أين موقع المؤلف في النص الأدبي؟ وما مدى حضوره فيه؟ وهل لهذا الحضور من أهمية؟ وهل ما ينشئه هذا المؤلف أو ذاك يمثله دائماً ويعبر عن شخصيه؟ وهل النص الأدبي مستقل استقلالاً تاماً لا يحتاج معه، لا إلى صانعه، ولا إلى أي شيء خارجه؟
تلك هي أسئلة هذا المقال. وقد تفاوتت مواقف النقاد وآراؤهم فيها.
حضور المؤلف
يرى قوم من النقاد أن معرفة سيرة المؤلف، وتفاصيل حياته والأحداث المختلفة التي مرت به تعين على تفسير جوانب من أدبه، وعلى فهم بعض الألفاظ والعبارات والإشارات التي وردت فيه.
إن هنالك فريقاً (يعد الأدب -بصورة رئيسة- نتاج الفرد الخالق، ومن ثَم يستنتج أن الأدب ينبغي أن يُبحَث بشكل رئيس من خلال سيرة المؤلف ونفسيته).
وهذا ما تبناه مثلاً المنهج النفسي، ودافع عنه بقوة. وهذه المعرفة -زيادة على دورها في فهم العمل الأدبي وتفسيره- ممتعة ومفيدة، وقد يكون لها دور في تقدير قيمة هذا العمل كذلك، إذ إن كثيراً من الأعمال والأقوال تكتسب قيمتها من مكانة قائليها.
كما أن بعض علماء اللسانيات أنفسهم -وهم المعنيون أصلاً بالنص وحده- يعد الأسلوب نفسه صورة من شخصية صاحبه. ولا أشهر في هذا السياق من عبارة بوفون: (الأسلوب هو الرجل نفسه) مما يعني -كما يقول أحدهم- (أن الكاتب ينبغي أن يكتب بدمه).
غياب المؤلف وموته
ولكن هذا الحضور للمؤلف لا يلقى حظوة في اتجاهات الحداثة وما بعد بعدها. وبلغ الأمر عند الاتجاهات الشكلية اللسانية كالبنيوية، والنقد الجديد، والتفكيكية، ونظرية التلقي وغيرها أن يكون من أصولها الكبرى تغييب المؤلف، بل الحكم بموته عند بعضهم. حتى قال بعضهم: إن (موت المؤلف) هو صيحة الحرب التي يمكن للنقد الحديث أن يطلقها الآن بثقة.
وقد نُسِبت فكرة (موت المؤلف) إلى رولان بارت الذي قدم لتسويغها مجموعة من الأفكار، منها:
- أن الكتابة حياد، هدم لكل صوت، أي لا ترتبط بزمن، أو ظرف، أو شخص.
- أنه ما إن يروى حدث حتى يغيب المؤلف، ويفقد صوته، ويدخل في موته الخاص.
- أن اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف، حُذِف المؤلف لمصلحة الكتابة، وأعطي القارئ مكان المؤلف.
- أن إبعاد المؤلف يعني: إلغاء الزمن فيصبح النص غير مرهون بزمن كتابته، أو مؤلفه، بل كأنه مكتوب بشكل أبدي. ويعني إلغاء أحادية الدلالة، أو مقصدية المؤلف. ويعني أن النص عندئذ مصنوع من كتابات مضاعفة، وهو نتيجة لثقافات متعددة، تدخل كلها بعضها مع بعض في حوار، وتتداخل عند القارئ. وموت الكاتب هو الثمن الذي تتطلبه ولادة القراءة.
غياب مقصدية المؤلف
وعندئذٍ فإن المؤلف -كما يرى بارت- لا يعرف أكثر من غيره دلالة كتاباته وقيمتها، وأن استبعاده يعني استبعاد أي قصد له في نصه، وسيكون من نتائج هذا الاستبعاد أن الأعمال الأدبية لا تمتلك معنى أحادياً. سيتولد عن هذا الاستبعاد تعددية المعاني في نص معين.
وكان بارت يقول: لو كانت الكلمات لا تحمل سوى معنى قاموسياً واحداً لما كان هناك أدب، فالأدب يقوم على هذه التعددية للمعاني بالذات. ومن ثم فالعمل الأدبي أزلي، لا لأنه يفرض معنى وحيداً على أفراد مختلفين، وإنما لأنه يوحي بمعان مختلفة للشخص الواحد.
إن فكرة (موت المؤلف) تعني استبعاد أي دور له في استنتاج معنى النص، وتعني أن عملية الكتابة هي عملية آلية لا تعبر عن مقصديته (إن عملية القول وإصدار العبارات هي عملية فارغة في مجموعها. وهي لا تستند إلى شخص بذاته، وإنما هي نتاج متعدد المنابع والأصول، ساهمت فيه منابع ثقافية متنوعة، انحدرت منها دفعة واحدة أو بطريقة معقدة. وهذا يعني أن النص يولد هكذا، وأنه أشبه بلغة ميتة ترسبت فيها مجموعة من الاقتباسات لتكون في الأخير نسيجاً من العلامات الصماء التي لا تحمل أهواء ولا مزاجاً ذاتياً، ولا رؤية، أو معتقداً، ما دامت عبارة عن كتابة آلية كتبها ناسخ حل محل المؤلف الذي مات..).
وقد يكون بين المقاصد الواعية للفنان وبين الأشكال التي يجسد فيها رؤيته للعالم تفاوت كبير أشار إليه لوكاتش، إذ إن التحليل الجمالي اللازم يستخلص الدلالة الموضوعية للعمل الأدبي، ثم يأتي الناقد فيربطها مع العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعصر، وتبقى القيمة الفنية الجمالية هي المعيار الأساسي، وبمقدار ما تكون هذه القيمة كبيرة، وبمقدار ما يعمل المنهج، وما يُفهم العمل بذاته، بمقدار ما يجسد رؤية للعالم.
وعلى الرغم من أن البنيوية التكوينية الماركسية التي نادى بها غولدمان ترى أن البنية ليست بنية منعزلة مستقلة، والنص ليس عالماً مغلقاً على ذاته، بل البنية مرتبطة بالسلوك والواقع الاجتماعي العام، إلا أن هذه البنيوية التكوينية الماركسية كالبنيوية الشكلية، تهمل المؤلف، ولا تهتم بمقصديته.
لقد كان غولدمان مثلاً من أوائل الذين أكدوا على هذا الموضوع الذي طالما أخذ به بارت والنقد المعاصر، وهو أن المؤلف لا يعرف أكثر من غيره دلالة وقيمة كتاباته، وأن سؤال شهوده ووسائله ليست بالضرورة أفضل السبل لفهمها.
إن الصيد كله في جوف (النص)، وما المؤلف إلا ناسخ متناص مع كتابات قديمة لا حصر لها، وهو عندئذٍ حَرِي أن يُستبعد من الحكم النقدي، بل أن يُنْفى، بل أن يُحكم عليه بالموت.
وسطية الغياب والحضور
إن التكثيف من الاعتماد على حضور المؤلف، والمبالغة في الاعتماد على سيرته في مقاربة النص الأدبي يشبه استبعاده الكامل، ونفيَ أي حضور له في هذه المقاربة، في كلا الاتجاهين من الغلو والتطرف وأحادية النظرة ما لا يخفى.
إن اعتبار الأدب انعكاساً لشخصية المؤلف أو لشخصيته الحقيقية الموجودة في الواقع غير مسلم به دائماً، ولا يُستبعد -إن لم نقل في الأغلب الأعم- أن تكون هذه الشخصية اللغوية والورقية التي أمامنا تعكس غير الشخصية الحقيقية.
ألم يتحدث القرآن الكريم مثلاً عن طائفة من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون؟
وهذا المعري -في تراثنا- يشير إلى طائفة من الشعراء الذين لا تشير أقوالهم إلى حقيقة شخصيتهم، أو حقيقة معتقداتهم.
يقول عن المتنبي -في معرض دفاعه عنه، وتبرئته مما نسب إليه من سوء المعتقد-: (إذا رُجِع إلى الحقائق فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تديناً، وإنما يجعل ذلك تزيناً، يريد أن يصل به إلى ثناء، أو غرض من أغراض الخالية أم الفناء، ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون.
ما يلحقني الشك في أن (دِعبل بن علي الخزاعي) لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع، وإنما غرضه التكسب، وكم أثبت نسباً بتنسب! ولا أرتاب في أن دعبلاً كان على رأي (الحكمي) وطبقته، والزندقة فيهم فاشية، ومن ديارهم ناشية. وقد اختُلِف في أبي نواس، ادعى له التأله، وأنه كان يقضي صلوات نهاره في ليله. والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه..).
لقد حذر النقاد من الإسراف في الاعتماد على السيرة، ومن الانخداع بها، والجري وراء سرابها الذي ما أكثر ما يكون مضللاً، ذلك أن الأثر الأدبي -كما يقول الناقد الإنجليزي ديفيد ديتش- ليس وثيقة لحياة صاحبه، ولا محض نسخة من الحياة ذاتها، فهو كثيراً ما يجسد لا سيرة الكاتب الشخصية، بل قد يجسد (حلم) الأديب، لا واقع حياته، أو قد يكون (القناع) أو قد يكون (النقيض) الذي يُخفي وراءَه شخصه الحقيقي، أو قد يكون صورة من الحياة التي يريد الأديب أن يهرب من نطاقها، ثم علينا ألا ننسى أن الفنان قد يجرب الحياة تجربة مباينة من خلال فنه، فيرى التجارب الواقعية من حيث فائدتها للأديب، فتجيء إليه وقد تلونت بعض الشيء بلون التقاليد والمواضعات الفنية.
وبهذا يبدو الاعتماد المبالغ فيه على سيرة المؤلف، أو الثقة التامة بها شَرَكاً يقعُ فيه النقد التاريخي أو النفسي الذي يعول كثيراً على هذه السيرة الذاتية للمؤلف.
كما ينسى هؤلاء المعولون على السيرة أمراً آخر في منتهى الأهمية، وهو أن العمل الأدبي له -في الأصل- أعرافه الخاصة النابعة من كونه: شعراً، أو قصة، أو مسرحية، أو غير ذلك من أجناس الأدب المعروفة. وهو محكوم بهذه الأعراف الفنية الخاصة بكل جنس من هذه الأجناس.
وعلى أن استبعاد المؤلف ليس حكماً عاماً، ولا هو في جميع المقامات. ولا تنفي المسوغات التي قدمت لاستبعاده ضرورة حضوره في نصوص كثيرة لا حصر لها، ولا يمكن أن تُفهم أو تؤول من غير حضوره، ولاسيما النصوص المقدسة التي اكتسبت قداستها أصلاً من قائلها.
يشير ديفيد ديتش إلى موقف وسطي في هذه المسألة، فيقول: (السيرة قليلة العون في تعيين قيمة الأثر الأدبي، ولكن علينا أن نؤكد أن هذا لا يعني أن سيرة الأدباء الكبار قليلة القيمة في ذاتها. ربما تساعدنا السيرة على تقدير قيمة الأثر الأدبي، ولكنها دراسة هامة ممتعة على وجهها، والتطلع الفكري مثمر دائماً، وبخاصة ذلك التطلع الشغوف لمعرفة سير العظماء، ومن كان باحثاً جاداً في الأدب كانت كل معرفة لديه ذات فائدة..).
إن معرفة سيرة المؤلف تعين على تفسير جوانب من أدبه، وهي ليست دائماً عديمة الجدوى في تقدير قيمة القول وتقويمه، إذ إن قيمة كثير من الأقوال ترجع إلى مكانة قائليها، وكم يتأتى (شرف الكلام من شرف القائل)!
ثم إن استبعاد المؤلف يعفيه من المسؤولية، ويفقد النصوص مصداقيتها، إذ يؤدي إلى ضياع مسؤولية الكلام، وفقدانه الموثوقية.
كما أن الزعم بموت المؤلف يحرم النص من الواقعية، ويجرد المؤلف من حقوقه، وهو يفتح الباب على مصراعيه أمام تأويلات غير موضوعية ولا منضبطة.
وقد أدت فكرة تغييب المؤلف إلى فتح الطريق للتخلص من فكرة وجود معنى مركزي للنص، فبانعدام أي دليل على المقاصد يستحيل عادة التقليل من الالتباسات التي تحفل بها حتى لغتنا اليومية.
لقد نزعت البنيوية وغيرها أهمية الذات المبدعة، وأسقطت عبقرية الفنان وتميزه، عندما استبعدته، بل حكمت عليه بالموت، وجعلته -من خلال القول بالتناص- لا يزيد على كونه ناسخاً أو لاماً جامعاً لنصوص قديمة مقولة، مما يعني نفي العبقرية الفردية، والتجاهل لمواهب الأدباء وتميزهم، والحط من شأن ذاتية الإنسان المبدع.
ومن خلال القول بموت المؤلف، والمبلغة في فكرة (التناص) لم يعد هذا المؤلف -هذا العبقري الموهوبُ- غير جامع أو لام لكتابات قد مرت به. إن درجته تنحط إلى درجة الصفر، وعلينا عندئذٍ أن نعود إلى النص، أن نقرأ اللغة وحدها، إنها -على رأي بارت- وحدها التي تتكلم، وليس المؤلف، والنص لا يقول شيئاً عن مبدعه، ولا هو تعبير عنه، أو انعكاس لشخصيته كما كانت تقول بذلك مناهج أخرى، كالمنهج النفسي والمنهج التاريخي مثلاً.
وفي هذا الكلام من الغلو والشطط ما لا يخفى، وذلك أن عودة المؤلف إلى نصوص سابقة - شعورياً أو لا شعورياً - وتناصه معها، أو استفادته منها بأية صورة من الصور، لا ينفي حضوره، ولا يعني إلغاءه تماماً من العملية الإبداعية، ذلك أن هذا (النسخ) أو (التقليد) الذي يشير إليه بارت - لو صح، وما هو بصحيح في رأينا - لا يلغي شخصية المؤلف، ولا يغيبه تماماً بحيث نعده مجرد ناقل لا أكثر. إن هذا (النسخ) نفسه، وهذا التقليد -لو صحا، وما هما بصحيحين- إنما هما تعبير عن شخصية المؤلف، وانعكاس لفكره وثقافته وتكوينه.
ما الذي يجعلني -بوصفي مؤلفاً- أتعالق مع هذا النص أو ذاك من دون غيرهما من النصوص؟ ما الذي يجعل ذاكرتي -شعورياً أو بغير شعور- تحتفظ بما تحتفظ، وتطرح الكثير فلا تحتفظ به؟
إن المؤلف لا يموت أبداً، والنص هو أصل العملية النقدية، ولكنه لابد أن يُعتمد أحياناً على معرفة بالمؤلف، أو ظروف إنشائه النص. وقد يعين ذلك على تفسير النص وإن لم يعن على تقويمه.
لقد كان الباعث على الكلام عن موت المؤلف -بهذا الحجم من التضخيم والمبالغة والإثارة- إنه جاء رد فعل على الغلو الذي صاحب استحضاره، وتضخيم دوره عند أصحاب مناهج السياق الخارجي. ومن شأن كل غلو وإفراط في منهج من المناهج أن يُقابَل -في الغالب- برد لا يقل عنه حدة ومبالغة.