من مخاتلات الفكر العربي، الذي يرفض جوهرياً الهدم والتأسيس، أنه طور على امتداد تأزمه التاريخي آلية دفاعية سالبة يضمن بموجبها استمرار ثباته مثلما يضمن احتواء المتغيرات واستيعابها. وتظهر هذه الآلية في تعامله مع مختلف الظواهر الوافدة، سواء كانت تقنية مادية أو فكرية فلسفية. وقد جذر السلوك الاستهلاكي لمرحلة التدفق الرأسمالي عمليتيْ الانطواء والاحتواء، لأن التدفق السلعي لا يُعنى بالخلفية الأخلاقية للمستهلك بقدر ما يعنى بقيمة الاستهلاك في حد ذاتها.
ولعل أحسن مثال على اشتغال هذه الآلية الدفاعية مفهوم (الدراسات الثقافية) الذي شاع استعماله في السياق المعاصر، إذ استطاع الفكر العربي، كعادته، احتواءه إلى درجة نخال معها المفهوم أصيلاً وليس دخيلاً، بما يدعو إلى إثارة أسئلة شتى تقوض هذا التطبيع المفهومي وتسعى إلى إرساء علاقة واعية تتجنب التبسيط والمخاتلة.
لئن ارتبط ظهور (الدراسات الثقافية) بمدرسة بيرمنغهام البريطانية، فإن مرجعيات المفهوم تمتد إلى عقود، وربما إلى قرون سابقة، ضمن تفكيك مستمر للعقل الغربي. فالنقد الثقافي في أصله تقويض للحداثة، وفي مساره اندراج في تيار ما بعد الحداثة، وفي غايته انزياح عن كل السرديات المعرفية الكبرى وتحول نحو القراءات المجهرية. فما علاقة الفكر العربي المنطوي بمثل هذه التحولات، وهو الذي لم يستوعبْ بدْءاً مرحلة الحداثة واكتفى بالتحديث الشكلي دون تفكيك للمضمون، فما بالك بما تبعها من مراحل؟
إن المحتوى الحداثي يتعارض مع أسس الفكر العربي. فقد نفتْ العقلانية الغربية المعطيات الماورائية، وأثبتتْ الواقع وحده مجالاً للبحث والنظر ضمن سلطة تامة للـ(أنا المفكر) الذي تعزز حضوره بحكم المنجزات التقنية للثورة الصناعية، بما أدى إلى نوع من (الغرور) الإنساني المتجلي في مركزية الذات الأوروبية وإحساسها بالتعالي على غيرها من الذوات تعالياً كشفه مثلاً الاستشراق والفكر الكولونيالي. وإذْ خلفتْ صدمة الحداثة ندوباً في الفكر العربي، فإنه سرعان ما تجاوزها عبر قدرته الهائلة على الاحتواء بتفعيل التحديث شكلاً ومحاولة الملاءمة بين الوافد والرافد مضموناً، تجنباً للهدم والتقويض، لأن (الأنا المفكر المتعالي) يُناقض جوهرياً النموذج البدئي الذي أرستْه المرجعيات المعرفية للـ(أنا) العربي.
لقد ظل العقل العربي في مرحلة الحداثة أصولياً يخشى الانبتات ويرفض ولوج مغامرة غير مأمونة العواقب، فوجد الحل في معادلة قوامها التقريب بين الأصيل والدخيل والحفر المستمر لتجذير الارتباط. وانعكس ذلك على الوعي العربي المعاصر الذي نشأ وعياً هجيناً، وظل كذلك.
على أن مرحلة ما بعد الحداثة مثلت لحظة خلاص وانبعاث للفكر العربي. أما الخلاص فمنطلقه عجز هذا الفكر على مجابهة (الأنا الغربي) نقدياً وتفكيك أسسه، حيث انتصبتْ المنجزات التقنية الأوروبية حاجزاً يمنع المواجهة. وكان مورد الخلاص غربياً أيضاً، إذ قوضتْ الفلسفات الجديدة تمركز (الأنا) وسلطته المعرفية وهيأتْ السياق لنشأة (الهامش)، الذي سيكون قوام الدراسات الثقافية لاحقاً.
فالماركسية أنزلتْ الأنا من عليائه وكشفتْ دور البنى التحتية الهامشية في تشكيل الوعي، ومدرسة التحليل النفسي أفقدتْه هيبته وصورته جسر عبور بين الهوامش، والنيتشوية هدمتْ ملاذه الأخلاقي وعرتْ زيفه ونادتْ بتأسيس جوهر أخلاقي مخالف للسائد يلبي نداءات الهامش والمنسي في قاع الذات. ولاحقاً سعتْ رؤية فوكو إلى تجاوز الظاهر وعمدتْ إلى الحفر وتتبع الآثار للوصول إلى معرفة الغياب؛ كل هذه التحولات شكلتْ منطلق النقد الثقافي باعتباره خطاباً مناهضاً لسلطة (الأنا) وللسلطة على وجه العموم، لذلك يترابط الثقافي بالسياسي دوماً في الدراسات الثقافية.
وأما انبعاث الفكر العربي فنشأ عن تحرره من ضرورة المراجعة النقدية للأصول التي استوجبتها مرحلة الحداثة. لقد مكنته الحداثة البعدية من تجاوز الإكراهات الوجودية لأسئلتها، وأتاحتْ له جهازاً مفهومياً متسعاً يلبي تناقضاته ويغذي آليته الدفاعية، مثل مفهوم (نقد السرديات الكبرى) الذي مكن الفكر العربي من التصعيد الحضاري ضمن ما يمكن تسميته بـ(ثورة المكبوت) التي ما تزال آثارها واضحة إلى اليوم.
لقد أنتجتْ الحداثة وعياً عربياً هجيناً -كما ذكرنا- حافظ على أصولية (الأنا)، وخلع عليها قناع التحديث الديني أو الفلسفي أو السياسي أو الاجتماعي. فظهرتْ الحركات الدينية وشاعتْ الميولات الوجودية والعبثية والسريالية والمادية الجدلية، وتعالتْ النداءات القومية والوطنية، وارتفعتْ أصوات النسوية. وهذه الثورة، التي تزامنت مع حركات التحرر في العالم الثالث، أوهمتْ بتغيير حقيقي للتصورات الثقافية، لكنه كان مجرد وهم.
لماذا؟
لأن الوعي العربي لم يتحركْ نحو الأصول لزعزعتها وتفكيك أسسها، وإنما انحصرتْ ثورته في الدخيل ولم تلامس القاع المنسي للذات. لم تُعِدْ هذه الثورة مراجعته، لم تقم بمساءلته، لم تكلف نفسها عناء البحث في معقوليته، بل اكتفتْ إما بالرفض القاطع وإما بالدفاع المستميت عن هذا الإرث المنسي دون إرساء فهم يوضح جذوره وصداه ومداه وجدواه.
لقد شهد السياق العربي في القرن الماضي ثراءً ثقافياً نجد انعكاسه مثلاً في الصراع بين القوميين والماركسيين والإسلاميين العرب. وقد أوحى هذا الصراع بنشأة مفهوم (التعدد والاختلاف) -من المفاهيم المركزية في الدراسات الثقافية- وتجذيره في المحيط المجتمعي، إلا أن هذا الثراء كان شكلياً ظاهرياً. فالصراع ليس سوى محاكاة أرسطية وأداء تمثيلي بارع لأدوار متكاملة على الركح الاجتماعي، وبمجرد انتهاء العرض الدرامي يعود الممثلون إلى بيوتهم بنفس الهوية الأصيلة.
وبصيغة أوضح، إن الأصولية عامل مشترك بين القوميين والإسلاميين والماركسيين في السياق العربي، إنها ذات واحدة بوجوه متعددة، تؤمن مثلاً بفكرة الحرية وتنوع سُبلها وفي الآن نفسه ترفض رفضاً قطعياً المساسَ بسجن الذات أو حتى الإشارة إليه من طرف خفي. وربما كشفت الأحداث التي عاشتها المنطقة العربية في العشرية الأخيرة استدامة هذه الأصولية، إذ رأينا تحالفات (الأصدقاء القدامى)، من اليساريين والإسلاميين، على طاولة السلطة. وباغتتنا عودة أصوات القوميين لتناصر استبداد الأنظمة ولاءً لدورها الحداثي القديم. وكان المشهد سورياليا أكد فشل (الربيع العربي) منذ البداية.
ومن أبرز الأمثلة على هذه الأصولية عجز الدراسات الجندرية -وهي من مجالات النقد الثقافي- عن تأسيس فكر نسوي عربي خالص، إذْ كانت البحوث على كثرتها وتعددها وطرافة بعضها استنساخاً منهجياً للمقاربات الغربية، ومحاولة تأصيل للأفكار النسوية الوافدة في السياق المجتمعي، دون مراعاة للأصل المتجذر عبر التاريخ.
ويمكن أن نلاحظ كيف أن التحرر الشكلي للمرأة صار شائعاً في المنطقة العربية، ولم يعدْ يقتصر على البلدان الرائدة في تحرير المرأة. لكننا نزعم منذ الآن أن هذا التحرير مصيره الفشل ومآله انفصام هوية المرأة العربية وإكسابها وعياً هجيناً على غرار الوعي الحداثي في القرن الماضي. ومرد هذا الزعم طبيعة مفهوم الدراسات الثقافية ذاتها.
إن ما يميز هذه الدراسات تحديدها المفهومي للثقافة وطبيعة ممارستها المنهجية. فمن ناحية التحديد، يذهب رايمون ويليامز مثلاً إلى ربط الثقافة بـ(التنظيم والنمو التلقائي) وبـ(تلخيص تجربة المجتمع ووعيه بذاته)، جاعلاً منها المكون العام الذي تندرج تحته مختلف النصوص والممارسات والأفكار. وهذا تصور يتعارض مع الأصولية العربية التي تُعلي الدين وتحتفي بالنص المقدس وتجعل بقية الأشكال تندرج تحت مستواه.
وأما من ناحية المنهج، فإن النقد الثقافي يقوض السلطة النظرية الأحادية ليكون إطاراً منهجياً شاملاً وعابراً لمختلف النظريات، في تناسب تام مع رؤيته للثقافة باعتبارها مكوناً شمولياً. وهذا التصور النظري لا يتعارض مع (الأنا العربي) باعتباره هوية أصولية محنطة عابرة للتاريخ، لم يقعْ هدم أسسها. إذْ سيجد الإطار المنهجي للحفاظ على قاعه المنسي وسيعمد كعادته إلى احتواء الوافد.
ما هو التأثير المنتظر للدراسات الثقافية في السياق العربي المعاصر؟
حتماً، سنرى كماً هائلاً من البحوث الطريفة والهادفة في مختلف المجالات، يشبه ما حدث في القرن الماضي. لكن ذلك لن يحدث تأثيراً كبيراً على الوعي العربي الذي طور آليته الدفاعية واكتسب مناعة ضد التحولات.