مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

عودة المونودراما

‏ توافقت جميع المعاجم والقواميس الدرامية على وصف المونودراما (‏monodrama‏) بأنها من الأنواع الدرامية ‏العريقة -كما سنعرف في السياق, وأضافت أن أعم وأشمل تعريف دارج لها هو القول بأنها (مسرحية متكاملة ‏العناصر يقوم بالأداء التمثيلي لجميع أدوارها ممثل فرد أو ممثلة واحدة). وقد عادت المونودراما إلى الظهور ‏بصورة جديدة على سطح المشهد المسرحي العربي والعالمي بعد غياب طويل انتصرت فيه الدراما المسرحية لما ‏لا حصر له ولا عدد من الأنواع المسرحية والدرامية الجديدة.‏
ومن مظاهر ذلك انتشار المهرجانات المسرحية المخصصة لهذا النوع الدرامي النادر, فيقام حالياً سنوياً في ‏مصر وبصفة منتظمة ومستمرة أكثر من مهرجان مونودراما مسرحي, أحدها يقيمه مركز (ساقية الصاوي) ‏الثقافي, وآخر يقيمه مركز (روابط)، وثالث تستدعيه أحياناً الجمعية المصرية لهواة المسرح, بالإضافة إلى عدد ‏من الخلايا المسرحية الخاصة والمهرجانات الحديثة التي أنشئت في أعقاب ثورة يناير2011، والتي تترك في ‏برامجها حيزاً للمونودراما. وفى سوريا كان يقام (مهرجان اللاذقية للمونودراما)، وفى دولة الإمارات العربية ‏المتحدة تستمر فعاليات مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما، وفى العراق أقيم مهرجان (جعفر السعدي) ‏للمونودراما, وفى فلسطين يقام مهرجان (مسرحيد) للمونودراما, وهو عنوان مقتبس من تعريف فن المونودراما ‏بأنه مسرحية ممثل واحد (وحيد). ويقام في المملكة العربية السعودية أكثر من مهرجان للمونودراما, إلى جانب ‏وجودها ضمن كثير من الفعاليات المسرحية بسبب ندرة العناصر التمثيلية بالمملكة. وفى المغرب وتونس وكذلك ‏الأردن.. وغيرها, حتى أعلنت بعض المواقع الإلكترونية عن إطلاق رابط تشعبي خاص فقط بمهرجانات ‏المونودراما.‏
‏ والتحدي الذي يلقاه هذا النشاط الدرامي المونودرامي يتمثل في صعوبة إعداد عروضه التي تعتمد على مؤدٍّ ‏واحد خلاف نظائرها من العروض المسرحية الأخرى التي تتعدد فيها العناصر التمثيلية, فتساعد بعضها في أداء ‏المهام الدرامية العديدة الخاصة بعنصر التمثيل الذي يتحمله في المونودراما عنصر وحيد, لذلك يجب أن يمتلك ‏طاقات تمثيلية كبيرة وفريدة لكي تكون قادرة على جذب اهتمام المتلقي بموهبة تمثيلية حقيقية, يتسم صاحبها ‏بالصدق وأصالة الأداء وبراعة التشخيص, بحيث لا يسبب للمتابع (المشاهد) إحساساً بالملل نتيجة الرتابة وبطء ‏الإيقاع أثناء التلقي بتوظيف جميع مهاراته, وتراعى كذلك الاحترافية في تطويع جميع الوسائط لضبط إيقاع ‏العرض بطريقة تحتفظ بانتباه المشاهد طوال وقت العرض, تيمناً بكل القواعد التي يرددها المسرحيون لتحقيق ‏ذلك من أول الحرص على براعة الاستهلال مروراً بالموضوع الجيد للعرض وصولاً إلى حسن الختام.‏
لأجل هذه الصعوبات كانت العروض المسرحية المونودرامية نادرة, وأوشكت على الانقراض والاختفاء مثل ‏العديد من الكيانات الأصيلة التراثية العريقة, بالرغم من أنها بديل مثالي للمسرح الميت أو حالة اللامسرح التي ‏تهدد الكثير من بلدان العالم بسبب الطفرات التكنولوجية المتلاحقة وسيطرة التليفزيون بقنواته الفضائية والسينما ‏والزحف الموحش للمالتيميديا على نوافذ المشاهدة والتعليم والترفيه. والأمل الوحيد للخروج من هذا المأزق ‏الدرامي الذي تمر به بعض الكيانات المسرحية الجادة هو إعادة إحياء المونودراما, وهو ما حدث على المشهد ‏المصري والعربي, بل العالمي دون استعداد أو تخطيط, لأن المسرح يحمل في داخله عناصر بقائه التي اكتسبها ‏من سنوات ملازمته الطويلة للإنسانية بوصفه نشاطاً موازياً للحياة الدنيا (المسرح الكبير). ‏
صناعة العرض المسرحي المونودرامى تحتاج إلى قدر أكثر من إعمال الفكر وبذل الجهد بغية الحصول على ‏أفضل توظيف ممكن لجميع العناصر المسرحية, والتي وصل عددها حسب أحدث النظريات النقدية إلى ثلاثة ‏عشر عنصراً مسرحياً هي (الإكسسوار والديكور والإضاءة والملابس والسينوغرافيا والموسيقى والمؤثرات ‏والأغاني والاستعراضات والأقنعة بالإضافة إلى النص والتمثيل والإخراج)؛ وذلك لهدف تغطية ثقوب العرض ‏التي يسببها ندرة عدد المشاركين من الممثلين فيه، وكثير من العناصر المسرحية المذكورة تعتبر نواتج لتطورات ‏في التقنية التي عرفتها الإنسانية في سنواتها الأخيرة, وبالرغم من ذلك استوعبها المسرح الذي كان فى بداياته ‏يعتمد فقط على العنصر البشري مع بعض الأقنعة التي تعتبر العنصر الوحيد الثابت في الماضي والحاضر من ‏بين العناصر المسرحية المذكورة. ونخلص من ذلك إلى واقع أن المسرح يحمل من خصائص المرونة والقدرة ‏على التطبع ما أهله للتواصل مع كل الطفرات العلمية التي عرفتها الإنسانية منذ 2500 سنة وحتى الآن, فالإنسان ‏سريع التكيف مع الزمان والمكان.‏
العنصر المسرحي الوحيد الثابت استخدامه في المسرح اليوناني القديم هو (الأقنعة) التي كانت تستخدم لتغيير ‏الشخصيات في المرحلة الطويلة من عمر الدراما الإغريقية التي كان يقوم فيها ممثل واحد بأداء جميع الأدوار بل ‏والقيام بكل وظائف العمل المسرحي كالتأليف والإخراج.. كما هو معروف عن بداية معرفة الإنسان للدراما ‏المسرحية، ولذلك نستطيع أن نعتبر أن ظاهرة انتشار المونودراما من جديد هي إحياء لهذا النشاط الإنساني، ‏واحتفظت الذاكرة الدرامية ببيانات عن واحد فقط من هؤلاء الرواد الدراميين الأوائل (القدماء) ظهر قرب عام ‏‏560 ق.م وهذا الممثل هو (تسيبس) أو (ثيبس) كما جاء بكتاب فن الشعر للمنظر الدرامي الأول في العالم ‏أرسطو, وثيبس هذا هو صاحب العربة الشهيرة لأنها الأولى في تاريخ الدراما الإنسانية التي كان صاحبها يحمل ‏فيها جميع احتياجات العرض الذي كان يقدم في التجمعات والأسواق والاحتفالات الإغريقية, وحتى هذه اللحظة ‏من تتبع السيرة التاريخية للمونودراما نستطيع الإقرار بأن (تسيبس) هذا هو أبو المونودراما وفقاً للتعريف ‏المختصر الذي بدأنا به هذا المقال. ولتأكيد ذلك الزعم أو تداركه سوف نطلع على تعريف المونودراما من خلال ‏أهم معاجم المصطلحات المسرحية المعروفة بعالمنا العربي حتى الآن والتي تتفق على تعريفها على النحو التالي:‏
المونودراما ( ‏monodrama‏ ) هي دراما الممثل الواحد ويتكون المصطلح من الكلمتين اليونانيتين ‏mono‏ أي ‏وحيد أو واحد وdrama‏ أي الفعل، وقد يستخدم للتعبير عن الشيء نفسه تعبير آخر هو عرض الشخص الواحد ‏‏(‏onman show‏), وقد أطلقت هذه التسمية على نوع من المسرحيات القصيرة التي انتشرت في ألمانيا على يد ‏الممثل (جوها برانديز), ثم في إنجلترا من 1775 إلى 1780م, وكان يؤدي الأدوار فيها ممثل واحد أو ممثلة ‏واحدة, بالإضافة إلى عدد من الكومبارس أو الجوقة مع استخدام الموسيقى في بعض العروض، ويقوم هذا النوع ‏من العروض المسرحية أساساً على مهارة الممثل في الأداء, إذ يحتاج دائماً إلى محاكاة عدة أشخاص في أوقات ‏متتالية ومتقاربة داخل العرض متنقلاً بسرعة كبيرة بين حالات نفسية مختلفة وأزمنة متعددة وأماكن متباعدة, كما ‏يحتاج ممثل المونودراما إلى إيهام المتلقي من خلال صدق تقمصه إلى وجود شخصيات أخرى غائبة يُجري معها ‏حواراً درامياً ويتعامل معها.‏
وتتطلب المونودراما نوعاً خاصاً من الإخراج يختلف تماماً عن العرض التقليدي, من حيث العمل على إيجاد ‏نقاط ارتكاز للمثل يتكئ عليها في إثراء منتجه الفني, بما لها من قدرة على الدلالة والتعبير لتكون عوضاً عن ‏الشخصيات المسرحية الغائبة, فتتحول قطع الإكسسوار والديكور إلى محاور بديلة عن المحاور الغائب, إذ يجري ‏الممثل حواراً مع صورة لشخص أو أشخاص أو يتحاور مع ثياب معلقة تمثل أفراداً أو جماعات أو يهاتف ‏شخصيات غير مرئية، وكذلك تستخدم في عروض المونودراما الإضاءة والمؤثرات السمعية والبصرية بطرق ‏أكثر عمقاً وأهمية مما هي في العروض التقليدية التي تنحصر أهميتها في السماح بالانتقال من زمن إلى آخر أو ‏من مكان لآخر. ومتلقي عروض الممثل الواحد يحتاج إلى جهد وتفاعل أكثر لمواكبة متطلبات العرض وملء ‏ثقوبه وسد فجواته بخصوص تخيل كل ما يتعذر وجوده في عرض يفترض أن ينقل كل مظاهر الحياة بواسطة ‏ممثل واحد بما يؤدي إلى ندرة الحوادث الدرامية, وعلى ذلك فإنه لابد من البداية أن يتم الاتفاق مع متلقي ‏المونودراما على أن يُقر بقبول الدخول فى اللعبة المسرحية والإسهام في صناعتها والتورط فيها كشريك حقيقي ‏فاعل؛ لأن الأمر في عروض المونودراما يتماشى جملة من حيث المضمون مع مقولة شهيرة للمسرحي العالمي ‏‏(بيتر بورك) بأن جميع العناصر المسرحية تذوب وتختفي وتتلاشى تماماً في حالة نجاح الممثل في أداء دوره, ‏ولذلك عملياً نجد عروض المونودراما تعتمد في تنفيذها على نجوم من عمالقة الأداء المسرحي المخلصين لهذا ‏الفن الراقي الرفيع, حيث يقوم هذا العمل مهما أخلصت باقي صناع اللعبة المسرحية في أداء أدوارها على أكتافهم ‏وبكامل طاقاتهم وقدرتهم التمثيلية، وبرهان ذلك من تاريخ المسرح العالمي المعاصر قيام الممثلة السينمائية ‏الفرنسية الشهيرة (إيزابيل هوبير) عام 1993م بتقديم مونودراما أخرجها وأعدها الأمريكي (روبرت ويلسون) ‏عن رواية (أور لندو) تأليف: فيرجينيا وولف.‏
من أشهر نصوص المونودراما مسرحية (مضار التبغ) للكاتب الروسي (أنطوان تشيكوف) (1860 - 1904) ‏التي عرفها بأنها منولوج في فصل واحد, وهو تعبير آخر يعني المونودراما, ولكن من خلال الحوار الفردي الذي ‏يقوم بإجرائه ممثل واحد.‏
ومن أشهر النصوص أيضاً مسرحية (الصوت الإنساني) للكاتب الفرنسي (جان كوكتو 1889 - 1963) ‏
وللمسرحي الرائد (هارولد بنتر) نص مسرحي مونودرامي بعنوان (مونولوج), وهي مسرحية قام بتمثيلها لأول ‏مرة الممثل (هنرى وولف) وعرضت للمرة الأولى بتلفزيون ألبي بي سي يوم 13 أبريل 1973م.‏
تتميز المونودراما بقدرتها على السماح بتحويل أي نص أدبي كالقصيدة والقصة والرواية وتداعى الذكريات إلى ‏عروض مسرحية, إضافة إلى عدم احتياجها من المواهب التمثيلية النادرة إلا إلى ممثل واحد (عنصر واحد)، ‏وهذا العنصر إن نجح فهو النجاح وإن أخفق قلنا لا بأس, فهو واحد لم يجد من يسانده أو يخفف عنه, ولذلك انتشر ‏هذا النوع المسرحي حالياً في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين فترة اندحار وكساد المسرح بسبب الصراع ‏غير المتكافئ مع الأجناس الدرامية الأخرى؛ لأنه لا يحتاج إلى فرقة ومكان مجهز للتدريبات أو العرض, ولا ‏يحتاج كذلك إلى إنتاج كبير يتطلب مؤسسة أو هيئة, ولذلك كما قلنا أمكن رصد تجارب عربية كثيرة تتجه إلى ‏طريق المونودراما مثل تجربة الممثل الفلسطيني (زيناتي قدسية) التي استند في صناعتها إلى نصوص (الزبال) ‏و(القيامة) و(حال الدنيا) لممدوح عدوان, وكذلك مونودراما (جرسه) التي قدمها اللبناني (رفيق على أحمد) ‏ومونودراما (حيّ المعلم) التي كتبها وأداها التونسي محمد إدريس, وتجربة (رحلة العطش) و(برج النور) التي ‏ألفها وقدمها المسرحي المغربي (عبد الحق الزروالي) من خلال ما أسماه المسرح الفردي، وأخيراً مونودراما ‏‏(الممثلة التي عشقت نجيب محفوظ) التي قام بإخراجها عمر دوارة للممثلة المصرية المتألقة (انتصار) والتي ‏عرضت في المهرجان الوطني للمسرحيات القصيرة الذي عقد بمدينة (سلا) للمسرحيات القصيرة في المملكة ‏المغربية, وتتوالى التجارب والعروض, بحيث لا تخلو صفحات الأخبار المسرحية من ذكر تجارب مونودراما ‏عرضت أو يستعد لعرضها في مكان ما بوطننا العربي.‏
‏ ولذلك يمكننا القول إنه إذا كانت العروض المسرحية السابقة على المستوى العربي والمحلي محدودة إلى حد ما ‏ويسيرة الحصر؛ فإن العروض القادمة ستصبح عدة أضعاف، ولذلك كان لابد من استقبالها بهذه المراجعة ‏السريعة لخصائص ومواصفات هذا النوع المسرحي العائد من التراث المسرحي.‏
ذو صلة