مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

الحركة.. روح المسرح.. استكشاف الممثل لإيقاعات الجسد الصوتية

للممثل أدوات عديدة تساعده في تقديم العروض المسرحية، تتضمنها المشاهد التي يحضر فيها بوصفه عنصراً فاعلاً في تأدية الركح المسرحي بطلاقة وحيوية ذات ركائز جمالية، وبيانية، وبصرية.
موسيقى تنبعث من جسد الفنان
تبرز الموسيقى بوصفها وسيلة صوتية ذات أبعاد تتخطى البعد التقليدي لها الذي يتمثّل في نبوعها من الآلات الموسيقية إلى نبع خاص بالممثل فوق الخشبة، وهو نبع الحركة الصوتية للأداء كسبيل فرجوي يمنح الجماهير فضاءات مختلفة من الإيقاعات الصوتية.
في أثناء العرض يُصاب الجمهور في حالات معينة بالتشتت نتيجة لبقاء الرتم الصوتي نفسه دون تغيير من جانب الممثلين، مما يحتم على الممثل معرفة هذه الأوقات التي تعد مفصلية في مسار العرض، فقد يبتعد الجمهور عن الممثلين بانشغالهم بالحوارات الجانبية أو بتفحص جوالاتهم الشخصية، أو حتى بالخروج من القاعة لأوقات تطول أو تقصر نتيجة لفقدان الرابط الذي يربطهم بالعرض الحي ويشدهم إليه حتى نهايته، يتولى الممثل الماهر هذه الجزئية بأدواته التي يدّخرها من خبراته وتطوّر موهبته الأدائية، فيفتعل التنويع الأسلوبي، مستفيداً من أشياء صغيرة لكنها تُحدِث تحوّلاً فوق الخشبة.
قدرات الممثل تفرض نفسها في هذا السياق الذي يُلزمه بمعرفة آليات تنويع الطُرق حينما يشعر بابتعاد الجمهور عنه ليعيدهم من جديد إلى قلب الأحداث الجارية، تُمثّل التموّجات الجسدية صورة جميلة لمدى الاستطاعة التي يمتلكها الفنان الأدائي، والموسيقى كونها تخاطب الأسماع فبمعرفة الفنان لإمكانيات جسده يمكنه دمجها ليساهم في جذب الحضور إليه بصرياً وسمعياً، للحركة هذه المقدرة وإن كانت في حدود بسيطة، فهي تعيد الانتعاش لاهتمام الحضور، لذا فإن إيقاظ الحضور من غفوتهم -التي تتسلّل إليهم نتيجة الروتين الثابت للعمل- تدل على نباهة الفنان وحسن استعماله لأدواته.
أنغام حركية وبصرية أيضاً
في مقعده الذي يجلس عليه مرتاحاً لمدة تطول أحياناً، وتقصر أحياناً أخرى، من الطبيعي أن يتسلل الملل للمُشاهِد الذي يستسلم لذلك ما لم تحدث أشياء تجبره على العودة للمتابعة، وتشدّه لمواصلة الاستمتاع بالمشاهدة.
يتعيّن على الممثل أن يضع هذا التداخل بين الصوت والحركة بدمجهما معاً لتكوين تركيبة أدائية إبداعية.
وكما هي مهمة من مهمات المخرج فهي أيضاً من مهمات الممثل الذي لابد أن يُنمّي الحس الفني لديه باستشعار مكامن الخلل والقوة في العرض ليقتحم من خلاله مساحات جديدة من التمثيل.
قاعة المسرح لابد أن تبقى مشتعلة بالحدث، حالها كحالة قاعة السينما التي يظل جمهورها في حالة من الانجذاب في العروض المثيرة ذات الأحداث المتصاعدة، وتصاعد الأحداث مسرحياً كان أو سينمائياً لا نقصد به فقط عروض الرعب أو الجريمة أو المغامرات المثيرة، إنما يتوجه مقصدنا نحو جاذبية الأحداث نفسها وتلوينها بالخيارات المُمكِنة، لجعل المتابعة أمراً يستحق البقاء والجلوس على المقاعد طيلة العرض.
لذا فالموسيقى الجسدية للفنان لابد أن تحظى بالمركزية عند الفنان ذاته ليستطيع تثوير النص المقروء واستنطاق طاقاته في العروض الأدائية.
الجمهور يتوتر ويترقب، ينفعل مع ما يجري، يتابع، والممثل يأخذ بيده ليهيأه لاستقبال المزيد من الأفعال المتوالية التي تهز الركود وتُعطي للعروض طاقة خلاقة ودافعية للاستمرار الجمالي.
في مسرحية فرسان المناخ، في أحد المشاهد يتواجد الفنانون الأربعة (عبدالحسين عبدالرضا بدور التاجر منصور بو حظين، ومحمد السريع بدور الوزير، وداوود حسين بدور صخي الديج وأبوسامي) حيث يقوم التجار الثلاثة بزيارة لمكتب الوزير لمناقشته في أوضاع سوق المناخ وما يحصل فيه من متغيرات، محاولين عرض رؤيتهم على الوزير لإصلاح ما يمكن إصلاحه، يتطرق بوحظين إلى الشركات التي يمتلكها وهي شركة بيض الخعفق العقارية وشركة فرخ الخعنفق الاستثمارية، بكلمات قليلة وتعبيرات صوتية متغيرة مع تفعيل لتعبيرات الوجه المناسبة وحركات اليدين، تمكّن هؤلاء في مشهد قصير لا يتجاوز الخمس دقائق من شد انتباه الحضور جميعهم في قالب فكاهي راق وممتع مليء بالضحك والمتعة مما خلق جواً ترفيهياً مشوّقاً، وربط المشهد بكامل القصة دون خروج عن المقصد، وهذا ما يوطّد قيمة الممثل المسرحي الملتزم، باحترافيته في أداء الدور لا يعود بحاجة للخروج عن النص بتعابير ومشاهد مبتذلة أو لا تنتمي للعرض، نرى في المشهد السابق موسقة الأفعال ذاتها، لتصير بمثابة النقطة التحوّلية في عرض لم يخل أصلاً في مختلف فصوله من مثل هذه المشاهد الكوميدية، مما زاد من قوة العرض وجعله متماسكاً طوال مدة عرضه الذي تجاوز الثلاث ساعات.
هكذا تتقدم القيمة الفنية ويظهر أثر الصناعة المبتكرة للفعل المسرحي بقفشات تُبرِز القدرات الجسدية للممثلين الذين استطاعوا أن يوضّحوا الأثر الواضح للحروف والكلمات والحركات بما ينمّي الذائقة للمتلقي.
فالديكور البسيط متمثلاً في خلفية عادية وطاولة وكنب احتوت المشهد تماماً دون حاجة لإضافات لا تخدم الغرض، كما أن الممثلين الأربعة كانوا جالسين متجاورين، وملابسهم متشابهة مع اختلاف ألوانها، الثوب والغترة والبشت، في حالتهم استعانوا بالإمكانيات التي لديهم دون حاجة بالإكسسوارات والمواد الأخرى، برزت مهارتهم في تنويع الانفعالات، وفي تركيزهم على جانب واحد دَمَج قضيتهم الجدية مع خفة الدم، لذا جاءت النكتة متماشية في سياق حديثهم، فتكررت حركاتهم بحيوية برهنت على قدرات تمثيلية فذة وحيوية لم تنقطع، فكان الضحك هو السائد محققاً أقصى المتع الفرجوية للكوميديا.
ليقترب المشهد من نهايته بمقولة مضحكة للفنان الراحل محمد السريع (الوزير) بقوله: (والله يا أخ منصور، خفقعتونا وقعدتوا).
تغيّر الترنيم مع تغيّر الأدوار
هذه الأفعال المسرحية تمتاز بعامل الاتصال، متصلة غير منفصلة، وهي متزامنة مع بعضها البعض، لذلك تخلق حالة من الدهشة للجمهور، فليس هناك انفصال بين الممثل وما يقدمه، بل إطار جامع للحدث بتاريخيته وظروفه وعوامل نشوئه، فالضحك كثيراً ما يدخل من باب التندّر على الواقع وما يتبعه من تأثيرات تمتد لأصحابه ممن وقع عليهم ذلك الموقف، فتظهر لديهم إمكانيات جديدة وممارسات جديدة وأهداف جديدة، تتظافر بدورها لتصنع واقعاً مختلفاً يحاول الخلاص من المآزق السابقة.
فالشخصيات من نسيج مجتمعها، والمسرحية تعكس وتبدّل منها لتجعلها مُمسرحة بشكل مغاير، وهو من أساسات العمل المسرحي، بتعاون هذه الظواهر تتولّد المهارة الاستثنائية للممثل وتتبدّى السلطة الهائلة للمسرح بوصفه مكاناً للتعبير والتغيير والتفجير! تعبير الآراء وتغيير الأفكار وتفجير الإمكانيات الكامنة.
الالتصاق بالشخصية لتجسيدها تجسيداً تلقائياً يُوصلنا لغاياتها وتركيبتها النفسية التي تميّزها عن سواها، فكلّما اقترب الممثل من شخصية الدور الذي سيؤديه كلما ارتفع معدل نجاحه في تقمصّه والإمساك بتلابيبه مما يجعله قادراً على سبر أغوار الشخصية والابتداع فيها بما يوافق مستجدات العرض، وفي الوقت نفسه هذا لا يعني العجز عن الخروج من هذه الدائرة، بل حتى في تقمّص الفنان للشخصية باقتدار فهو بإمكانه الخروج من هذا الدور إلى أدوار أخرى قد تكون مركّبة وتستدعي مهارات جسدية وصوتيّة لا تقل شأناً عن الدور السابق.
والممثلون الذين كانوا بارعين في أدائِهم للمشهد الذي أوردناه فيما سبق وجدوا أنفسهم في المسرحية نفسها في شخصيات جديدة تتطلّب مهارات مختلفة عن دورهم السابق، فالتاجر منصور أبو حظين كان في مشهد آخر هو أبوراشد، وقد أبدع أيما إبداع في تجسيد الشخصية الجديدة بنبرة صوت مختلفة ولغة جسد تدل على استيعاب الممثل لفحوى الشخصية ودورها، وينطبق هذا على الفنان الراحل غانم الصالح الذي أدى دور علي أبو تيله وحمدي والدكتور وداوود حسين بتنقله بين صخي الديج وزهير والراحل محمد السريع بين شخصيتي نايف الأبجر والوزير، والعديد من الفنانين الكبار الذين قدّموا أكثر من دور في نفس المسرحية، في تنقّل يُوحِي بامتلاك المهارات الرفيعة التي أسّست منهم فنانين متمكّنين من أدواتهم، بارعين في توظيف مهاراتهم الجسدية لإبراز الفوارق بين دور وآخر.
لحن الجمهور يوجّه الإيقاع
الدرس الذي نستخلصه من هذه التوليفة المتناسقة، أن اقتراب الممثل من شخصية ما والتصاقه بها وتمكّنه من أدائها لا يعيقه عن استبدال تلك الشخصية وتحطيمها عبر شخصية مختلفة عنها تماماً في ذات العمل، فالممثل البارع لا يثبت على مقياس واحد، قَدَر الفنان المبدع أن يتجاوز ما أبدعه ليستطيع أن يحلّق عالياً بشخصياته التالية، فهو يرتبط تماماً بشخصيته وقت تجسيده لها، لكنه في اقترابه الشديد يدرك أنه في مرحلة أخرى سيبتعد عنها وكأنها لم تكن حاضرة منذ لحظات.
هكذا تتبدّل ملامح الممثّل كجلد الأفعوان الذي يتغيّر لتستمر حياته وإلا فالموت ينتظره.
التكرارية التقليدية هي الموت المحتوم للفنان، فيعود ممثلاً بحسب الطلب لا بحسب الإبداع، وفي ذلك انتفاء للخلق المسرحي وانطفاء لشعلة الشخصية المتفرّدة.
أداء الممثل يبرز بلغة جسده على الخشبة التي تبعث أنوارها على الممثلين والمتفرجين، ففي سيماء الحضور نعرف مدى تأثيرنا عليهم، ولكل فعل ردود فعل يلتقطها الممثل البارع ولا يهملها، هو ليس كالمعلّم في الفصل الدراسي الذي يحرص على تعليم طلبته، لكنه يُعد نفسه واحداً منهم، فما يُقدّمه يوجهه إليهم وما يخرج منهم من تعليقات وضحكات واهتمام ونظرات كلها تُوجّه إليه.
قدرة قياس آراء الجمهور حتى بصمتهم هو إمكانية يدركها الممثل الكبير الذي عرف أسرار صنعته فأتقنها وبرع فيها، مُحدِثاً في وسائله تغييرات لا تتوقف.
حينما يلتحم الممثل مع المتفرجين في وتيرة واحدة من التوافق، تزداد جرأته ويرتقي أداؤه، فكما أنه منهمك بهدوئه في شخصيته فهو يضع الجمهور بعين الاعتبار ويجهد لمعرفة رأيهم وسيرهم معه في خط الأحداث المتتابع.
فكأنهم معه يشاركونه العرض وهو يخاطبهم بتعبيراته الشفافة دون أن ينطق حرفاً، أنتم معي، توافقونني الرأي، أليس كذلك؟! فلنواصل إذن.

ذو صلة