ذات الحكاية تكرر مع تعديل في حبكة فصولها، فقبل أن يلج العالم في الألفية الثانية، تنبأ عدد كبير من الفلكيين والمنجمين بنهاية الحياة البشرية، واختلالها، وقيل حينها إن أنظمة الحاسوب سوف تتعطل، ما يعني انطلاق الصواريخ المبرمجة إلكترونياً لتدمير العالم، بيد أن ذلك لم يتحقق، ولكن.. تلك الأقاويل تمثل أطروحة شائعة في الغرب والعالم، تتخوف من انقلاب التكنولوجيا ضد الإنسان، وتعكس الأفلام الأجنبية رساخة هذه الأفكار.
قبل عامين، ظهر على الشاشة الصغيرة فيلم (نهاية العالم 2012)، الذي استمد فكرته من معتقد قديم لدى (حضارة المايا) –الموجودة في أمريكا الوسطى–، لتتوالى فيما بعد أفكار مماثلة –وأحياناً متطابقة– من حضارات وثقافات مختلفة، شملت الصين، واليابان، وفرنسا، وصولاً إلى أطروحات ذات مرجعية إسلامية.. فكيف توافقت خيوط هذه المرجعيات المختلفة ثقافياً وحضارياً حول نهاية العالم العام الجاري؟، وقد حددت (المايا) النهاية في تاريخ 23 ديسمبر!.
حول هذه القضية الشائكة، وذات البعد الإشكالي، كانت قراءة (علم النفس) والمختصون في (الفلسفة) لـ(التنجيم) و(محاولة تفسير ما وراء الطبيعة)، تركز على جانب الإيهام في مخاطبة الآخر الذي يبحث عن إجابة ما، فيكون (التنجيم)،
التنجيم والتفكير الأسطوري
الأخصائي في علم النفس، الدكتور باسل الحمد، قال لـ(العربية) إنه «لابد من الإشارة أولاً إلى أن تطور الفكر الإنساني من الفكر الأسطوري إلى الفكر الديني إلى الفكر العلمي الحديث أخذ آلاف السنين، وهو يشبه إلى حد ما تطور الفكر لدى الكائن الإنساني؛ فالطفل يميل إلى التفكير الخرافي كثيراً ويميل إلى تفسير الكثير من الظواهر التي تحدث حوله بطريقة تشبه التفكير الأسطوري، ومما نجده في الأساطير. ومن بقايا التفكير الأسطوري لدى الإنسان التنجيم بمختلف فنونه، فربط أحداث حياة الفرد بما ليس له علاقة مباشرة على سلوكه أمر شائع وإن كان لابد من الذكر أن بعض الدراسات أثبتت وجود علاقة إيجابية بين تحولات القمر وبعض الإضرابات الوعائية والقلبية، إلا أن ذلك لا يقدم دليلاً كافياً على تأثير الكواكب والنجوم على مصائر البشر وهو ما يتناقض مع أبسط بديهيات التفكير الديني».
وتابع الحمد «عوداً على موضوع التنجيم لابد من الذكر أنه ينتشر في المجتمعات كافة لكنه أكثر تركيزاً في المجتمعات الفقيرة مادياً وعلمياً أو التي لم تتلق القدر الكافي من التعليم وهو ينتشر أكثر ما ينتشر بين الطبقات الفقيرة عن الطبقات المتوسطة والطبقات الغنية، أما مقارنة المتعلمين بغير المتعلمين فتظهر الفرق الكبير لصالح قليلي التعلم من حيث الإيمان بالتنجيم والاعتماد عليه في شؤون حياتهم».
وفيما يتعلق بكيفية فهمه كأخصائي للتنجيم، يقول «لابد من الذكر أن إحدى النظريات النفسية التي حاولت تفسير كل الظواهر الماورائية اعتمدت مفهوم (الإيحاء)، والإيحاء هو مدى استجابة الشخص لتأثيرات أو رسائل تخاطب اللاشعور وتقوم على جعل الفرد يستجيب للأمور دون تفكير واع، وتنتشر القدرة على التأثر بالإيحاء لدى النساء أكثر منها لدى الذكور ولدى المراهقين والأطفال بدرجات أكبر».
وحول الإيحاء يشير إلى أنه «غالباً ما استخدم كوسيلة علاجية في التحليل النفسي لزرع أفكار محددة ولمعالجة طائفة عريضة من الاضطرابات، مثل الاضطرابات الوسواسية والإدمان، إلا أن اعتماد العلماء اليوم على تقنية الإيحاء بدأت بالتلاشي مقابل التقيات السلوكية المعرفية»، ويرى «أن تأثر الفرد بالرسائل التي يقدمها الموحي أو الشخص المنجم بمحاولة إيصالها وإيهام الفرد بحقيقتها لابد وأن تعتمد على شخصية متكلة واعتمادية عاطفياً». ويؤكد أن «الأشخاص المستقلين والناضجين عاطفياً أو الذين حظوا بتربية أبوية حازمة أميل لمقاومة هذه الإيحاءات من الأشخاص الذين لم تنم شخصيتهم العاطفية والذين كانت تربيتهم متساهلة أو شديدة جداً، وهو تأثير مهم يجب الأخذ به، فالقابلية للإيحاء قد تدلل على شخصية مرضية نكوصية تتمثل في استجابات الطفولة، وهو ما يؤكد على ضعف النضج العاطفي».
عوامل الاعتقاد بالتنجيم
المختص في الإرشاد النفسي الدكتور أمجد أحمد أبو جدي يقول لـ(العربية) إن «المتتبع للثقافات الإنسانية عبر التاريخ والحضارات المختلفة، يلاحظ وجود ميل لدى الإنسان للاعتقاد بالخرافات، والاهتمام بالظواهر الإنسانية غير الطبيعية أو الماورائية»، موضحاً أنه «وعلى الرغم من التقدم العلمي الذي شهده العالم خلال الثورات الصناعية والتكنولوجية، فإننا لا نزال نلاحظ أن مستوى ما قدمه العلم للظواهر الماورائية محدود، إضافة إلى ذلك ما تزال نسبة لا بأس بها من الناس تميل إلى الاعتقاد بالتنجيم ومعرفة الطالع، بل نجد أن هناك أوقاتاً تخصص، وأموالاً تنفق في سبيل ذلك، بل والأكثر من ذلك نجد قرارات تتخذ بالاعتماد على ما يقدمه المنجمون كنصائح وتوقعات».
ويضيف الأستاذ المشارك في كلية علم النفس بجامعة عمان الأهلية «وإذا نظرنا إلى الظاهرة من منظور العلوم النفسية نجد أن هناك عدة عوامل ترتبط في الأشخاص الذي يسعون إلى الاعتقاد بعلم التنجيم؛ وهي: البحث عن إجابات بسيطة تتناسب مع مستواهم الثقافي والعلمي، فالظاهرة تنتشر أكثر بين الأفراد من المستويات الثقافية والعلمية المتدنية، على الرغم من وجود متعلمين يعتقدون بذلك أيضاً. وتجنب التكلفة المرتبطة بإجراء تغييرات جذرية في السلوك. في بعض الأحيان يحتاج الأفراد إلى إحداث تغييرات في عاداتهم وسلوكاتهم حتى يتمكنوا من تجاوز المشكلات التي يواجهونها، إلا أن فئة منهم يفضلون اللجوء إلى التنجيم والاعتقاد به لأنه يقدم حلولاً أسرع بنظرهم ويتجنبون مسؤولية التغيير الجذري في سلوكهم».
ويتابع أبو جدي في عرضه لعوامل ارتباط التنجيم لدى الناس بأنه «خضوع وإذعان اجتماعي، حيث نجد أن هناك نسبة ممن يميلون إلى الاعتقاد بالتنجيم يتصرفون كما يتصرف الآخرون بمحيطهم، وذلك لمجاراتهم والتوحد معهم بسلوكاتهم»، علاوة على أن «التحرر من القلق المرتبط في تحمل المسؤولية، وإلقاء اللوم على الظروف والمتغيرات الخارجية، والاعتقاد بالتنجيم والميل إلى اللجوء إلى الدجالين، يعطي الفرصة للأفراد للخروج من إطار تحمل المسؤولية عن تصرفاتهم أو نتائج أفعالهم، ويلقون اللوم على ظروف خارجية خارقة لا تقع ضمن نطاق سيطرتهم، وهذا الأمر يسهم في تحقيق نوع من التكيف لديهم على الرغم من نتائجها السلبية عليهم».
ويستطرد قائلاً إنها «معتقدات إرثية تم تداولها بين الأجيال، فنجد في بعض الأحيان اللجوء إلى الاعتقاد بالتنجيم مرتبط بالمعتقدات الإرثية المتداولة، وأن التنجيم عبارة عن علم له أصوله وأسسه، يدفع بفئة من الناس إلى الاعتقاد به والإيمان بما يطرحه من تنبؤات لهم، وخصوصاً إذ اقترن ذلك بصدق بعض هذه التنبؤات»، بالإضافة إلى «الخوف من المجهول أو المستقبل، والسعي للحصول على إجابات حول قضايا المستقبل. إذ يوجد لدى الإفراد قلق حول مستقبلهم، خصوصاً حول القضايا الأساسية فيه، مثل: (الزواج، العمل، الدخل، الوضع الاجتماعي)، وهذا القلق يدفع بالإنسان إلى السعي للحصول على تطمينات لتعزيز الشعور بالأمان وخفض مستوى القلق المرتبط بذلك، لذا يجدون في التنجيم إجابات تخفف من مستوى قلقهم وتعطيهم نوعاً من الإحساس بالأمان، مما يعطي دافعاً للإيمان بهم، أو في بعض الحالات الإدمان على ما يقدمه التنجيم من تنبؤات».
صفات المنجمين
ويتطرق أبو جدي إلى عدة صفات تتوفر في المنجمين، أو من يمارسون الدجل، من الممكن أن تحديدها فيما يلي: «أولاً الاستفادة من وجود حاجة أو دافع لدى الناس لحل مشكلة تواجههم، أو وجود تحديات يسعون إلى تجاوزها، وفي هذه الحالة فإن لسان حال صاحب الحاجة يكون (الغريق اللي بدو يتعلق في قشة) فتكون القشة هي ما يقدمه له العاملين في التنجيم أو الدجل، فيكون مضطراً للاعتقاد بها لغياب البدائل والحلول الأخرى، المتوفرة أمامه».
ويتابع: «ثانياً؛ الصورة الاجتماعية النمطية حول نجاعة أساليب الدجل وخصوصاً، عندما يتم إخراجها، بما يوحي بعلاقة الدجال بقوة خارقة، مما يعطي إحساساً بالثقة بهم. ثالثاً؛ الدعاية الإعلامية المبالغ بها لقصص نجاح الدجالين، والمنجمين في التعامل مع قضايا الناس، او صدق تنبؤاتهم، يعطي الشرعية لهم، ويولد الدافع لدى الأفراد من أجل اللجوء إليهم».
وفيما يتعلق بنهاية العالم 2012، والتي أشارت إليها التقارير الصحافية بـ(الظاهرة)، يرى أبو جدي أن «ميل الإنسان إلى الاعتقاد بوجود أحداث كبيرة ترتبط بنهاية العالم في عام 2012 معتمدين على ثقافة المايا، نجد أن هذه الظاهرة تكرر، فقد سادت اعتقادات مشابهة مع حلول العام 2000، بأن العالم سوف ينتهي، وأن معظم هذه الادعاءات قائمة على أسس حدسية بعيدة عن الإثبات العلمي، وبالاعتماد على قراءات شخصية لأساطير تاريخية». وعليه فإن «إيمان الناس الواسع بها يمكن أن يفسر بعوامل نفسية مرتبطة بالخوف من المجهول، خصوصاً وأن العالم قد حقق إنجازات مهمة خلال العقدين الماضيين، مما يخلق تساؤلات حول شكل الحياة المستقبلية التي لا يمكن أن يتم تصورها في ظل المزيد من الإنجازات العلمية لدى فئة واسعة من الناس مما يولد لديهم اعتقادات بأن العالم سيزول»، ويختتم أبو جدي حديثه لـ(العربية) قائلاً «كما أن التغيرات في الظواهر الطبيعية الناتجة عن تدخل الإنسان في عناصر التوازن الطبيعي، يعمل على خلق مخاوف تتجسد في الاعتقاد بنهاية العالم».
التنجيم.. مصدر للدخل
يقول الباحث في شؤون الفلسفة سمير عطية «إن قطاعاً كبيراً من العامة في المجتمعات –لاسيما في العالم الثالث– تبحث عن حل لقضايا (أو مسائل) وجودية ولا تجد في بعض الأحيان تفسيراً لها، أو تعجز عن الوصول إلى نهاية لمسألة ما، فتلجأ إلى التنجيم باعتباره الطريق الوحيد للحل»، مضيفاً أن «هناك معتقدات وثقافات مجتمعية ترسخ مفهوم (التنجيم)، كشيوع الاعتقاد بوجود قوى خارقة، وقدرات ما فوق بشرية يمكن توظيفها عبر المنجم لحل مشاكل الناس».
ويرى عطية أنه «كلما ابتعد الإنسان عن العلم، واستخدام عقله، كان أقرب إلى (الفخ)، رغم أن بعض المتعلمين يقعون به، والسبب في ذلك أن بعض المنجمين يلجأ إلى عملية الإيحاء بالمعرفة، وتعزيزها في عقل ونفسية (الضحية)، ثم تبدأ عملية التحكم بها»، مشيراً إلى أن «البعض –وإن كان مقتنعاً بكذب التنجيم واعتباره دجلاً– يلجأ إليه كحل مؤقت، أو باعتباره مستلباً إليه، فيكون أشبه ما يكون بمريض يحتاج إلى عملية جراحية فيأخذ مخدراً لتسكين الألم، لكن ما يحدث، أن المرض في هذه الحالة سيتفاقم».
وتطرق إلى «التنجيم باعتباره مصدراً مدراً للدخل، أو كقطاع اقتصادي مجز لدى بعض المختصين به، فنشأت الفضائيات التي تقرأ (الطالع)، وتحل مشاكل الناس، فيما صدرت المؤلفات التي أخذت تتنبأ بمآل ومسار شخصية الإنسان –بالاعتماد على الأبراج وتاريخ الولادة والحسبة الرقمية لحروف الاسم–، وبذلك جاءت الإعلانات والاتصالات الغزيرة لفضائيات التنجيم، وأصبحت مبيعات الكتب والمؤلفات ذات الصلة بملايين النسخ»، موضحاً أن «بعض العاملين في (هذا القطاع الاقتصادي) يختارون صفة (فلكي) بدلاً من (منجم)، و(شيخ) بدلاً من (عراف)، لوجود معرفة مسبقة لدى هؤلاء أن (التنجيم) و(العرافة – قراءة الطالع) هي ضرب من الكذب، استناداً إلى الدين الإسلامي».
وأضاف في حديثه لـ(العربية): «عندما تشتد الأزمات، ويدخل المجتمع في حالة من الضيق واليأس من الحلول المطروحة –من قبل الحكومات والهيئات السياسية– فإن البحث يتجه نحو حلول بديلة، منها الذهاب إلى المنجمين لقراءة المستقبل، أو إيجاد حل، وهنا تكمن المشكلة؛ إذ أن حالة الضعف التي يعاني منها المجتمع قد يستثمرها هؤلاء لمنافعهم الخاصة.. وهذا ما يحدث غالباً، وقد تنعكس ردة الفعل لدى الضحية –إن اكتشف الأمر– بجريمة غالباً ما تكون بشعة».