مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

إذاعة طامي.. صوت الإرادة في صحراء الصمت

في حياة الأمم أصواتٌ تسبق أزمنتها، كما تسبق الشرارةُ نارَها، وتسبق الفكرةُ قيامَها. ومن تلك الأصوات التي خرجت من صميم الصحراء العربية صوتٌ واحد، لم يكن صدى لغيره، بل كان نداءً من أعماق الذات، هو صوت طامي، الرجل الذي أنشأ أول إذاعةٍ أهليةٍ في المملكة العربية السعودية، فكتب اسمه في سجل المبدعين الذين حولوا الحلم إلى حقيقة. لقد كان (طامي) رجلاً لا يعيش بعقله وحده، بل بروحه المتقدة وإيمانه بأن الإنسان لا يُقاس بما يملك من أدوات، بل بما يملك من عزيمةٍ على الاكتشاف.
ومضة التاريخ الإذاعي في العالم
حين كانت البشرية تتلمّس طريقها بين الأسلاك والذبذبات، خرجت من رحم المختبرات فكرةٌ غيّرت مجرى الوعي الإنساني: فكرة الإذاعة. كان العالم الإيطالي ماركوني أول من أرسل موجةً في الأثير تُسمَع ولا تُرى، فأيقظ في الناس دهشة الصوت الطائر بلا جناح. ومن بعده توالت الاكتشافات حتى وُلد المذياع كما نعرفه اليوم، فصار الرفيق الدائم للمنازل، ووسيلة الأمم إلى توحيد مشاعرها وأفكارها. في عام 1920م أطلقت محطة KDKA الأمريكية أول بثٍّ منتظم، فخرجت الكلمات من حجرةٍ صغيرة في بيتسبرغ لتصل إلى آلاف البيوت. كان ذلك إيذاناً بأن الكلمة المسموعة أصبحت قوةً تُقارب في تأثيرها المدفع والدستور.
الإذاعة في العالم العربي
وفي الشرق العربي، حيث تتلاقى الأصالةُ بالحداثة، لم يلبث أن سرت عدوى الموجة الجديدة إلى القاهرة والقدس وبيروت. ففي الثلاثينات، أطلقت مصر إذاعتها التي غدت منبراً للفن والثقافة والفكر، تتجاوب فيها أصوات عبدالوهاب وأم كلثوم، وتلتقي في أثيرها لهجات العرب وأحلامهم. ومن هناك امتدت الشرارة إلى سائر الأقطار، حتى وصلت إلى جزيرة العرب، حيث كانت الصحراء تستمع إلى نفسها لأول مرة من خلال جهازٍ صغيرٍ يُبثّ منه النور في صورة صوت.
طامي.. الرجل الذي أنطق الصحراء
إن الحديث عن عبدالله بن سليمان العويد -المشهور بلقب (طامي)- حديثٌ عن عقلٍ جسورٍ لا يرضى أن يكون من السامعين فحسب، بل أراد أن يكون من المتكلمين أيضاً. وُلد في بريدة عام 1341هـ، ونشأ في بيئةٍ لا تعرف من الآلات إلا القليل، ولكنها تعرف من الصبر والعزيمة ما يجعل القليل كثيراً. سافر إلى الشام فتعلم فنون اللاسلكي، وعاد إلى وطنه وقد امتلأ ذهنه بشرارة العلم الجديد. لم يكن في الرياض آنذاك إلا أصوات المؤذنين وأحاديث المجالس، فجاء هو ليضيف إلى ذلك صوت الأمة.. صوتاً يصدر من الشعب إلى الشعب.
ميلاد إذاعة طامي
في عام 1381هـ، من غرفةٍ صغيرة في شارع الوزير بالرياض، ارتفع صوتٌ غريبٌ على الناس، يعلن عن نفسه: (هنا إذاعة طامي). كانت تلك اللحظة أشبه بولادة نجمٍ في سماءٍ حالكة. لم تكن الإذاعة ملكاً لشركة ولا لجهاز حكومي، بل ملكاً لرجلٍ واحدٍ يُشغّلها بعقله ويده وصوته. كان يضع جهاز الإرسال على شجرةٍ أمام بيته، ويجلس أمام ميكروفونه الصغير، يحدّث الناس بلهجةٍ محببةٍ عن شؤونهم اليومية، ويعلن عن مفقوداتهم، ويبثّ أسماء أبنائهم الناجحين في المدارس، ويُسمعهم أخبار العالم بأسلوبٍ عفويٍّ لا يخلو من روح الدعابة.
صدى الإذاعة وانتشارها
ما لبثت إذاعة طامي أن غدت حديث المجالس. كانت تصل إلى الخرج، وربما تجاوزت أطراف العاصمة، حتى ظن الناس أن وراءها مؤسسة كبيرة. لكن المؤسسة الحقيقية كانت قلباً واحداً وعقلاً واحداً. ولمّا بلغ صداها الملك سعود بن عبدالعزيز، أُعجب بالفكرة، ورأى فيها بادرة وطنية، فأمر بتكريم صاحبها ودعمه بخمسة آلاف ريال وسيارةٍ جديدة.
الإذاعة.. ضمير اجتماعي
لم تكن (إذاعة طامي) وسيلة ترفيه فحسب، بل كانت ضميراً حيّاً للناس. من خلالها كان الأهالي يعلنون عن مفقوداتهم، ويهنئون أبناءهم، ويتبادلون الأخبار. كانت أداة تواصلٍ إنساني في زمنٍ لم يعرف الهاتف ولا الصحيفة اليومية في كل بيت. كان طامي يرى في الإذاعة منبراً للأخلاق قبل أن تكون وسيلة للأخبار.
العوائق والنهاية
حين تتقدم الأمم بخطى الدولة، تُزاح التجارب الفردية إلى الظل، لا لأن قيمتها تقلّ، بل لأن الزمن يبدّل أدواته. فعندما أُنشئت إذاعة الرياض الرسمية سنة 1384هـ، صدر الأمر بإيقاف بث (إذاعة طامي)، ومنح مؤسسها تعويضاً كريماً تقديراً لريادته. توقفت الإذاعة، ولكن اسمها بقي حيّاً، يتردّد في ذاكرة المدينة كما يتردد الصدى في الجبال بعد انقطاع النداء.
طامي بعد الإذاعة
لم يُطفأ في طامي شغف العلم بانطفاء ميكروفونه. اخترع جهازاً أسماه (الراديوفون)، يربط بين الغرف بالمحادثة، كأنه يستبق عصر الاتصالات الداخلية. كان يرى في كل آلة امتداداً لفكر الإنسان، وفي كل فكرةٍ وسيلةً لخدمة المجتمع. ظلّ يعمل ويبتكر حتى وافاه الأجل عام 1421هـ، تاركاً خلفه تجربةً تفيض بالحكمة والدلالة.
أثر التجربة في الذاكرة السعودية
لم تذهب إذاعة طامي أدراج الرياح. ففي معرض الرياض الدولي للكتاب عام 2018م، خُصّص جناح لتوثيقها، عُرضت فيه مراسلاتها وأجهزتها القديمة، وأُصدر كتابٌ يحمل عنوان (إذاعة طامي من الرياض). لقد أدرك الإعلاميون الجدد أن تلك التجربة لم تكن مجرد ذكرى، بل كانت درساً خالداً في أن الابتكار لا ينتظر الترخيص، بل ينتظر الإرادة.
قراءة في المعنى
لقد جسّد طامي روح الإنسان العربي حين يمتلك أداة العصر دون أن يفقد بداهته الأصيلة. فهو لم يُنشئ إذاعته طلباً للربح، بل لإرضاء نزعةٍ داخليةٍ إلى العطاء والمعرفة. وفي زمنٍ كان الأثير غريباً عن الناس، جعله هو صديقهم ووسيلة تواصلهم. إنه صورة من صور (العبقري العملي) الذي تحدّث عنه العقاد مراراً: الإنسان الذي يجمع بين الفكر والعمل، بين الحلم واليد.
خاتمة
حين نذكر إذاعة طامي، فنحن لا نذكر موجةً عبرت الأثير فحسب، بل نذكر إرادةً عبرت التاريخ. إنها قصة إنسانٍ آمن بأن الصوت يمكن أن يكون رسالة، وأن الفرد الواحد يستطيع أن يُحدث صدى في وطنٍ بأسره. ومن حق هذا الوطن أن يفخر بأن أولى نداءاته الحرة انطلقت من بين يدي رجلٍ من أبنائه، حمل الميكروفون كما يحمل القلم شاعرٌ أو مجاهد، وجعل من صوته جسراً بين الماضي والمستقبل.

ذو صلة