حينما كتب غابرييل غارسيا ماركيز روايته الشهيرة (الحب في زمن الكوليرا)، جعل من المرض استعارة كبرى لتفشي العاطفة، وكيف يمكن للحب أن يظل حاضراً رغم قسوة الظروف وانتشار الوباء. اليوم، وبعد أكثر من قرن على زمن الكوليرا، نعيش تفشياً آخر من طبيعة مختلفة: ليس وباءً بيولوجياً هذه المرة، بل وباءً رقمياً يتمثل في آلاف التطبيقات والمنصات التي اقتحمت حياتنا وأعادت تشكيل مفهوم الحب والعلاقات.
وكما غيّر الكوليرا أنماط العيش ومصائر الناس، تغيّر التكنولوجيا اليوم طرائق اللقاء، وأشكال التعبير، وحتى معنى الارتباط نفسه.
وهنا يبرز السؤال: هل يبقى الحب جوهراً ثابتاً يقاوم هذا (التفشي) الرقمي، أم أنه يتحول تدريجياً إلى سلعة تُدار بمنطق الخوارزميات؟
ففي زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية وتتشكل فيه العلاقات تحت ضغط الحداثة الرقمية وسرعة الإيقاع اليومي، تبدو الحاجة ملحة لإعادة النظر في المفاهيم الكبرى التي صنعت وجدان الإنسان على مر العصور، وعلى رأسها (الحب).
هذا الشعور الذي ظل عبر القرون محركاً للفكر والإبداع والثورة، يجد نفسه اليوم أمام تحديات جديدة تفرضها ثورة التكنولوجيا وتطبيقات المواعدة، إذ لم تعد العاطفة مجرد تجربة شخصية، بل صارت خاضعة لمنطق السوق والخوارزمية.
هل تغيّر الحب أم الإنسان؟
منذ حوارات أفلاطون (المأدبة وفيدروس) كان الحب يُنظر إليه كقوة تتجاوز الجسد لتبني معنى أعمق للوجود. لاحقاً، أكد الفيلسوف إريك فروم الألماني-الأمريكي في كتابه (فن الحب) أنّ (الحب فن يتطلب ممارسة وانضباطاً). وفي زمننا الحديث، يدافع الفيلسوف الفرنسي ألان باديو في (مديح الحب) عن فكرة أنّ الحب (حدث) يغيّر الوجود لأنه يُدخل الإنسان في علاقة مع الآخر ومع العالم من منظور جديد.
لكن في عصر الشاشات، يبرز السؤال: هل تغيّر الحب في جوهره، أم أنّ ما تغيّر هو الإنسان وأدواته في التعبير والتلقي؟
الحب الرقمي.. تقارب أم سطحية؟
تُظهر الدراسات أن الحب لم يختفِ بل ارتدى قناعاً جديداً. فالتطبيقات والوسائط الرقمية جعلت اللقاء أكثر سهولة وسرعة، لكنها في المقابل جرّدت العلاقات من كثير من عفويتها ودفئها.
الباحثة البولندية أنيا مالينوسكا ترى في كتابها (الحب في الثقافة التكنولوجية المعاصرة) (Love in Contemporary Technoculture) أن التكنولوجيا أعادت صياغة الحب بوصفه (أداءً تقنياً)، حيث الجسد والهوية العاطفية يُعاد إنتاجهما عبر الوسيط الرقمي.
بينما تحذّر الباحثة البريطانية ليندا كوندي في كتابها (الحب في عصر الإنترنت) (Love in the Age of the Internet) من هشاشة الروابط التي تنشأ عبر الشاشة: تكوين سريع للعلاقة، لكن انهيارها قد يكون أسرع. هذه الهشاشة تثير القلق: هل نعيش فعلاً حباً حقيقياً، أم مجرد انعكاس عاطفي على زجاج الهاتف؟
السوق الرقمية للعواطف
الأرقام تكشف حجم التحول. تشير تقارير حديثة إلى وجود أكثر من 8,000 تطبيق ومنصة مواعدة حول العالم، يستخدمها ما بين 350 و500 مليون شخص. ومن المتوقع أن يتجاوز العدد نصف مليار مستخدم بحلول عام 2025.
- Tinder: يتصدر القائمة مع أكثر من 60 مليون مستخدم نشط شهرياً، و9.6 مليون مشترك مدفوع.
- Badoo: ينتشر في 190 دولة و47 لغة.
- Happn: يقوم على مبدأ اللقاءات العشوائية، وبلغت تحميلاته 140 مليوناً.
- Blued: أكبر تطبيق للمجتمع LGBTQ+ مع أكثر من 40 مليون مستخدم.
هذه المنصات لا تقدّم الحب فقط، بل تعرضه كبضاعة، وكأنّ القلب بات سلعة تُختصر بخوارزمية.
بين الفردانية والمعنى
التكنولوجيا وفرت فرصاً غير مسبوقة للتواصل، لكنها في الوقت نفسه غذّت النزعة الفردانية. فالخوارزميات لا تهتم بخلق (قصة حب)، بل بزيادة التفاعل والوقت الذي يقضيه المستخدم على التطبيق. وهكذا يتحول الحب من قوة تُبنى على المخاطرة والانفتاح إلى (خيار) رقمي يُدار عبر شاشة.
ومع ذلك، يظل جوهر الحب قائماً: الرغبة في الانتماء، في الحميمية، في النظر إلى العالم من خلال عيني الآخر. لكن على الإنسان أن يتعلم كيف يوازن بين استخدام التكنولوجيا كوسيط، وعدم الوقوع في فخ استبدالها بالمعنى الحقيقي للعاطفة.
الحب كمقاومة
ربما يكون التحدي الأكبر اليوم هو استعادة الحب كقوة للمقاومة: مقاومة السطحية، مقاومة الاستهلاك العاطفي، ومقاومة تفريغ العلاقات من عمقها الإنساني. وهنا يمكن أن نستعيد فكرة باديو: الحب حدث يخترق الروتين ويفتح أفقاً جديداً للوجود. وإذا كانت التكنولوجيا قد غيّرت شكل اللقاء، فإن جوهره يبقى رهن قرار الإنسان بأن يمنحه عمقاً ومعنى.
الحب لم ينتهِ في عصر التكنولوجيا، لكنه يواجه تحدياً وجودياً. التطبيقات قد تقرّب بين الناس، لكنها أيضاً قد تفصلهم عن المعنى الحقيقي للارتباط. وبين الخوارزمية والوجدان، يبقى الخيار بيد الإنسان: أن يختزل الحب في إشعار على هاتف، أو أن يستعيده كقوة تمنحه الحرية والاختيار والمعنى.
في النهاية، لعل السؤال الأهم ليس: هل تغيّر الحب؟ بل: كيف نحب نحن في زمن تغيّرت فيه أدواتنا، وبقي جوهرنا الإنساني متعطشاً للمعنى ذاته منذ آلاف السنين؟
ولعلّ الأمل يبقى أن تظل هذه التطبيقات ناقلة للعواطف كما كانت مكاتيب الأمس، وينتظر الحبيب رداً من محبوبه على مكتوبه طويلاً على غرار ما غنّت السيدة فيروز في أغنيتها (كتبنا مية مكتوب)، والشوق يملأ قلبه، فيما اليوم تصل الرسائل الرقمية في ثانية، وكأنها أدوات تفرّغ الإنسان من عمقه وتعرّضه لمخاطر أكبر.