مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

البلاغة المعاصرة.. إلى أين تتجه؟

إن العلامات الأيقونية والفنية عموماً تمثل أنساقاً ثقافية ذاتية واجتماعية بما هي تجارب محلية وكونية لا يمكن فصلها عن طبيعة الكائن الإنساني الذي يعد كائناً اجتماعياً ومعرفياً، فبناء الفرد في تفاعل دائم مع الجسد والذهن والمجتمع حيث الإمكانية المتواصلة لصياغة الأشكال والمعاني الواقعية والتخييلية التي تشكل كذلك طرق تطوير آليات الذكاء الاصطناعي الذي يماثل إلى حد بعيد الذكاء الإنساني.
هكذا، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش خارج محيط التواصل قصد بناء الأيقونات والرموز واللغات والثقافات لكونها تشكل تصورات ذهنية حول العالم. بيد أن علماء البيولوجيا المعاصرة والدلالة المعرفية والأبحاث البيولوجية العصبية يؤكدون أن الدماغ البشري يعالج ذاته بذاته ويتطور بتطور الإنسان داخل محيطه أيضاً. ذلك أن مجالات البحث الخاصة بالدينامية اللاخطية للدماغ تثبت أن نشاطه لا ينحصر في إدراك المعلومات وتخزينها وتذكرها، بل إنه نشاط مستمر في المحيط والواقع تتطور خلاله الخلايا العصبية للدماغ أو ما ينعت بتغيرات الاشتباك العصبي كلما زاد نشاط الفرد وانخراطه في المجتمع (انظر دراسات فريمان).
وبناء عليه، نستنتج أن الشبكات العصبية للدماغ تتطور وتنمو بتطور تفاعل الإنسان مع العالم من خلال التواصل والإبداع. أو ما ينعت بالأنساق الثقافية، حيث يشتغل الدماغ والتفاعل البشري في شكل جدلي وتفاعلي، إذ بينت الدراسات الجديدة لكيمياء الدماغ أن الكائن الحي خلال فترات السلوك التوالدي يمكن أن نلحظ عليه عمليات للمزاج العصبي التي تؤشر على حدوث تطورات وتغيرات في الألواح المزاجية العصبية لإنجاح التوالد والإنتاج. وهذا ما قاد العلماء في أبحاث الدماغ المتأخرة إلى التأكيد على أن الإنسان منذ القدم يتكيف مع محيطه من جهة مما يعيد تشكيل الاشتباك العصبي لديه في الدماغ. وهذا مثلاً يتمظهر من خلال ميل الإنسان إلى إنشاء المجموعات والمعاني والموسيقى والرقص حيث تتطور بتطور تلك الدينامية العصبية وستصبح هذه الفكرة الجديدة بؤرة الاهتمام لصياغة علاقة جدلية بين أبحاث البلاغة وأبحاث الدماغ.
إذن، فالبلاغة اليوم ليست مجرد أرشيف أو مستودع للمحسنات التي نزين بها الخطاب، بل هي جزء من البحث العلمي في الظواهر الفنية التي لها علاقة بتطور الكائن البشري بيولوجياً في عصر الكثافة السكانية العليا والتمزق الاجتماعي والصراع والعنف.
وهذا معناه أن علماء البلاغة الجديدة أمثال (لايكوف، فوكونيي، فيلمور) وغيرهم يستندون إلى علوم الدماغ والعلوم المعرفية بشكل عام محاولين خلق بلاغة عامة تناقش الحوار والتسامح لأنه التحدي الأكبر للإنسانية اليوم. فكلما اعتبرنا أن وظائف الدماغ البشري هي أساس مركزية تطور المجتمعات والشعوب زاد الإيمان لدى الأوساط اللسانية والبلاغية بضرورة إشاعة بلاغة التسامح والتفاعل، لأن الأصل في الحياة الإنسانية هو التفاعل والتناغم بعيداً عن الصراع والمصالح الطارئة. وهذا ما يقودنا إلى القول بأن ما نشهده اليوم من تطور للبلاغة التصورية وبلاغة الخطاب الإشهاري والسياسي والثقافي وغيرها إنما هي أبحاث تسير بالبلاغة نحو ترسيخ دورها الجديد في إشاعة ثقافة الحجاج والإقناع قصد تنشيط آليات الدماغ من قبيل الاستعارات والكنايات التي يصبح دورها اجتماعياً معرفياً بخلق جسور التعاون والتسامح بين البشر.
البلاغة في عصرنا الحاضر تتجه وظائفها البلاغية والاجتماعية والمعرفية نحو دراسة مقولات مثل العرق والتربية والعلوم والاقتصاد إضافة إلى دراستها الأنساق التواصلية من قبيل السينما والإعلان التجاري، لتفكيك المعاني الخفية وإبراز كيفية تأويلها لدى الأفراد انطلاقاً من مبادئ التعاون والتسامح، وليس على أساس الحروب والصراع. هكذا أصبحت البلاغة المعرفية المستندة إلى علوم حقة مثل البيولوجيا العصبية تكرس أبحاثها لخلق مجتمعات متناغمة على أساس علوم مختلفة من قبيل اللسانيات والسيميائيات وعلم النفس المعرفي وعلوم الإعلام والذكاء الاصطناعي، وهي بذلك (بلاغة نحيا بها).

ذو صلة