ثمة مثل شائع، نستخدمه في حياتنا اليومية، يقول «ليس كل ما يلمع ذهباً»، ومثل هذا المثل البسيط يراد منه التدقيق والتمحيص في أمر ما حتى يتبين ماهيته وجوهره الحقيقي. وإذا ما طبقنا هذا المثل على العلوم، سنجد أن ثمة علوماً حقيقية مبنية على البرهان العلمي الرصين، وعلى القوانين والنظريات التي اكتشفها العلماء، وهذه النظريات هي في طور التطور والتبدل بشكل دائم، ولذلك سرعان ما تظهر نظريات جديدة تدحض النظريات القديمة، غير أن هذه الأخيرة هي التي لعبت الدور في اكتشاف النظريات الجديدة، وهذا ما يسمى في العلم بـ(التراكم المعرفي) الذي هو ثمرة الجهد الإنساني الخير على مر التاريخ.
في المقابل، ثمة علوم تبدو وكأنها حقائق دامغة لا يرقى إليها الشك. لكن، لدى اختبارها ووضعها على المحك، نكتشف مدى زيفها وبطلانها، وهذه العلوم تسمى (العلوم الزائفة)، وهي بالتعريف البسيط والمختزل تشمل مجموعة من المعارف والمناهج والطرائق والمعتقدات التي تبدو، للوهلة الأولى، وكأنها تتمتع بمواصفات العلم وخصائصه ومزاياه، لكنها بعيدة، بهذا القدر أو ذاك، عن البراهين والأدلة العلمية، فهي (لا تخضع لقواعد قابلية الفحص المشروطة في المنهج العلمي، وتكون غالباً على تعارض مع الإجماع العلمي السائد في هذه المرحلة أو تلك).
وتتعدد ميادين العلوم الزائفة على نحو يصعب حصره في أمثلة محددة، لكن يمكن الإشارة إلى عناوينها العريضة التي تكاد تطال كل شيء من حولنا، فهي تظهر بأشكال وتجليات مختلفة، ولها سمات مشتركة كالتركيز على ادعاءات سائبة غير دقيقة؛ تفتقر إلى مقاييس محددة، والفشل في وضع تفسير يستخدم أقل عدد ممكن من الفرضيات، واستخدام لغة غامضة؛ ملتبسة كي تنطلي الخدعة على المتلقي، وإساءة استخدام المصطلحات التقنية/العلمية لإضفاء نوع من الرصانة على الموضوع، والافتقار إلى ضوابط فعالة عند وضع النماذج التجريبية، والاعتماد المفرط على التأكيد والجزم بدلاً من الاختبار العملي الذي يقطع الشك باليقين، ناهيك عن أن العلوم الزائفة تستند إلى الشهادات والتجارب الشخصية أو القصص النادرة التي تثير المخيلة، ومثل هذه الأمور لا يعول عليها في المناهج العلمية، كما أن هذه العلوم تستخدم الأدلة بصورة انتقائية عبر تقديم براهين تدعم الموضوع ، وطمس وتجاهل نظريات عملية أخرى تضعف من قيمته ودوره.
علاوة على هذا وذاك، فإن العلوم الزائفة تفتقر إلى أهم مبدأ علمي، وهو مبدأ التصحيح والتعديل والتغيير، فمن المعروف أن برامج ونظريات البحث العلمية الرصينة تستفيد من الأخطاء، وهي تراجع وتدرس بين الحين والآخر، كي يتم تلافي الثغرات والنواقص التي قد تشوب هذه النظرية العلمية أو تلك، في حين أن العلوم الزائفة تحتفظ بثباتها الدائم رغم ظهور شواهد وبراهين مناقضة لها، ولعل هذا ما دفع أحد الباحثين (وهو تيرينس هاينز) إلى القول، تعليقاً على موضوع (التنجيم): «إن التنجيم شيء تغير قليلاً في آخر ألفي سنة»، ومثل هذه المقولة تنطبق على مختلف تفرعات العلوم الزائفة أو الكاذبة.
وما يزيد الطين بلة، هو تسرب هذه العلوم الزائفة إلى ميادين السياسة وعلم الاجتماع، إذ يتم استغلال وتسخير هذه العلوم بغرض إخضاع البشر، فالمجموعات الاجتماعية المغلقة, والاثنيات المتطرفة، والسلطات القامعة للمعارضة، وتلك الداعمة لثقافة القطيع.. كل هذه النماذج تسعى إلى تكريس القبول بمعتقدات وطروحات لا تمتلك أي أساس منطقي، أو علمي، كأن تبالغ السلطة السياسية في تصوير المخاطر الخارجية والمؤامرات التي تحاك ضدها عبر استخدام شعارات تعبوية تحريضية بهدف إطالة أمد بقائها على رأس الحكم، في حين أن الواقع الموضوعي يدحض مثل هذه المزاعم، أو تتحدث سلطة أخرى عن (نقاء العرق) بهدف اجتياح وغزو الدول الأخرى، كما فعلت النازية في ثلاثينيات القرن الماضي في ألمانيا حين ادعت بـ(نقاء العرق الآري)، علماً أن نظرية (نقاء العرق) لا تصمد أمام أول امتحان علمي رصين، ناهيك عن أن الأديان والشرائع السماوية تحض على التسامح والتعايش والمساواة بين البشر، على اعتبار أن لا فضل لإنسان على آخر إلا بالتقوى.
يرى الناقد والشاعر السوري بندر عبدالحميد أن «العلوم الزائفة باتت تزاحم العلوم المبنية على المنطق السليم»، وهو يعزو سبب شيوع العلوم الزائفة إلى «الميل الفطري عند البشر نحو التصديق، بدلاً من إعمال العقل والحجة السليمة، والميل نحو اعتناق معتقدات مريحة ونحو التعميم، ذلك أن آفة الكسل تنخر في مجتمعاتنا، وهي تعمي العيون عن التمييز بين الغث والسمين».
ويعدد عبدالحميد أصنافاً من العلوم الزائفة كالشعوذة، مثلاً، التي يمارسها البعض بغرض الابتزاز فحسب، غير أن بعض الجهلة يرضخون لمثل هذا الابتزاز بغرض الاطمئنان الزائف، وكذلك مثلاً، معرفة الغيب، إذ يدعي بعض المنجمين بقدرتهم على معرفة الأحداث المستقبلية على شكل تنبؤات أو توقعات. ومع أن الزمن يكشف أكاذيبهم، وفقاً للمثل القائل (كذب المنجمون ولو صدقوا)، غير أن هؤلاء يظهرون في بداية كل عام ليعلنوا عن توقعاتهم المزيفة، وغير المبنية على حقائق، والمشكلة أن شريحة واسعة تصدقها، وهو ما يذكرنا بما قاله الشاعر الكبير نزار قباني:
جلودنا ميتة الإحساس
أرواحنا تشكو من الإفلاس
أيامنا تدور بين الزار، والشطرنج، والنعاس
هل نحن (خير أمة قد أخرجت للناس)؟.
ويميز عبدالحميد، هنا، بين التنجيم، بوصفه وسيلة للمبالغة والتهويل والمباهاة، وبين التحليلات السياسية الرصينة، إذ يتوقع أصحاب هذه التحليلات بعض الأحداث المستقبلية التي تدعمها التجربة التاريخية، ناهيك عن أن التحليلات السياسية الجادة لا تدعي الجزم، فهي مجرد توقعات تبنى على أساس الخبرة والمعلومات المتوفرة، كأن يتنبأ محلل سياسي بسقوط زعيم ما، أو بازدهار اقتصادي في بلد معين، أو بفوز حزب معين في الانتخابات.. فمثل هذه التنبؤات تستند إلى معلومات وظروف موضوعية، ثم إن صاحبها لا يروم الشهرة والمال بقدر ما يسعى إلى كشف بعض الخفايا للمتلقي. وبهذا المعنى حين يتوقع ناقد أدبي فوز الشاعر أدونيس بجائزة نوبل، مثلاً، فمثل هذا التوقع لا يعد خدعة، وإنما هو توقع مبني على جملة من المعلومات والمعطيات التي تتيح للناقد أن يتوقع أمراً معيناً، وهو قد يخطئ أو يصيب.
ويطالب عبدالحميد بضرورة تكاتف المؤسسات التعليمية والتربوية والإعلام والأسرة ورجال الدين المتنورين بغرض الوقوف في وجه مثل هذه العلوم الزائفة، وجلاء بطلانها، ذلك أن الخرافات والادعاء بمعرفة الغيب، والادعاء بامتلاك الحاسة السادسة تزدهر في المجتمعات الجاهلة، وعندما يتحصن المجتمع بالعلوم الرصينة والمعارف الجادة، فإن من الصعب الاستخفاف بعقول أفراده.
بدوره يعرب بسام عثمان (دكتوراه في الاقتصاد) عن استغرابه من وجود مثل هذه الظواهر المؤذية في المجتمعات العربية، مبيناً أن «اللهاث وراء التنجيم وقراءة الحظوظ والغيب، والتهافت على الأبراج المنشورة في الصحف والمجلات لا يمكن تفسيره بالجهل فحسب، فثمة أشخاص متعلمون وبلغوا درجات علمية عالية، ولكنهم يؤمنون أو يقبلون على مثل هذه الخرافات»، ويضيف عثمان «أن ثمة أسباباً أخرى، إلى جانب الجهل، وهذه الأسباب يمكن اختزالها في الوضع الاقتصادي الصعب، والظروف المعيشية الشاقة، فالإنسان، هنا، يبحث عن بارقة أمل، وإن جاءت من قارئ للغيب. وكذلك بسبب الظروف السياسية والحروب والنزاعات وغياب الطمأنينة، وهنا، أيضاً، يلجأ الفرد إلى قوى خفية تعيد له بعض الأمان، ولا يجد السبيل إلى ذلك إلا عبر الإصغاء إلى ما يقوله المنجمون والمشعوذون».
ويطالب عثمان بإلغاء فقرة الأبراج من وسائل الإعلام سواء كانت مطبوعة أم مرئية أم مقروءة، وكذلك يدعو المشرفين على القنوات الإعلامية عدم استضافة المنجمين وممن يسمون بـ(علماء الفلك)، ففي أواخر كل عام نجد أن الفضائيات تخصص فترات مطولة من البث لهذا العالم الفلكي أو ذاك، وهم لا يفعلون شيئاً سوى أنهم يبيعون الأوهام لأفراد المجتمع، بل سنجد، هنا، تشويقاً من نوع خاص يطلق عليه السبق الصحفي، إذ أن ظهور هذا العالم الفلكي على هذه الفضائية تعد امتيازاً ما بعده امتياز. إنهم يسعون إلى إيهام الناس من دون أي تفكير في العواقب.
من جانبها، تقول السيدة ريما عبدالعزيز (مختصة في برمجة الكمبيوتر) «إن هذه المعتقدات تنشأ في ظل غياب المنطق العلمي السليم الذي ينبغي أن يتحكم بكل شيء من حولنا»، معتبرة أن «العجز عن تحقيق الأهداف يقود إلى الإيمان بمعتقدات ساذجة»، وهي تدعم رأيها بضرب عدة أمثلة في هذا السياق، إذ تقول إن «الشخص المصاب بمرض عضال، والذي لم تنفعه عيادات الأطباء المختصين والمتخرجين من أعرق الأكاديميات الطبية، يلجأ إلى الطب البديل، وإلى العلاج التقليدي، لعل هذا العلاج التقليدي، الذي يستخدم الروحانيات وبعض التعاويذ الدينية، ينجح في إخراجه من محنته، وكذلك المرأة العاقر مثلاً، التي لم ترزق بولد، تؤمن أن بعض المشعوذين والدجالين قد ينجحون في تحقيق أمنيتها في أن ترزق بوليد بعدما زارت عيادات الأطباء دون جدوى».
وتضيف عبدالعزيز «إن اليائس من تحقيق هدف ما لا يأبه كثيراً بالأدلة العلمية، ولا بالحجج المنطقية، فهو يلجأ إلى كل الطرق، مهما بدت متخلفة وغريبة، لتحقيق غايته، ومن هذه الطرق، للأسف، أساليب الدجل والحركات المسرحية المخيفة التي يقوم بها المشعوذون. ورغم أن النتائج، غالباً، ما تكون سلبية إلا أن روح التجريب وحب المغامرة الذي يميز البشر يدفعهم إلى اللجوء إلى خزعبلات العلوم الزائفة بغية تحقيق الأماني والآمال والطموحات التي لم تتحقق لهذا السبب أو ذاك».