مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

الجوائز العالمية بين التناول السيكولوجي والطرح السوسيولوجي

معلوم أن الجائزة، أية جائزة وفي أي مجال، تكتسب قيمتها المعنوية وصيتها العالمي وجاذبيتها وتنافسيتها القوية، بالمقارنة مع الجوائز الأخرى؛ من خلال ارتكازها على مجموعة من الركائز المحورية، لعل أهمها في اعتقادنا:
• طبيعة الجهة المشرفة على الجائزة، وقيمتها الاعتبارية في العالم ضمن دائرة اشتغال الجائزة.
• القيمة الأكاديمية للجنة المكلفة بالمشاركة في تحكيم البحوث والأعمال المتقدمة للجائزة.
• إشعاع الجائزة، وعدم انحصارها ضمن دائرة ضيقة، قد لا تتجاوز أحياناً حدود المدينة أو الإقليم أو الجهة، بل من المهم أن تكون ذات مجال تداولي متسع، على المستوى العربي مثلاً، أو القاري أو العالمي.
• القيمتان المادية والمعنوية للجائزة.
• استثمار البحوث الفائزة لتطوير النظر إلى مجال اهتمام الجائزة: أدب أو اقتصاد أو رياضة.. فلا يمكن لجائزة بحثية في أي مجال معرفي أن تكتسب قيمتها ونفعيتها، وأن تحقق الأهداف المرجوة منها؛ إذا لم تكن مهتمة بتفعيل مخرجات البحوث التي تفوز فيها. فلا يكفي أن يحقق هذا البحث، أو تلك الدراسة الفوز، بمقدار ما تكون الأهمية الحقة متمحورة حول الاستفادة من هذه الدراسات واختبارها على أرض الواقع، والبحث في مدى إمكانية تطبيق نتائجها ومقترحاتها وتوصياتها، أو تفعيل ما تقترحه من حلول لتجاوز إشكال ما أو معضلات تعترض قطاعاً معرفياً معيناً.
من هذا المنطلق، يبدو من المهم أن نعمق فهمنا لمفهوم الجائزة، ولمختلف الشروط التي تتحكم في إنتاجها ودفع المترشحين للمساهمة فيها. في هذا الإطار، نقترح النظر في هذا الموضوع من خلال زاويتين متكاملتين: استعراض التناول السيكولوجي الذي يركز على نفسية المترشحين والعوامل الداخلية التي تتحكم فيها، ثم تدعيمه بالطرح السوسيولوجي الذي يبحث في السياق السوسيو-ثقافي للمتسابقين ولتأثيره عليهم وعلى سلوكاتهم.
سيكولوجية الجوائز العالمية
لا يختلف اثنان في أن أي سلوك إنساني تحركه مجموعة من الدوافع النفسية التي توجهه وجهة معينة، وتخلق حركة نفسية تجعل الفرد يبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق مراده.
وعلى هذا الأساس تكون الدافعية هي مفتاح مختلف الأنشطة البشرية، بما فيها الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، سواء أكانت هذه الأنشطة عملية من خلال الممارسة الفعلية، أم نظرية عبر مباشرة البحث العلمي في الفروع المعرفية المختلفة.
ولا يقتصر الأمر على مجرد الدوافع فيما يتعلق بالأنشطة البشرية، وإنما يرتبط أيضاً بمفهوم الحافز، باعتباره المثير الخارجي الذي يحفز الفرد للقيام بسلوك معين.
وبعبارة أوضح، إذا كان الدافع مثيراً نفسياً وداخلياً يوجه سلوك الفرد نحو إشباع حالة معينة، فإن الحافز موضوع خارجي يجعل الفرد يقوم برد فعل معين. وفي سياق كلامنا نحن، ستكون الجائزة بمثابة حافز خارجي يجعل مختلف المهتمين يفكرون في طريقة للحصول عليها، وستكون الرغبة في التميز والتفرد بمثابة الدافع الذي سيوجه سلوك الباحثين في مجال بعينه نحو محاولة نيل شرف التتويج بجائزته.
الاستعداد النفسي للحصول على الجائزة
يعد الاستعداد النفسي مسألة ضرورية، وهي من الأهمية بمكان في الإعداد لكل نشاط إنساني، ولاسيما إذا كان على قدر من الخصوصية والفرادة. ومن دون شك، سيمكن هذا الإعداد من محاربة مجموعة من الآفات النفسية الخطيرة التي تعيق سيرورة الحصول على الجائزة، ومنها القلق، والتوتر، وضعف الثقة في النفس أو غيابها، وضعف الانتباه وتشتته.
ويكاد يجمع أغلب الباحثين في هذا المجال على أن الاستعداد النفسي يمكن أن يحضر من خلال الاهتمام بالركائز التالية:
أ. التركيز: ويقصد به على العموم القدرة الذاتية على تضييق الانتباه وتثبيته على مثير معين، أو الاحتفاظ بالانتباه على مثير محدد لفترة من الزمن، وغالباً ما تسمى هذه الفترة بمدى الانتباه.
ب. الانتباه: ويعني تركيز العقل على موضوع واحد ووحيد من بين العديد من الموضوعات الممكنة. وهو يتضمن الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يشتت الانتباه من أمور ملهية، حتى يتمكن الفرد من التعامل بكفاءة مع بعض الموضوعات الأخرى التي يركز عليها انتباهه. وفي حالة غياب الانتباه سنكون أمام حالات الاضطراب، والتشويش، والتشتت الذهني.
ج. التصور العقلي: وسيلة عقلية يمكن من خلالها تكوين تصورات حول الخبرات السابقة، أو تصورات جديدة لم تحدث من قبل بغرض الإعداد العقلي للأداء. ويطلق على هذا النوع من التصورات العقلية (الخريطة العقلية)، بحيث كلما كانت هذه الخريطة واضحة في عقل الباحث كلما كان استعداده النفسي أفضل.
د. الثقة بالنفس: الثقة بالنفس هي توقع النجاح، والأكثر أهمية هو الاعتقاد في إمكانية التحسن.
ه. الاقتناع الذاتي والإرادي بأهمية النشاط الممارس: فإذا لم يكن الباحث مقتنعاً باشتغاله في مجال من مجالات الجائزة، وغير واع بأهمية ما يقوم به، فلن يكون لمجهوده أي معنى، ولن يحقق الهدف المرجو، لذلك من المفروض أن تنبع الرغبة في المشاركة في الجائزة من ذات المشارك، وأن تكون ثمرة إرادته حتى يستطيع أن يعطي ويبدع.
و. المعرفة الجيدة للنشاط الممارس: ذلك أن التنافس على الجوائز، وبخاصة العالمية والمرموقة منها، يقتضي وجوباً أن يكون المترشحون لها من أهل الاختصاص والعلم بمجال الاشتغال، وإلا سيكون مجهود المتنافس مجهوداً مجانياً غير مجد، بل إنه قد يعتبر متطفلاً، يسيء إلى نفسه أكثر مما قد ينفعها.
ز. الحماس: تعتبر قيمة الجائزة وأهميتها، وصيتها العالمي، بالإضافة إلى مكافأتها المادية، وما ستضمنه للحاصل عليها من تألق وصدى عالمي كبير من أهم الحوافز التي تؤجج حماس المشارك. فبدون حماس، لا مجال للحديث عن استعداد نفسي للمشاركة في التنافس حول جائزة ما، ومن ثَمَّ الانخراط قلباً وقالباً في سيرورة الإنجاز.
ح. التطور المعرفي في نفس وقت إنجاز النشاط: تتعدد الأنشطة والممارسات الحياتية اليومية، لكن قلة منها تُمَكِّن من تحقيق التطور المعرفي للفرد. وبيان الأمر أن الانخراط في مشروع ما، وهو المشاركة في الجائزة في سياق كلامنا، يُمكِّن الفرد من الارتقاء بمستواه المعرفي على صعد ثلاثة: المعرفة الصرف. والخبرات، والمواقف أو الاتجاهات النفسية. فعندما ينخرط الفرد في إنجاز المطلوب في جائزة ما، فهو ينفتح على عوالم وآفاق جديدة، يوسع بها مداركه، ويصقل تجربته في البحث، سواء كان ميدانيا أو نظريا، ويعيد النظر من خلال ما يتوصل إليه في مجموعة من قناعاته، ومواقفه الحياتية، واتجاهاته النفسية. وبالنظر إلى أن التنافس لا يمكن البتة أن يتم إلا حول مواضيع تعود بالنفع على الإنسان والمجتمع، فإن البحث سيتيح لممارسه تصحيح توجهاته، وتعديل ميولاته، وتقويم نظرته لمجال اشتغاله، وربما للحياة ككل. ومن هذا المنطلق، عندما يشارك الفرد في جائزة ما، فهو يخرج من هذه التجربة شخصاً آخر مغايراً لذاك الذي دخلها أول الأمر.
الدافعية النفسية
نميل إلى الاستئناس في توضيح هذه النقطة بإسهام (فكتور فروم - Victor Vroom) الذي صاغ نظرية متميزة تفيدنا في سياق الحديث عن الدوافع النفسية الكامنة وراء الترشح للجوائز، حيث يوكد أن دافعية الفرد لأداء عمل ما هي إلا محصلة العوائد التي سيحصل عليها، واعتقاده بإمكانية الوصول إلى هذه العوائد. وعلى هذا الأساس، تكون دافعية الفرد للقيام بنشاط معين شديدة الارتباط بتوقعات الفرد بأن المجهود الذي سيقوم به سيمكن من تحقيق أداء معين، بحيث يترسخ في ذهنه أن هذا الأداء هو وسيلته للحصول على عوائد معينة، يظن أنها ستعود عليه بمنفعة من نوع ما.
ولتوضيح الأمر أكثر، تنبع دوافع المشاركة في جائزة ما من تَشكُّل توقع في ذهنية المشارك المفترض الذي يعتقد جازمً أنه قادر على المشاركة لتوفره على المؤهلات الضرورية، وهو ما سيجعل مجهوده ينتج إنتاجاً معيناً، هو البحث الأدبي مثلاً. وبناء على هذا التوقع، يكون من البديهي أن يفضي هذا الأداء إلى الحصول على الجائزة، التي ستكون لا شك في ذلك ذات منفعة عظيمة، مادية ومعنوية.
ويهمني في هذا السياق أن أؤكد أن مشاركة الشخص في جائزة ما، خصوصاً الجوائز العالمية الكبرى، يصب رأساً في إطار بحث المتنافس عن تحقيق الابتكار، وعن تقدير الآخرين لعمله وخبرته وتفرده، بل إنه يحاول من خلال التنافس أن يحقق ذاته وأن يجد لها موقعاً متميزاً، إنْ في المجتمع (بمختلف تنويعاته: المحلي والدولي، والعملي والمهني..) أمام الآخرين، وإن أمام نفسه ذاتها لتحقيق نوع من الامتلاء، ولتدعيم الثقة في النفس.
وبالتالي، تتموقع الجائزة في قمة هرم (ماسلو) المخصص للحاجات الإنسانية: فبعد أن يلبي الفرد احتياجاته الفيسيولوجية (الأكل، والشرب، والنوم... قاعدة الهرم)، ينتقل في مستوى ثانٍ إلى البحث عن السلامة والأمن (الصحة، والعمل، والاستقرار... المستوى الثاني)، قبل أن يسمو نحو قيم إنسانية عليا (الحب، والانتماء، والصداقة... المستوى الثالث). بعد ذلك ننتقل إلى المستويين الأخيرين، مستوى تقدير الذات (الثقة بالنفس، وتحقيق الإنجاز، واحترام الآخرين، والحاجة للتميز... المستوى الرابع)، وأخيراً مستوى تحقيق الذات، في هذين المستويين تتموقع الجوائز، التي بالمشاركة فيها يحقق الإنسان ذاته، ويضمن تميُّزه.
سوسيولوجيا الجوائز العالمية
ثمة ارتباط بين سلوك الفرد والمكافأة التي تترتب عن هذا السلوك، ذلك أنها تساعد في تقويته والدفع إلى استمراريته.
تتيح أنظمة الجوائز المعاصرة التوفيق بين الاحترام التام والكلي لمجموعة من المعايير الجماعية، ومفهوم الفرادة الشخصية، فتصبح الجوائز بالتالي أدوات فاعلة وحاسمة في تحديد التميز داخل المجتمع والرفع من قيمته والإشارة إليه.
كما يُنظر إلى الجائزة سوسيولوجياً من منظور رمزي بوصفها (امتحاناً للعظمة والبهاء). ومن هذا المنطلق، يقترح علماء الاجتماع، وعلى رأسهم (باسكال دوري – Pascal Duret)، معيارين حاسمين في التعرف على العظمة المرتبطة بالجوائز العالمية وتحديد مفهومها، وهما:
أ‌. بإمكان الأفراد أن يُطوِّعوا أعمالهم لكي تستجيب لمعايير العظمة والتألق داخل مجتمع ما، بحيث تكون هذه الأعمال متوافقة -ضمناً أو علناً- مع توقعات وأفق انتظار أولئك الذين نعتبرهم حَكَماً في المجال ومرجعاً تتم العودة إليه، بل إنهم الذين يحددون مَن يدخل ضمن دائرة العظمة ومن يخرج منها، وذلك حسب نوعية المجال المتنافس فيه. وبالنسبة إلى مجال البحث الأدبي، يتحقق الاعتراف بالتفوق من خلال معايير مخصوصة ترتبط بمجالين كبيرين: أولهما التفوق في مجال البحث العلمي والضبط المنهجي، وثانيهما الإلمام الكبير بمختلف المجالات الأدبية واللغوية، سواء ما تعلق منها بالنظريات الأدبية، أو المناهج النقدية، أو الأجناس الأدبية، أو نظرية الأدب، أو التاريخ الأدبي، أو النحو والصرف، أو البلاغة والعروض.. وغيرها.
ب‌. يمكن للأفراد أن يحددوا، بأنفسهم، مقدار (عظمتهم) من خلال مقارنة أنفسهم، أو إنجازاتهم بدقيق العبارة، بالنماذج المشهورة في مجال اختصاصهم، بمن نعتبرهم (أبطالاً)، أو (عباقرة) لا يشق لهم غبار.
ويجب ألا ننسى أن الجوائز العالمية تساهم بشكل ملحوظ ليس فقط في منح قيمة عليا وعظمة لصاحبها، بل إنها تلعب دوراً محورياً في تقسيم الأمم والشعوب بناء على كفاءة أفرادها وتفردهم، ومن الأمثلة على ذلك على سبيل المثال لا الحصر أن جائزة نوبل للآداب التي حصل عليها الروائي (نجيب محفوظ)، ضمنت لمصر صيتاً عالمياً ومكانة أدبية عالمية، وهو نفسه ما حصل في نيجيريا عندما حاز (وول سوينيكا) نفس الجائزة. بل إن فوز (عبدالفتاح قرنح) بجائزة نوبل للآداب يجعلنا أمام معطيات من الأهمية بمكان، فبما أنه مهاجر إلى بريطانيا، ومن أصول تنزانية، وينحدر من أب يمني، فهذا يعني أن قارات ثلاث تتجاذبه: أوروبا، وأفريقيا، وآسيا. ومن ناحية أخرى، فبالنظر إلى محتده العربي فقد نشأ على الإسلام، وتمرس على قراءة القرآن (رغم أنه لا يجيد اللغة العربية بشكل كُلّي)، غير أنه بعيشه في بريطانيا كان منفتحاً على المسيحية أيضاً، ومن ثمة كان لهذه الجائزة دور في خلق تقارب -ولو رمزي- بين فضاءات جغرافية متباعدة، ولغات مختلفة، وديانات متباينة.
ولو ألقينا نظرة على مجال مختلف هذه المرة، مجال الإنجاز الرياضي المتفرد، فمن منا لا يعرف البرازيلي (إدْسون بيلي)، أو الأرجنتيني (ليونيل ميسي)، أو البرتغالي (كريستيانو رونالدو)، أو الأثيوبي (هبري سيلاسي).. وغيرهم كثير ممن حصلوا على جوائز عالمية (كؤوس عالمية، وأرقام قياسية عالمية، وكرات ذهبية..)، ضمنت لهم ولشعوبهم مكانة عالمية مرموقة؟
وبالنظر إلى أن الحصول على الجائزة يقتضي تجاوز الآخرين والتميز عنهم، سواء داخل الجماعة الضيقة للمعنيين بالجائزة، أو داخل المجتمع العالمي بصفة عامة ما دمنا نتحدث عن الجوائز العالمية، فلا محيد من التشبث بالتسامح مع الآخر واحترامه. فلا يعني التفوق وإحراز الجائزة الغرور أو التقليل من قيمة الآخرين، وإنما يقتضي -على العكس من ذلك- التعايش السلمي، والاحترام المتبادل، والتواضع الذي هو من شيم العلماء والمتفوقين والعباقرة.
كما يركز الطرح السوسيولوجي لمفهوم الجائزة على تلك الجوانب الخفية التي لا يراها الجمهور، ذلك المجهود المضني، والمعاناة اليومية الجسمانية والنفسية، والتوتر، والمكابدة، والجلَد.. وغيره مما يصاحب عملية الإنجاز قبل التقدم بغرض التنافس على الجائزة. ولا مراء في أن كل ذلك يكون على حساب الاستقرار العائلي للمتنافس الذي يقضي سحابة يومه وجل وقته في التحضير لنيل العلا. لا يرى الجمهور سوى الجزء الصغير الظاهر من جبل الجليد العائم، أما الجزء الأعظم غير الظاهر فيبقى طي الكتمان متوارياً خلف الإنجاز، لكنه حاضر وماثل في ذهن الْمُنْجِز وكذا لجنة تقويم الإنجاز.
وعلى العموم، تبقى الجائزة نوعاً من أنواع التعزيز الإيجابي لسلوك محمود، بحيث يقوم هذا التعزيز على عناصر مادية (المكافأة المادية، والميدالية، والشهادة التقديرية..)، وأخرى معنوية (التشجيع، والمدح، وتمتين الثقة في الذات..).

ذو صلة