اعتقد الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانط (1724 - 1804م) منشرحاً، أنه أحدث بكتابه الشهير (نقد العقل الخالص) الصادر سنة 1781م، ثورة في ساحة الفلسفة، تعادل أو تشابه الثورة التي أحدثها في ساحة العلم الفلكي البولندي كوبرنيكوس (1473 - 1543م) الذي برهن على صحة نظرية دوران الكواكب حول الشمس وليس حول الأرض، مبطلاً النظرية التقليدية القديمة المعاكسة، محدثاً بهذه النظرية الجديدة هزة عنيفة، وصفت بالثورة من شدة أثرها، ووصلت ارتداداتها وامتدت إلى ميادين العلم والدين والفلسفة والتاريخ.
تقصّد كانط بهذا الاعتقاد ربط ثورته الفلسفية بالعلم، إعجاباً منه باليقين العلمي، وبمتانة القوانين العلمية، وبالتقدم الكبير الحادث في مجال العلم، وذلك بعد الكشوفات العلمية الجديدة والمدهشة التي أنجزها عالم الفيزياء الإنجليزي الشهير إسحاق نيوتن (1643 - 1727م)، وغيَّر بها وجهة العلم ومساراته في العصر الحديث، معلناً عن مسلك علمي جديد شرحه في كتابه (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) الصادر سنة 1687م.
وتناغماً مع هذا المسلك؛ أراد كانط، متمنياً، أن تتقدم الفلسفة بمستوى تقدم حركة العلم، نظراً إلى تاريخها الطويل. وقد ظل مشتغلاً بالفلسفة، وواضعاً العلم بمثابة أنموذج إرشادي، مستنداً إليه في تبصراته الفلسفية.
وفي هذا الاعتقاد أراد كانط، إعادة صياغة العلاقة تراتباً ودوراناً بين العقل بوصفه ملكة المعرفة، والظواهر الخارجية في عالم الطبيعة والوجود. فقد توصل مبرهناً إلى أن الظواهر هي التي تدور حول العقل، كما تدور الكواكب حول الشمس، وليس العقل هو الذي يدور حول الظواهر. فالعقل بالنسبة إليه هو نقطة المركز كما هي الشمس بالنسبة إلى الكواكب، وحركة الدوران هي للظواهر الأخرى. الأمر الذي يعني أن الانطلاق نحو المعرفة، ينبغي أن يبدأ من العقل كونه يحمل صفة المركز، أي من نقد العقل بمعنى تفحص هذه الملكة تدقيقاً وتبصراً، لتكون ملكة مشعة، وتظهر بكامل قوتها وحيوتها.
هذا الاعتقاد لدهشته؛ لفت تقريباً انتباه كل من توقف عند كانط متبصراً في أفكاره ونظرياته، لأنه جاء معبراً عن ناظم كلي لفلسفة كانط التي اتصلت بإرث كبير من الناحية الكمية، وأحاطت بها تعقيدات كثيرة من الناحية الكيفية، وعدت واحدة من أصعب الفلسفات فهماً وهضماً في تاريخ تطور الفكر الفلسفي القديم والحديث. فكان من المهم الوصول إلى هذا الناظم الكلي ليكون أساساً مساعداً في معرفة الوجهة العامة لفلسفة كانط.
إضافة إلى أن هذا الاعتقاد تمثَّل فيه جانب قياسي شديد الأهمية، تحدد في التشبه بما أنجزه كوبرنيكوس الذي أحدث انقلاباً كبيراً في تاريخ تطور العلم الحديث، جعلت منه شخصاً حاضراً في ساحة العلم وذاكرته التاريخية. وجاء كانط وذكَّر بسيرته من جديد، وهذه المرة ليس في ساحة العلم وإنما في ساحة الفلسفة، موثقاً بهذه الخطوة شكلاً من أشكال العلاقة بين العلم والفلسفة، ومنتقلاً بنظرية كوبرنيكوس وهابطاً بها من عالم السماء كوكباً وشمساً، إلى عالم الإنسان عقلاً ومعرفة، وهو القائل: (شيئان يملآنني إعجاباً السماء ذات النجوم فوق رأسي، والقانون الخلقي في نفسي). ونُقل أن هذا القول نقش على شاهد قبره. ويقترب هذا القول ويناظر ما ورد في قوله تعالى: (سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (سورة فصلت، الآية 53).
ومن شدّة الاهتمام بهذا الاعتقاد الكانطي، فقد خضع إلى تقريرات عدّة جاءت توضيحاً له وتفسيراً. من هذه التقريرات ما ذكره الباحث الأمريكي وليم كلي رايت (1877 - 1956م) في كتابه (تاريخ الفلسفة الحديثة) الصادر سنة 1941م، مفتتحاً الحديث عن كانط بالإشارة إلى ثورته الكوبرنيكية، مبيناً أن الفلاسفة قبل كانط استمروا في افتراض أن إدراكاتنا تناظر خصائص معينة في العالم الخارجي، أما كانط فقد أثبت على العكس، أن كل الموضوعات لا بد أن تتطابق مع تكوين أذهاننا حتى يمكن معرفتها، معتبراً أن كانط كان بقدر كبير أكثر أصالة من كوبرنيكوس، لأنه ذهب إلى أن حتى قوانين الرياضيات والفيزياء تدين بمصدرها وصحتها إلى بنية الذهن البشري، فأذهاننا التي كان كانط حريصاً على تفسيرها، بمعنى ما؛ تصنع العالم الفيزيائي الذي نعيش فيه.
وفي تقرير ثانٍ أشارت إليه الباحثة السويسرية جان هِرش (1910 - 2000م) في كتابها (الدهشة الفلسفية.. تاريخ للفلسفة)، فقد أوضحت أن ما يشيد التجربة بالنسبة إلى كانط ويهيكلها هو ملكة المعرفة مع صيغها القبلية، وأن العقل لا يولد الأشياء، وإنما هو يهيكل الطبيعة بواسطة القوانين التي تنتمي إليه، أي بواسطة مقولات الفهم القبلية التي تقيم وحدة الموضوع.
إضافة إلى ذلك، قدم كارل بوبر (1904 - 1994م) تقريراً خاصاً به، أشار إليه عند حديثه عن كانط في كتابه (بحثاً عن عالم أفضل)، مبيناً أن الطبيعة كما نعرفها بنظامها وقوانينها هي في معظمها ناتج للأنشطة التمثيلية والتنظيمية لعقلنا، مستنداً إلى صياغة كانط، واصفاً لها بالمدهشة، متحددة في قوله: (إن عقلنا لا يستل القوانين من الطبيعة، إنما هو يفرض قوانينه على الطبيعة). ومن ثم علينا أن نتخلى عن الرؤية القائلة إننا ملاحظون سلبيون ننتظر من الطبيعة أن تطبع انتظامها علينا، إنما علينا أن نتبنى الرؤية بأننا إذ نستوعب بيانات إحساسنا نقوم فعلاً بفرض نظام عقلنا وقوانينه عليها، فالكون يحمل بصمات عقولنا.
إلى جانب ذلك، التفت كارل بوبر إلى معنى آخر وجده مضمناً في صيغة كانط للثورة الكوبرنيكية، رأى فيه أنه أكثر إثارة، وقد يشير إلى تأرجح في موقفه تجاهها، مقدراً أن ثورة كانط تحل مشكلة بشرية نشأت عن ثورة كوبرنيكوس نفسه، فبينما جرد كوبرنيكوس الإنسان من وضعه المحوري في العالم الفيزيقي، جاء كانط وقلب الصورة واعتبر أن الكون يدور حولنا، فأعاد إلى الإنسان محوريته.
الأمر الذي يعني بحسب تحليل بوبر، أن ثورة كانط مع أنها تشبهت في الظاهر بثورة كوبرنيكوس، إلا أنها في الباطن اتجهت إلى خلافها، فالجانب الذي حركه كوبرنيكوس نفياً لمحوريته، ويعنى به الإنسان تبعاً لنفي محورية الأرض التي يقف عليها، وفيها يتحدد مصيره؛ هو الجانب الذي حركه كانط إثباتاً لمحوريته قاصداً به الإنسان، تبعاً لإثبات محورية العقل الذي يتجلى في الإنسان ولا ينفصل عنه وجوداً.
من هنا نشأ التباس حدث لدى المتأخرين وتعلق بطريقة فهم الثورة الكانطية، فهل أراد كانط بقصد أو من دون قصد تقويض الثورة الكوبرنيكية بإحلال محورية الإنسان في الكون بعدما قوضها كوبرنيكوس من قبل؟ من جانب آخر هل الاعتقاد الذي جاء به كانط وبالغ في وصفه، ورفعه إلى درجة الثورة، وعدَّ نفسه متفرداً به ومحققاً إنجازاً عظيماً في ساحة الفلسفة؛ هل مثَّل فعلاً اعتقاداً جديداً لم يكن مسبوقاً من قبل؟ أم أنه لا يخرج من نطاق جدليات المثاليين والواقعيين الذين ظلوا يتناظرون حول هل الفكر يدور حول الأشياء أم الأشياء تدور حول الفكر؟
هذا الالتباس في الجانب الأول منه، توقف عنده مفنداً له؛ الباحث الفرنسي ألكسيس فيلانينكو (1932 - 2018م) الذي وصفه هاشم صالح في كتابه (من الحداثة إلى العولمة)، أنه أحد كبار شارحي كانط في الساحة الفرنسية، ونقل رأيه الذي رأى فيه رفعاً للالتباس، مبيناً أن الذات التي قصدها كانط ليست الإنسان وإنما العلم، مضيفاً أن الشيء إنما يدور حول مناهج العلم لكي يتخذ وضعيته ويفهم على حقيقته، وبهذا يمكن فهم الثورة الكوبرنيكية لكانط على حقيقتها.
ومن الواضح أن هذا الرأي ليس غامضاً أو مبهماً على بوبر، لذا فإنه لا يرفع ملاحظته. ويمكن القول إن ما توصل إليه بوبر هو استنتاج منه، وليس إثباتاً لرأي كانط.
في الجانب الثاني، وتأكيداً للالتباس، وليس رفعاً له؛ فقد أشار إليه مسلّماً به الباحث السعودي الدكتور راشد المبارك (1354 – 1436هـ/ 1935 – 2015م) في كتابه (شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة) الصادر سنة 2011م، هابطاً باعتقاد كانط، ومقللاً من أهميته، وسالباً منه دهشته وثوريته، واصفاً له بالزعم المستغرب، معتبراً أن هذا الزعم لدى كانط من أغرب الأشياء التي وقع فيها كما وقع فيها مريدوه، مستغرباً أن يجهل كانط أو يجهل مريدوه أن هذا التصور ليس جديداً، بل هو الأساس في مذهب جيل المثاليين قبله، وإذا كان هناك بعض الفروق اليسيرة، فمن المؤكد لديه أن هذه الفروق لا تتناسب مع الهالة الكبيرة التي أحاط بها كانط نفسه أو أحاطه بها مريدوه.
وأمام هذا الرأي للدكتور المبارك، فإن أقل ما يقال عنه أنه يتسم بتبسيط شديد، وبحاجة إلى مزيد من التبصر وبذل الجهد. مع ذلك فإن كانط نفسه قد تسبب في أي سوء فهم لحق به من المتقدمين والمتأخرين، وذلك بسبب غُموض بيانه، وعُسرة لغته، وصعوبة طرحه، بل يمكن أن يقال أن لا أحد يفهمه إلا هو نفسه. فقد تقصد أن يكتب إلى أعلى طبقات الفلاسفة احترافاً، وحتى هؤلاء واجهوا صعوبة في فهمه وتكوين المعرفة بكامل منظومته المعرفية.
من جانب آخر، فإن كانط وأفكاره ونظرياته، لا يحتمل غالباً قراءة أحادية، بل بحاجة إلى قراءات تعددية تعبر عن تنوعات في طرائق الفهم، على طريقة التقريرات المتعددة التي أشرنا إليها في بيان وتفسير اعتقاده بتحقيق ثورة كوبرنيكية. وسيظل كانط بهذه الوضعية بحاجة دائماً إلى قراءات تعددية وإلى شرح وبيان، بسبب ما اكتنف مؤلفاته من غموض وتعقيد وإبهام.