ولدت في منطقة جازان في بيئة قروية زراعية نادراً ما تذبح الإبل، والبقر، وكان غالبية لحومها من الضأن.
هذه البيئة الزراعية، كانت لها خصائصها، ومنها قلة الإبل والتي تستخدم من أجل النقل في المزارع والأسواق، أما البقر، فتربى في البيوت، وبأعداد قليلة، حيث تستخدم الثيران للحرث والإناث من أجل الحليب واللبن والسمن، بعكس بيئة الخبت - الرعوية - التي تكثر فيها تربية الإبل والماعز، وغالبية لحومهم من الماعز، وتذبح الجمال، لكن في حالات نادرة مثل النذر لشفاء مريض، وفي حالة أصيب الجمل بكسر في فخذه أو ساقه، وتحول إلى عطب يمنعه من السير، أما الجبال فكانوا يربون الماعز والبقر، ويذبحون كلا الصنفين ـ البقر والماعز ـ وإذا ذهبت إلى المدن - مثل صبيا - فكانت حاضرة فيها لحوم الضأن، والماعز، والبقر، ونادراً ما تواجد لحم الإبل، ومثل صبيا بقية مدن منطقة جازان.
إن قلة حضور لحم الإبل في ثقافة الطعام في منطقة جازان يطرح أسئلة حول الأسباب.. هل هي دينية، أو ثقافية أو اقتصادية؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة سأذهب أولاً إلى تاريخ حضور الإبل في منطقة جازان، والبدء من الفنان التشكيلي الدكتور عاصم عسيري الذي كتب دراسة بعنوان (الرسوم الصخرية في الحجاز) ونشرها في صفحته بالفيس بوك بتاريخ 20/7/2025، وقد جاء من ضمن الدراسة الرسوم الصخرية في منطقة جازان حيث ذكر: (اكتشف حديثاً رسم كهف جازان الملون يصل عمره إلى 12000 سنة)1، وعرض صورة للكهف حيث تحضر الإبل في الصورة أكثر من الحيوانات الأخرى.
نفس هذه الصورة منشورة ضمن بحث رسالة دكتوراه بعنوان (الرسوم الصخرية الملونة / في كهوف جنوب المملكة) لفوزية الحديثي، في الصورة تظهر رسمات للعديد من الإبل2.
في دراسة عنوانها (ظاهرة دفن الجمال قبل الإسلام) للدكتور محمد عوض باعليان ذكر فيها عن الجمل: أكدت التقارير الأثرية أن أقدم البقايا المادية والفنية الدالة على الجمل العربي بصورته البرية اكتشفت في منطقة جنوب غرب الجزيرة العربية، ومنها الرسوم الصخرية والبقايا العظمية (Grigson et a11989:359:306) أما بقية الجمال الشواهد الأثرية المتعلقة بالجمل فتعود لجمال مدجنة، وفي هذا السياق توصل الباحثون عبر عمليات التنقيب الأثري إلى كم من البيانات تؤيد أن جنوب غرب جزيرة العرب هي الموطن المرجح الذي عاش فيه السلف البري للجمل العربي قبل تدجينه، ولعل أبرز الحفريات هو ما نفذته البعثة الأمريكية السعودية عام 1980 على السواحل الجنوبية للبحر الأحمر في موقع سيحي3 الواقع (50) كم جنوب جازان.
وقد عثرت البعثة هناك على بقايا عظمية لجمال، بعضها متفحم، وتتمثل أهميتها في عظم فك جمل تم فحصه براديو كربون (Radiocarbon) وخضع للمعايرة (Calibrated) وأرخ ما بين (6600 - 6900 ق م)4. من خلال الرسومات الكهفية عند عصام عسيري، وفوزية الحديثي، ومن خلال التنقيبات الأثرية الواردة في دراسة الدكتور باعليان، نجد الإبل حاضرة منذ آلاف السنين في منطقة جازان، وهذا يطرح السؤال: هل كان للإبل - قديماً - حضورها المقدس مما يعد سبباً في الامتناع عن أكل لحمها في منطقة جازان؟
البعد المقدس للإبل!
بالعودة إلى ما قبل الإسلام ومسألة البعد المقدس للإبل:
يذكر القرآن الكريم ناقة صالح (هَذِهِ نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)5.
ترد قصة ناقة صالح كآية تدل على نبوة النبي صالح، وكيف كان قتل الناقة سبباً لهلاك قوم ثمود.
هذا البعد الديني لناقة صالح يعطي مؤشراً على وجود تقديس للإبل في زمن النبي صالح، حتى وإن حصل الفعل العكسي من قوم ثمود.
بالنظر إلى تاريخ الآلهة المعبودة في الجزيرة العربية، فقد كانت الإبل مقدسة، ومنها ما كان يعبد! يذكر جورج كدر الناقة الزباء (ناقة كانت قبيلة إياد تتبرك بها، وربما كانت الزباء آلهة من آلهات الخصوبة في قديم الزمان نظراً لدلالاتها اللغوية)6.
كما يذكر جورج كدر الجمل الأسود: (كانت تعبده جماعة من طي ومنهم زيد الخير)7 مضيفاً: (وكانت آلهة تدمر في اليمن هي الإلهة بل، أو بعل، أو الناقة)8.
هذه النماذج لعبادة الإبل وتقديسها، لابد كانت حاضرة في جازان في الأزمنة القديمة، مما يجعل للبعد الديني حضوره في عدم ذبح الجمال الإبل.
الأمر الآخر للإبل خصوصية خاصة من حيث العلاقة بصاحبها، حيث ينظر للناقة أو الجمل كجزء من العائلة، هذه الرابطة - كحالة ثقافية في أغلب الجزيرة العربية - لابد لها جذرها الديني، فهل لهذه الرابطة بين الإنسان والإبل دورها في عدم ذبح وأكل لحم الإبل في جازان؟
عن هذه العلاقة بين الإنسان والإبل، كتب روبرت سميث: (والفرضية التي ترى أن احترام العرب لحياة الجمل نشأت عن نفس مبدأ القرابة بين الإنسان وبعض أنواع الحيوان)9، لكن هذه العلاقة بين الإنسان والإبل لا تعني عدم ذبحها، إذ يقول عن عرب سيناء في القرن الرابع الميلادي: (وإذا كان اللبن والفرائس وحصيلة النهب طعاماً خاصاً يؤكل بأي طريقة، فإن الجمل لم يكن يسمح بقتله وتناول لحمه إلا في طقس عام يشارك فيه الأهل جميعاً)10. هذا الطقس لأكل الجمل والذي يشارك فيه جميع الأهل لابد كان في أصله نتاج بعد ديني، فالقربان في أصله هو الذبح للآلهة، والاجتماع على أكل الذبيحة يمثل جزءاً من هذا الطقس، حتى وإن فقدت الذبيحة طابعها القرباني. يقول سميث: (إلا أنه مما يذكر أن الذبيحة بعد أن فقدت طابعها القرباني، كان لا يزال من الضروري أن تكون الذبيحة من شؤون العشيرة كلها)11.
كلام روبرت سميث عن عرب سيناء، ومثلهم الكثير من العرب في الجزيرة العربية مازالوا يذبحون الجمل ويجتمعون على أكله كجماعة، بل يعد كرم الضيف وقيمة الوليمة في وجود الجمل، أو ما يسمى (القعود) منصوباً في وسط الوليمة، هذه الثقافة ليست موجودة في منطقة جازان، ونادراً ما يذبح الجمل من أجل وليمة سواء كبيرة أو صغيرة، فهل تخففت مناطق الجزيرة العربية من البعد الديني للإبل وبقي في جازان.
في حديث يروى عن النبي صلى الله وسلم عن البراء بن عازب قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحم الإبل قال توضؤوا منها، وسئل عن الوضوء من لحم الغنم فقال: لا تتوضؤوا منها. فهل يكون لهذا الحديث صلة بتعفف الناس من أكل لحم الإبل وكونه ينقض الوضوء، وجاء عدم الإقبال على لحم الإبل من باب الاحتراز الديني؟
إذا تجاوزت العامل الديني وذهبت للعامل الاقتصادي حول عدم أكل لحم الإبل في جازان، ترى هل نجد سبباً؟
يقول فكتور سحاب نقلاً عن شبرنغر: (إن التجارة الدولية ظهرت لدى العرب قبل الميلاد، وأهلهم لهذه المهمة موقع بلاد العرب الوسيط والبحر الأحمر والخليج، وخصائص الجمل، ونوع السلع التي كان يحتاج إليها عالم البحر المتوسط)12.
إن ارتباط التجارة في الجزيرة العربية من خلال النقل بواسطة الجمال (الإبل) يجعلها أعلى قيمة من أن تقدم كذبائح ويؤكل لحمها، وإذا حصل وذبحت الإبل فهذا عائد لطقس تجتمع عليه القبيلة أو العشيرة.
إذا عدت إلى منطقة جازان كبيئة زراعية حيث الملكيات الخاصة للأرض والتي تزرع بالحبوب، وتربى فيها الضأن والماعز والبقر، سنجد الإبل قليلة وتربى من أجل استخدامها في النقل، أما تربية الإبل كقطعان فهذا يحتاج إلى مساحات كبيرة لرعي الإبل، وفي جازان تبقى مساحات الرعي محدودة مقارنة بمناطق أخرى في الجزيرة العربية.
فهل محدودية الإبل في منطقة جازان وقيمة الإبل كأداة للنقل جعل من ذبحها أمراً غير محبب عند الناس ومنها جاء عدم شيوع لحم الإبل؟
يوجد بعد اقتصادي آخر لعدم الحاجة للحم الإبل في منطقة جازان، حيث تتوافر البدائل من اللحوم الأخرى (الكباش، التيوس)، تحديداً الكباش التي تمثل ثقافة الكرم في المناسبات العامة والخاصة، وتجري العادة بتقسيم الذبيحة على عدة صحون، ولا توضع الذبيحة بشكلها الكلي - ما يسمى مفطح - على صحن واحد مهما كانت قيمة الضيف، أو المناسبة، مما يدل على قيمة اللحم والشحم عند الناس، فلا يجوز العبث به.
البعد الآخر: تعد منطقة جازان منطقة زراعية، وكما ذكرت سابقاً المناطق الزراعية يغلب على الفداء والتقدمات للآلهة القديمة الأكلات المنتجة من الحبوب، بعكس المناطق الرعوية التي تقدم للآلهة الذبائح الحيوانية ومنها الإبل.
في الختام لابد من التنويه إلى حضور لحوم الإبل في جازان السنوات الأخيرة، من خلال المطاعم الشعبية، وبعض المناسبات الخاصة، لكن هذا الحضور يبقى هامشياً قياساً بلحوم الضأن والغنم.
الهوامش:
دراسة بعنوان (الرسوم الصخرية في الحجاز) للدكتور عصام عسيري على صفحته في الفيس بتاريخ 20 / 7 / 2025.
الرسوم الصخرية الملونة / في كهوف جنوب غرب المملكة / فوزية الحديثي.
الاسم هو السهي وليس سيحي.
محمد عوض باعليان ظاهرة دفن الجمال قبل الإسلام ص 49 كتاب الندوة العلمية «المعالم القديمة لحضرموت القديمة حتى فجر الإسلام» أقيمت في 9 - 10 يوليو 2017.
القرآن الكريم سورة الأعراف الآية 73.
جورج كدر آلهة العرب قبل الإسلام ص 120 دار الساقي بيروت 2013م.
جورج كدر آلهة العرب قبل الإسلام ص81 دار الساقي بيروت 2013.
شوقي عبدالحكيم مدخل لدراسة الفلكلور والأساطير العربية ص86 مؤسسة هنداوي يورك هاوس المملكة المتحدة 2017.
روبرتس سميث ديانة الساميين ص 309 ترجمة عبدالوهاب علوب المشروع القومي للترجمة / المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 1997م.
روبرتس سميث ديانة الساميين 307 ترجمة عبدالوهاب علوب المشروع القومي للترجمة المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 1997م.
روبرتس سميث ديانة الساميين 307 ترجمة عبدالوهاب علوب المشروع القومي للترجمة المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 1997م.
كتور سحاب/ إيلاف قريش، رحلة الشتاء والصيف ص10 كومبيو نشر والمركز الثقافي العربي بيروت أيار مايو 1992م.