تتشكل رؤية المفكر والناقد المغربي الشهير الدكتور سعيد يقطين وفق ما اكتسبه من أفكار ومواقف ونظريات غربية وعربية ساعدته في خلق دينامية جديدة في مجال الأدب عموماً وعلم السرديات على الخصوص. ولقد استطاع كباحث ومفكر وناقد للسرد العربي القديم والحديث والمعاصر أن يؤسس أسساً لهذا البحث ومبادئ انبنت على ما جاءت به النظرية السردية الغربية والتراث السردي العربي معاً، حيث فرض ذاته ورؤيته النقدية والعلمية في السرديات بشكل واضح وجلي تركت بصمتها في عالم الأدب والبحث الأكاديمي العربي عامة. وبهذا يكون من بين الباحثين العرب الذين تشكلت على أيديهم نظرية سردية عربية قائمة الذات، حيث استطاع أن يكرس نفسه مفكراً ومنظراً لهذا العلم، علم السرديات وتميز فيه بشكل بارز.
يرى الدكتور إدريس هاني أن الدكتور سعيد يقطين ينقلنا إلى أبعد مما تتيحه الغواية الأيديولوجية في مجال النظرية الأدبية والتحليل السّردي، حيث يحترم مهنته في التدريس الجامعي ويلاحقها بمزيد من الإبداع والاجتهاد، من أجل توسيع التجربة الأدبية المغربية بوفرة من القراءات والتحليلات، بعضها يُؤكد على ضرورة كبرى النظريات في السرديات داخل المجال الأدبي العربي وما يحتويه من تراث سردي وحكائي، حيث يبرز الاهتمام بالحكاية الشعبية وأشكالها المتعددة، وبعضها لعب دوراً أساسياً في تطوير السرديات التطبيقية وتوسيع مجالها، حيث تمكَّن يقطين من توسيع مدى السرديات ووظيفتها الأدبية والفنية، لتشكيل رؤية جديدة تجعل منها جزءاً من موضوعات هذا العلم أو ذاك.
يستند الدكتور سعيد يقطين في مشروعه النقدي والأكاديمي منذ البداية إلى الرواية معتمداً في ذلك على مفاهيم منهجية محددة المعالم والتصورات ليتقدم في مشروعه هذا إلى الثقافة الشعبية العربية محدداً خصوصياتها النثرية والسردية التي لم تمنعه من الانفتاح على الوسائل التقنية الجديدة والثقافة الرقمية التي يعتبرها رهان الأدب العربي والثقافة الإنسانية عامة. إن الأساس في نظرتنا إلى تصورات يقطين السردية تقوم على اهتمامه بثلاثة اختصاصات متداخلة ومتماسكة فيما بينها ينظر من خلالها إلى البنيات الخطابية والنصية والحكائية التي يقوم عليها كل جنس سردي محدد.
يهتم الباحث الأكاديمي سعيد يقطين في كتابه الأساس (قال الراوي) بالحكي ضمن السرديات معتمداً في ذلك على مطابقة القصة بالجملة الفعلية من ناحية أولى، وبمطابقتها بالواقع المشخص عبر التجربة من ناحية أخرى (سعيد يقطين، قال الراوي، البنيات الحكائية في السيرة الشعبية، المركز الثقافي العربي، ط 1-1997م). وفي هذا الإطار يقول الباحث المغربي محمد الداهي أن سعيد يقطين يتعامل مع الحكاية من خلال وصفه لها بالمقولة الجنسية الخاصة بجنس الخبر أو السرد، وباعتبارها كلية ثابتة تضم شبكة من المقولات الفرعية (الأفعال والعوامل والزمن والمكان). خصص سعيد يقطين لكل مقولة من هذه المقولات الأربع فصلاً خاصّاً، واشتغل عليها من وجهة نظر الناقد والمختص بمجال الشعرية لتقديم تصور ملائم حول جنسية السيرة الشعبية (بيان بنياتها المجردة الكلية) وتجلياتها النصية (التعامل مع بنيات كائنة وملموسة). فأي منظور يزاوج بين الاختصاصين إلا ويراهن على ركوب غوارب الرهان الصعب، ويتطلب جهوداً مضاعفة بخاصة لما يكون المتن غنيّاً على نحو المتن الذي يدرسه سعيد يقطين (عشر سير شعبية وتسعة وثلاثون مجلداً) (انظر: موقع الناقد الأكاديمي محمد الداهي).
وتتطلب قضايا السرد العربي بالنسبة ليقطين وإشكالاته المتعددة والمتنوعة، تجديداً للأسئلة المرتبطة بكيفية قراءته وتحليله، بل إعادة النظر فيما راكمه كباحث مبدع في مجاله من تصورات ومواقف وآراء تهتم بالسرد ذاته، حيث يؤكد على ضرورة تطوير النظرية السردية والانخراط في الدراسات السردية العالمية البارزة، بل فهم التراث السردي العربي والتفاعل معه بالشكل الإيجابي الذي يستفيد منه الباحث الأكاديمي والناقد نفسه في القراءة والإبداع والتحليل، وتحويله ليتلاءم مع ما صارت تفرضه ضرورات العصر الرقمي ومتطلباته (سعيد يقطين، السرد العربي 2: أنواع وأنماط، منشورات ضفاف، ودار الاختلاف، ودار الأمان، 2022م).
من التراث السردي إلى السرد المعاصر
ولا يمكننا الحديث عن السرديات العربية بمنأى عن سعيد يقطين الذي استطاع أن يضع اللبنات الأولى لها، حيث تمكن من وضع تصورات واضحة المعالم في هذا الحقل الثقافي العربي الذي تعود جذوره وأصوله إلى تراثنا العربي الغني بالمدونات السردية والأفكار المؤسسة للسرد العربي الحديث. هذه التصورات تمكننا حسب يقطين من استيعابها بدقة، (وتمثلها وفق قواعدها وأصولها، ويدفعنا هذا إلى الاجتهاد في نطاقها، والعمل على تطويرها للانطلاق مما يقدمه لنا السرد العربي، وبذلك يمكِّن الفكر السردي العربي أن يتجاوز حدود التأثر الدائم والمتواصل دائماً إلى الإسهام والتأثير، وينقلنا من وضع الاستقبال إلى الإنتاج). وهذا ما يدفع يقطين دائماً إلى الاستعانة بالتصورات الغربية لتأسيس سرديات عربية وضاحة المعالم والتصورات تعتمد على المنجز الغربي في هذا المجال دون أن تتبرأ من التراث الأدبي والثقافي العربي.
لقد التفت يقطين إلى التراث السردي العربي من أجل أن يدفع الإنسان العربي عامة إلى إدراك ذاكرته الجماعية وتاريخه، لأنه لا يبالغ إذا قام بالتشديد على (الأبعاد التمثيلية، في هذا النص لمختلف ما يمكن الجسد العربي، ويترسخ في الذاكرة العربية والوجدان العربي، ويحدد مختلف أنماط التخيّل والإدراك والسلوك لدى الإنسان العربي) (سعيد يقطين، الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1-1997م، ص 9). ومن هذا المنطلق يعرف يقطين سرديات النص بأنها (تهتم على وجه الإجمال بالنص السردي باعتباره بنية مجردة أو متحققاً من خلال جنس أو نوع محدد. وهي تهتم به من جهة نصية تحدد وحدته وتماسكه وانسجامه في علاقته بالمتلقي في الزمان والمكان، ويسمح لها بهذا الاهتمام بالنص السردي بوضعه في نطاق البنية النصية الكبرى التي تنتمي إليها، فتنظر فيه من خلال مختلف جوانبه وعلاقاته بغيره من النصوص، واضعة إياه في نطاق مختلف المقولات التي يتمفصل إليها العمل الحكائي، فتعاين الفعل النصي من خلال الإنتاج والتلقي، وتربط كلّاً منهما بفاعل (الكاتب- المؤلف) و(القارئ- السامع) وتضعهما معاً في زمان وفضاء معيّنيْن) (سعيد يقطين، الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي، ص 226).
يصور يقطين السرديات العربية من خلال مقاصد ومرجعيات متشكلة في وعيه النقدي والفكري منذ عقود، حيث يستثمر في ذلك كل ما جاءت به المرجعيات الثقافية والنقدية العربية، والمرجعيات الغربية في النقد الغربي عامة. وفي ذلك يستعين الدكتور يقطين بالمفاهيم والآليات المقترحة من السرديات الغربية، حيث يقوم بمحاورة مفاهيم جيرار جينيت الكائنة في كتابه (خطاب المحكي)، لأنه قام باستبدال الصيغة بالسرد والصوت بالتبئير (مصطفى منصوري، سرديات جيرار جينيت وأثرها في النقد العربي الحديث، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1-2015م، ص 295-301). كل هذا دفع به إلى إنتاج أبحاث ودراسات نقدية ونظرية تستند إلى التراث العربي والسرديات الغربية معاً، من أجل إنتاج تصورات نقدية سردية لمقاربة السرد العربي المعاصر باقتراح آليات ومفاهيم نقدية تأسيسية تقوم على أسس مفهومة ومدرَكَة.
إن مدى انشغال يقطين بطرح مفاهيم السرد لها علاقة بسيرورات المعرفة النقدية والأدبية من خلال ما روّج لها في كتبه، وبخاصة المفاهيم التي لها علاقة بالبنيوية وسؤال علم السرد ولسانيات النص وسوسيولوجيا الأدب، حيث يمتلك في ذلك شروطاً مفاهيمية وعلمية للكتابة التنظيرية والنقدية في هذا الحقل العلمي الكبير التي تمنحه تفرداً وأصالة علمية في بحوثه وأفكاره وتصوراته النقدية للسرد. فشخصيته كناقد بدرجة أولى وباحث متميز تصوراً وتنظيراً بدرجة ثانية، تصف ما كتبه منذ بداية مشروعه النقدي ومازال يكتبه إلى يومنا هذا، بأنه يمثل أيقونة البحث الأكاديمي العربي في حقل السرديات قد خلق مساحات شاسعة للتأويل والتفكير وبناء النظرية السردية العربية الجديدة.
آليات مقاربة النص السردي
يفسح يقطين في مشروعه الأكاديمي في السرديات مجالاً واسعاً للتفكير النقدي والمفاهيمي، حيث يستدعي مفاهيم نظرية وإجرائية تسعف في التحليل، تحليل النص السردي بشكل يدعو إلى دمج السؤال النقدي ببنية النص نفسه. حيث يسعى إلى تكريس السرديات كمجال خصب واختصاص لتحليل السرد العربي في مختلف أشكاله وأنواعه وتجلياته الزمنية والأجناسية، كل هذا من أجل تعميق الفهم للسرديات في حد ذاتها سواء على المستوى النظري أم على المستوى التطبيقي والقراءة النقدية للنص السردي عامة، وذلك من خلال تقديم معرفة واسعة عن أهم إنجازاتها وإجراءاتها وقضاياها وأسئلتها الأساسية في التحليل والقراءة التأويلية.
ويؤكد يقطين أن عمله البحثي الأكاديمي يقوم على التحليل السردي نظرياً وتطبيقياً، لأنه يرى أن السرديات هي مشروع علمي لدراسة السرد، وحتى وإن كانت تتقاطع أو تتداخل مع غيرها من النظريات السردية، السابقة عليها، أو المعاصرة لها، أو اللاحقة بها، فإن لها خصوصيتها التي ينبغي الانطلاق منها، وتمييزها عنها، وإلا صار كل بحث في السرد، مجرد (سرديات). حيث يبدو هذا المشروع العلمي عنده قابلاً للتطور ومواكبة لما يستجد من إبدالات وتغيرات معرفية وفكرية ونصية، من أجل الاستمرارية في التاريخ والجغرافيا والإسهام في تطوير الفكر الأدبي العربي والإنساني.
في كتابه (القراءة والتجربة: حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب) الصادر عام 2013م عن دار الثقافة بالدار البيضاء، يؤكد يقطين على أن قراءة الرواية المغربية هي محاولة للبحث في مكونات الخطاب الروائي الجديد بالمغرب، باعتبارها مدخلاً لقراءة متجددة تحتاج منه إلى التوسع فيها مستقبلاً حيث يرى أنها تقوم على مستويين اثنين هما:
- البحث في مكونات الخطاب الروائي البنيوية، وهذه القضية ما يزال نقد الرواية بالمغرب والوطن العربي لا يعيرها كبير اهتمام، رغم بعض المحاولات القليلة والمتفرقة.
- استعمال أدوات ومفاهيم جديدة تنهل من السرديات التي يعمل الباحثون في البويطيقا على بلورتها وتدقيقها لتصبح اتجاهاً متميزاً في تحليل الخطاب السردي بصفة عامة. إنها قراءة تهدف إلى الإفادة من أهم إنجازاتها من منظور نقدي لا يكمن هاجسه الأساس في إسقاط معطياتها على المتن الروائي العربي.
إن تعاطي الدكتور سعيد يقطين مع الروايات المدروسة في الكتاب المذكور ينطلق من مبدأ محوري يضبط مختلف عناصر الخطاب الروائي ومكوناته ويحاول أن يحكمها بشكل أو بآخر. وفي هذا الإطار، يستغل ثلاثة مفاهيم إجرائية حاول من خلالها إبراز كل ما هو مشترك بين هذه الخطابات المتناولة في الكتاب أو في غيره، حيث يرتبط ارتباطاً أساسياً ووثيقاً بالتصور المطروح في تجربة القراءة، وقراءة التجربة، وهذه المفاهيم هي: الانزياح السردي، الميثاق السردي، والخلفية النصية.
ولقد تأسس مشروع يقطين العلمي والنقدي على هذه المفاهيم الثلاثة في مقاربته للرواية المغربية والعربية، بهدف فهم ديناميات السرد الروائي وخطابه المثير، حيث اعتمد على أسئلة مفاهيمية ونقدية تشكلت انطلاقاً من قراءاته المتعددة للمتن الروائي المغربي والعربي الحديث والمعاصر. كل هذا شكّل بالنسبة إليه حقل البحث الأكاديمي المنخرط فيه منذ عقود خلت، سواء من خلال ما يقدمه من محاضرات لطلبته أم من خلال ما أصدره من كتب وأبحاث مؤسسة للسرديات العربية. وما يؤكد قولنا هذا هو أن الرواية بالنسبة لسعيد يقطين تبقى من أهم المتون الأدبية التي تسعف في التحليل والقراءة النقدية وتنفتح على آفاق نقدية تحتفي بالنص الروائي أيما احتفاء، خصوصاً أن الباحث يدرك أن الرواية العربية المعاصرة تنبني على أسس لغوية وفكرية وأدبية وإبداعية تفتح تأملات ثقافية مستمدة من تراثنا العربي وثقافتنا الشعبية الغنية.
ويرى يقطين في حوار له مع الكاتب محمود عبدالغني منشور في جريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية عام 2013م، أن التجربة الجديدة في الكتابة الروائية، المغربية منها والعربية، قد دفعت في اتجاه بروز قراءة مختلفة ملائمة يرتبط نجاحها في الإمساك بخصوصية الرواية التي قرأها في آنٍ واحد بعشق جمالي وصرامة بحثية وعلمية. حيث إنها قد (لعبت دوراً في تطوير الكتابة الروائية التي صارت تنحو منحى أكبر في تطوير البنيات الجمالية والتقنية على مستوى الكتابة. كما أن هذه القراءة النقدية وقفت على صعوبة الكتابة لدى بعض الروائيين مثل أحمد المديني، فكان ذلك دافعاً مع الزمن إلى تجاوز تلك الصعوبة ومحاولة التعامل مع مختلف طبقات القراء. ونلاحظ ذلك بصورة كبيرة في التطور الذي عرفته الكتابة لدى كل من رواد التجريب في المغرب وهم: أحمد المديني، ومحمد عز الدين التازي، الميلودي شغموم). وكأننا هنا بالباحث ينتصر للروائيين الرواد المغاربة والعرب باعتبارهم يجسدون شكلاً حقيقياً للرواية تحقق شرط الأدبية والإبداعية.