مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

نهاية المحادثة.. حين تتلاشى الكلمات في زمن الشاشات

هل اقتربنا من لحظةٍ يصبح فيها الصمت الإلكتروني هو اللغة الوحيدة الممكنة؟
ذلك هو السؤال الذي يفتتح به عالم الاجتماع الفرنسي دافيد لو بروتون كتابه الأخير (نهاية المحادثة؟.. الكلمة في مجتمع طيفي)، الصادر بالفرنسية سنة 2024م، والمترجم إلى العربية حديثاً (صفحة 7 للنشر، ترجمة الدكتور أبو بكر العيادي، 2025م)، في الكتاب وعبر 135 صفحة، يمارس لو بروتون تشريحاً عميقاً للتحوّل الذي أصاب علاقة الناس بالكلام، وبالآخر، وبأنفسهم، في عالمٍ أصبحت فيه الوجوه مغمورة بأضواء الشاشات، والأصوات مختزلة في رسائل، واللقاءات مؤجلة إلى إشعارٍ رقميٍّ آخر.
الكلمة التي تفقد جسدها
يبدأ لو بروتون طرحه من سؤال بسيط في ظاهره، لكنه مرعب في جوهره، هل ما زلنا نتحدث فعلاً؟
فما نسميه اليوم (تواصلاً) لا يحمل بالضرورة معنى (المحادثة)، فالتقنيات التي توهمنا قدرتها على تقريب المسافات، جعلتنا أكثر بعداً من أي وقت مضى، فنحن نرسل إشارات، لا كلمات، رموزاً، لا أصواتاً، صوراً بدلاً من ملامحنا الحيّة، هنا تفقد الكلمة، كما يرى لو بروتون، شيئاً أساسياً حين تُنتزع من الجسد.
في المحادثة الحيّة، الجسد جزء من اللغة، حيث النظرة، الارتجافة، الصمت، الالتفاتة، كلها عناصر تشارك في صنع المعنى. أمّا في العالم الرقمي، فالجسد يُختزل إلى (أفاتار)، أو (إيموجي)، أو مجرد اسم عابر على شاشة صغيرة، فأصبحنا وفق تعبيره مجرد كائنات طيفيّة، صرنا أشباحاً تتواصل دون أن تلتقي.
انحسار المعنى في زمن السرعة
يُفرّق لو بروتون بدقة بين المحادثة والتواصل، فالمحادثة تتطلب حضوراً مشتركاً، زمناً مفتوحاً، تبادلاً في المعاني، بل وتحمّلاً للالتباس والاختلاف، أمّا التواصل، يتركز حول نقل معلومةٍ بأسرع وسيلة ممكنة، دون سياق، دون صبر، ودون حاجة إلى فهم الآخر. ففي عالمنا المعاصر، صار الردّ الفوري معياراً للجودة، والسكوت خطأ يُحتاج إلى تبرير، فحين يتأخر أحدنا -لأي سبب- في الردّ على رسالة، يبدأ الآخر بتأويلاتٍ وقلقٍ واتهامات، بهذا، تحوّل الزمن الذي كان في قلب كل محادثة إنسانية إلى عدوٍّ جديد يجب تقليصه أو تجاوزه.
يرى دافيد لو بروتون في هذا الاختزال خطراً مزدوجاً، فحين نقتل البطء، نقتل التفكير، وحين نرفض الصمت، نقطع طريق الفهم.
مفارقة الحضور الغائب
يتحدث لو بروتون عن مفارقة الحضور الغائب، نحن متصلون دوماً، لكن مع من؟ وجودنا على الإنترنت يبدو كأنه حضور دائم، لكنّه في حقيقة الأمر غياب متكرر عن اللحظة، فنحن نشارك صورنا لا حياتنا، نعلّق دون أن نتبادل الحديث، نكتب ولا نصغي، في هذا السياق، تتفكك الروابط الاجتماعية ببطءٍ لا يُدرك إلا بعد فوات الأوان، تجتمع العائلة على مائدةٍ صامتة، كل فردٍ يحدّق في هاتفه، والأصدقاء صاروا يتبادلون الرسائل أكثر مما يلتقون، حتى الحبّ، كما يلاحظ لو بروتون، أصبح بحاجة إلى تطبيق أو شاشة، فلا تبدأ العاطفة إلا بعد إعجاب متبادل، ولا تنتهي إلا بعد حظر متبادل أيضاً.
مجتمع بلا وجوه
يصف المؤلف مجتمعنا بأنه (مجتمع طيفي) تسوده الكائنات الظلّية، إنه تشبيه يذكّر بأفكار الفيلسوف بودريار حول محاكاة الواقع، لكن دافيد لو بروتون هنا يذهب أبعد من ذلك، فالطيفيّة كما يراها ليست فقدان الواقع، بل فقدان الحميمية، لقد تحوّلت العلاقة الإنسانية إلى تبادل وظيفي، تهيمن عليه الخوارزميات، والذكاء الاصطناعي، وأنظمة المراقبة، هنا لا يكتفي الكاتب بالنقد الأخلاقي للظاهرة، بل يتعامل معها بوصفها تحوّلاً أنثروبولوجياً في معنى الإنسان ذاته، فحين يتراجع حضور الجسد والوجه، يتراجع أيضاً الإحساس بالمسؤولية والرحمة والاعتراف بالآخر، واللغة الرقمية تنزع من الكلمات دفأها، كما تنزع من العلاقات عمقها.
بين الوحدة والاتصال
يركز الكتاب على الشباب بوصفهم الجيل الذي لم يعرف العالم قبل الإنترنت، جيلٌ يرى أن المكالمة الهاتفية اقتحام للخصوصية، وأن الحديث المباشر مرهق مقارنةً بالرسائل، لكن، كما يحذر لو بروتون، هذا النمط من التواصل يعمّق الشعور بالوحدة بدل أن يخفّفه، وتتجلى المفارقة هنا في أن الخوف من العزلة يتحوّل إلى عزلةٍ فعلية، إن القلق من الفقدان يجعل الفرد دائم الارتباط بالشبكة، لكنه هكذا يفقد تدريجياً القدرة على التواصل الحقيقي، هكذا يولد إنسان جديد، موجود في كل مكان، لكنه بلا مكان، يتكلم كثيراً، لكنه لا يقول شيئاً.
ومن الأمور اللافتة في تحليل لو بروتون تأكيده على قيمة الصمت في المحادثة، فالصمت من وجهة نظره ليس غياباً للكلام، بل شكلاً من أشكاله، هو يرى أن المعنى يتنفس في لحظة الصمت، فتتبدّل الأدوار بين المتحدث والمستمع، وتُمنح الكلمة ثقلها الإنساني، لكن في عالم اليوم، أصبح الصمت مثيراً للريبة، فإذا لم نكتب أو نردّ أو نعلّق، نُعتبر غير مهتمّين أو عدائيين أو على الأقل خارج اللعبة، من هنا، يتحدّث لو بروتون عن فقدان (المسافة الإنسانية)، ويقصد بها تلك اللحظة الصغيرة التي كنا نتركها بين سؤالٍ وجواب، بين نظرةٍ ونظرة، ففي إيقاع السرعة الرقمية، لا مجال للتفكير، ولا فرصة للتأمل، فقد اختُزلت التجربة الإنسانية إلى تدفقٍ متواصل من الإشعارات، بلا توقف ولا نَفَس.
الحنين إلى البساطة
من أجمل مقاطع الكتاب تلك التي يكتبها المؤلف بلهجةٍ حنينية عن مقاهي المدن الصغيرة، أو أحاديث الجيران في المساء، أو المجالس التي كان فيها الحديث لا هدف له سوى المتعة، فيها يرى لو بروتون أن الكلمة ليست فقط وسيلة لتبادل المعلومات، بل أداة لتبادل الوجود، فنحن حين نتحدث، نعيد تأكيد أننا موجودون في العالم، وأن العالم يتسع لنا، لكن المحادثة، في نظره، ليست فقط كلاماً جميلاً، بل فعل مقاومة، فأن نتحدث معاً، وجهاً لوجه، هو أن نعيد بناء الثقة، وأن نرفض أن تُدار حياتنا عبر وسائط لا روح لها، من هنا تأتي أهمية اللغة بوصفها مساحة للمشاركة والاعتراف، لا أداة للإقناع أو البيع أو التأثير.
آخر حصون الإنسانية
من أبرز أطروحات الكتاب تأكيد دافيد لو بروتون على الوجه كعنصر أنثروبولوجي وأخلاقي في العلاقات البشرية، الوجه عنده ليس مجرد مظهر، بل مكان للقاء الأخلاقي، فحين نلتقي وجهاً لوجه، نُجبر على الاعتراف بالآخر بوصفه كائناً ذا كرامة، ذا ألمٍ وفرحٍ وصوت، أما في التواصل الرقمي، فنتحرّر من هذا الاعتراف المزعج: يمكننا أن نحظر، أو نحذف، أو نتجاهل، دون تبعات.
إن جملة (نهاية المحادثة) والتي اتخذها الكاتب عنوانا لكتابه، ليست مجازاً لغوياً فقط، بل بداية لانهيار إنساني محتمل، عالم لا وجوه فيه، لا أصوات فيه، بل سلسلة من الصور والكلمات المفرغة من حرارة الجسد. لكن كيف نعيد للكلمة معناها؟
لا يكتب لو بروتون من موقع الواعظ، بل من موقع الملاحظ الذي لا يزال يؤمن بقدرة الإنسان على المقاومة، وفي آخر فصول كتابه، يقترح عدة مساراتٍ لاستعادة المحادثة، أولها إبطاء الإيقاع بمعنى أن نتقبل التأخر في الردّ، أن نعيد الاعتبار للبطء كقيمة إنسانية، أيضاً إحياء الصمت، أي نمنح الصمت دوره في المحادثة، كمساحةٍ للفهم لا كفراغٍ يجب ملؤه، والأهم إعادة تقدير اللقاء الجسدي، بأن نجرؤ على اللقاءات الحقيقية، على النظر المباشر، على الإصغاء، وذلك يتطلب تحرير الأماكن من الأجهزة، وأن نعيد للمقهى، والمائدة، والفصل الدراسي، والمكتب، معناها كمكانٍ للكلمة لا للشاشة، كذلك يقترح ما يسميه (التربية على الوعي الرقمي)، وخلاصتها أن يتعلم الجيل الجديد أن الاتصال ليس بالضرورة تواصلاً، وأن الكلمة لا تُقاس بسرعة إرسالها بل بصدقها.
القارئ العربي وسياق العزلة الجديدة
حين نقرأ لو بروتون في سياقنا العربي، يبدو الكتاب أكثر راهنيةً مما قد نتخيل، فالمجتمعات العربية عاشت، خلال العقدين الأخيرين، انفجاراً في استخدام وسائل التواصل، حتى أصبحت جزءاً من نسيج الحياة اليومية، لكن هذا الانفتاح التقني ترافق مع تراجع في ثقافة الحوار العام، وازدياد في النزعة الفردية، والعنف اللفظي، والاغتراب داخل الأسرة والعمل.
في المدن العربية الكبيرة، تتكرر المشاهد التي يصفها الكاتب، حيث تتجاور الوجوه في المقاهي، لكن كلاً منهم غارق في هاتفه، نقاشات صاخبة عبر (واتساب)، لكنها تخلو من الإصغاء، أطفالٌ يتعلمون النطق عبر الشاشات قبل أن يتعلموه من وجوه آبائهم.
هنا، تتجاوز (نهاية المحادثة) حدود الغرب لتصبح ظاهرة كونية، تُعيد طرح السؤال القديم، كيف يمكن للإنسان أن يظل إنساناً في عالمٍ تُديره الخوارزميات؟ هذا ما كتبه دافيد لو بروتون بأسلوبٍ يجمع بين عمق التحليل السوسيولوجي ورهافة النبرة الأدبية، ودون أن يستخدم مصطلحاتٍ مغلقة، بل ينسج تأملاته في جملٍ شاعريةٍ شفافة، تقترب أحياناً من حميمية الاعتراف الشخصي. وترجمة (أبو بكر العيادي) جاءت أمينة ومراعية تماماً لهذا التوازن، إذ حافظت على موسيقى النص الفرنسي دون أن تُثقل العربية بمفاهيم غريبة، ولعلّ هذا ما يجعل الكتاب صالحاً للقارئ العام كما هو للباحث المختص.
العودة إلى صوت الإنسان
وفي الختام يكتب لو بروتون: «حين نكفّ عن الحديث، نكفّ عن الوجود معاً»، بهذه الجملة المكثفة، يلخص الكتاب مأساة عصرنا، فنحن نعيش وسط ضجيجٍ هائل، لكننا نفتقد الصوت الإنساني الحقيقي، ذلك الصوت الذي لا يحتاج إلى بطارية أو إشارة أو اتصال بالإنترنت، بل فقط إلى وجهٍ يصغي، وقلبٍ يجيب.
إن رسالة كتاب (نهاية المحادثة) ليست نبوءة تشاؤمية بقدر ما هي دعوة إلى استعادة إنسانيتنا بالكلام، فالكلمة، في معناها الأصيل، ليست وسيلة، بل مسكناً، وبدونها، نصبح طيوفاً تتجول في فراغٍ متوهّجٍ بالشاشات.
أخيراً نشير إلى أن (دافيد لو بروتون)، يعمل أستاذاً لعلم الاجتماع، في جامعة ستراسبورغ، وهو من كبار الباحثين في المعاهد الجامعية الفرنسية، متخصص في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وله بحوث متعددة حول الجسد الإنساني، الحواس، الهوية، والمجازات الحياتية، ومن أعماله الأخرى المنقولة إلى اللغة العربية، سوسيولوجيا الجسد، وأنثروبولوجيا الألم، وأنثروبولوجيا الجسد والحداثة.

ذو صلة