرونة والقدرة على التطبع ما أهله للتواصل مع كل الطفرات العلمية التي عرفتها الإنسانية منذ 2500 سنة وحتى الآن, فالإنسان سريع التكيف مع الزمان والمكان.
العنصر المسرحي الوحيد الثابت استخدامه في المسرح اليوناني القديم هو (الأقنعة) التي كانت تستخدم لتغيير الشخصيات في المرحلة الطويلة من عمر الدراما الإغريقية التي كان يقوم فيها ممثل واحد بأداء جميع الأدوار بل والقيام بكل وظائف العمل المسرحي كالتأليف والإخراج.. كما هو معروف عن بداية معرفة الإنسان للدراما المسرحية، ولذلك نستطيع أن نعتبر أن ظاهرة انتشار المونودراما من جديد هي إحياء لهذا النشاط الإنساني، واحتفظت الذاكرة الدرامية ببيانات عن واحد فقط من هؤلاء الرواد الدراميين الأوائل (القدماء) ظهر قرب عام 560 ق.م وهذا الممثل هو (تسيبس) أو (ثيبس) كما جاء بكتاب فن الشعر للمنظر الدرامي الأول في العالم أرسطو, وثيبس هذا هو صاحب العربة الشهيرة لأنها الأولى في تاريخ الدراما الإنسانية التي كان صاحبها يحمل فيها جميع احتياجات العرض الذي كان يقدم في التجمعات والأسواق والاحتفالات الإغريقية, وحتى هذه اللحظة من تتبع السيرة التاريخية للمونودراما نستطيع الإقرار بأن (تسيبس) هذا هو أبو المونودراما وفقاً للتعريف المختصر الذي بدأنا به هذا المقال. ولتأكيد ذلك الزعم أو تداركه سوف نطلع على تعريف المونودراما من خلال أهم معاجم المصطلحات المسرحية المعروفة بعالمنا العربي حتى الآن والتي تتفق على تعريفها على النحو التالي:
المونودراما ( monodrama ) هي دراما الممثل الواحد ويتكون المصطلح من الكلمتين اليونانيتين mono أي وحيد أو واحد وdrama أي الفعل، وقد يستخدم للتعبير عن الشيء نفسه تعبير آخر هو عرض الشخص الواحد (onman show), وقد أطلقت هذه التسمية على نوع من المسرحيات القصيرة التي انتشرت في ألمانيا على يد الممثل (جوها برانديز), ثم في إنجلترا من 1775 إلى 1780م, وكان يؤدي الأدوار فيها ممثل واحد أو ممثلة واحدة, بالإضافة إلى عدد من الكومبارس أو الجوقة مع استخدام الموسيقى في بعض العروض، ويقوم هذا النوع من العروض المسرحية أساساً على مهارة الممثل في الأداء, إذ يحتاج دائماً إلى محاكاة عدة أشخاص في أوقات متتالية ومتقاربة داخل العرض متنقلاً بسرعة كبيرة بين حالات نفسية مختلفة وأزمنة متعددة وأماكن متباعدة, كما يحتاج ممثل المونودراما إلى إيهام المتلقي من خلال صدق تقمصه إلى وجود شخصيات أخرى غائبة يُجري معها حواراً درامياً ويتعامل معها.
وتتطلب المونودراما نوعاً خاصاً من الإخراج يختلف تماماً عن العرض التقليدي, من حيث العمل على إيجاد نقاط ارتكاز للمثل يتكئ عليها في إثراء منتجه الفني, بما لها من قدرة على الدلالة والتعبير لتكون عوضاً عن الشخصيات المسرحية الغائبة, فتتحول قطع الإكسسوار والديكور إلى محاور بديلة عن المحاور الغائب, إذ يجري الممثل حواراً مع صورة لشخص أو أشخاص أو يتحاور مع ثياب معلقة تمثل أفراداً أو جماعات أو يهاتف شخصيات غير مرئية، وكذلك تستخدم في عروض المونودراما الإضاءة والمؤثرات السمعية والبصرية بطرق أكثر عمقاً وأهمية مما هي في العروض التقليدية التي تنحصر أهميتها في السماح بالانتقال من زمن إلى آخر أو من مكان لآخر. ومتلقي عروض الممثل الواحد يحتاج إلى جهد وتفاعل أكثر لمواكبة متطلبات العرض وملء ثقوبه وسد فجواته بخصوص تخيل كل ما يتعذر وجوده في عرض يفترض أن ينقل كل مظاهر الحياة بواسطة ممثل واحد بما يؤدي إلى ندرة الحوادث الدرامية, وعلى ذلك فإنه لابد من البداية أن يتم الاتفاق مع متلقي المونودراما على أن يُقر بقبول الدخول فى اللعبة المسرحية والإسهام في صناعتها والتورط فيها كشريك حقيقي فاعل؛ لأن الأمر في عروض المونودراما يتماشى جملة من حيث المضمون مع مقولة شهيرة للمسرحي العالمي (بيتر بورك) بأن جميع العناصر المسرحية تذوب وتختفي وتتلاشى تماماً في حالة نجاح الممثل في أداء دوره, ولذلك عملياً نجد عروض المونودراما تعتمد في تنفيذها على نجوم من عمالقة الأداء المسرحي المخلصين لهذا الفن الراقي الرفيع, حيث يقوم هذا العمل مهما أخلصت باقي صناع اللعبة المسرحية في أداء أدوارها على أكتافهم وبكامل طاقاتهم وقدرتهم التمثيلية، وبرهان ذلك من تاريخ المسرح العالمي المعاصر قيام الممثلة السينمائية الفرنسية الشهيرة (إيزابيل هوبير) عام 1993م بتقديم مونودراما أخرجها وأعدها الأمريكي (روبرت ويلسون) عن رواية (أور لندو) تأليف: فيرجينيا وولف.
من أشهر نصوص المونودراما مسرحية (مضار التبغ) للكاتب الروسي (أنطوان تشيكوف) (1860 - 1904) التي عرفها بأنها منولوج في فصل واحد, وهو تعبير آخر يعني المونودراما, ولكن من خلال الحوار الفردي الذي يقوم بإجرائه ممثل واحد.
ومن أشهر النصوص أيضاً مسرحية (الصوت الإنساني) للكاتب الفرنسي (جان كوكتو 1889 - 1963)
وللمسرحي الرائد (هارولد بنتر) نص مسرحي مونودرامي بعنوان (مونولوج), وهي مسرحية قام بتمثيلها لأول مرة الممثل (هنرى وولف) وعرضت للمرة الأولى بتلفزيون ألبي بي سي يوم 13 أبريل 1973م.
تتميز المونودراما بقدرتها على السماح بتحويل أي نص أدبي كالقصيدة والقصة والرواية وتداعى الذكريات إلى عروض مسرحية, إضافة إلى عدم احتياجها من المواهب التمثيلية النادرة إلا إلى ممثل واحد (عنصر واحد)، وهذا العنصر إن نجح فهو النجاح وإن أخفق قلنا لا بأس, فهو واحد لم يجد من يسانده أو يخفف عنه, ولذلك انتشر هذا النوع المسرحي حالياً في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين فترة اندحار وكساد المسرح بسبب الصراع غير المتكافئ مع الأجناس الدرامية الأخرى؛ لأنه لا يحتاج إلى فرقة ومكان مجهز للتدريبات أو العرض, ولا يحتاج كذلك إلى إنتاج كبير يتطلب مؤسسة أو هيئة, ولذلك كما قلنا أمكن رصد تجارب عربية كثيرة تتجه إلى طريق المونودراما مثل تجربة الممثل الفلسطيني (زيناتي قدسية) التي استند في صناعتها إلى نصوص (الزبال) و(القيامة) و(حال الدنيا) لممدوح عدوان, وكذلك مونودراما (جرسه) التي قدمها اللبناني (رفيق على أحمد) ومونودراما (حيّ المعلم) التي كتبها وأداها التونسي محمد إدريس, وتجربة (رحلة العطش) و(برج النور) التي ألفها وقدمها المسرحي المغربي (عبد الحق الزروالي) من خلال ما أسماه المسرح الفردي، وأخيراً مونودراما (الممثلة التي عشقت نجيب محفوظ) التي قام بإخراجها عمر دوارة للممثلة المصرية المتألقة (انتصار) والتي عرضت في المهرجان الوطني للمسرحيات القصيرة الذي عقد بمدينة (سلا) للمسرحيات القصيرة في المملكة المغربية, وتتوالى التجارب والعروض, بحيث لا تخلو صفحات الأخبار المسرحية من ذكر تجارب مونودراما عرضت أو يستعد لعرضها في مكان ما بوطننا العربي.
ولذلك يمكننا القول إنه إذا كانت العروض المسرحية السابقة على المستوى العربي والمحلي محدودة إلى حد ما ويسيرة الحصر؛ فإن العروض القادمة ستصبح عدة أضعاف، ولذلك كان لابد من استقبالها بهذه المراجعة السريعة لخصائص ومواصفات هذا النوع المسرحي العائد من التراث المسرحي.