في ظل الدراسات الثقافية، اتخذت الدراسات الأدبية منحى مغايراً لما هو سائد، بعدما أحدثت ثورة على النظرة الأدبية التقليدية، وحققت وعياً جديداً، نتيجة فتح أرجاء واسعة من التأويل والقراءة التي تمنح الخطابات أبعاداً دلالية واسعة من الصعب حصرها، حيث تتيح الخروج بمجموعة من المرجعيات الفكرية والفلسفية التي شكلت خليطاً معرفياً، مادامت الدراسات الثقافية أو النقد الثقافي في حقيقته يعني تنويعة من عدد من التيارات، من بينها: (الماركسية الجديدة)، (المادية الثقافية)، (التاريخية الجديدة) و(ما بعد الكولونيالية)؛ اجتمعت مع بعضها البعض، لتشكل في كنهها مجالاً معرفياً ثرياً، يستثمر في إستراتيجية محكمة، مؤسسة على آلية الكشف والبحث عن البنى الخفية أو المطمورة داخل الثقافات عبر فضاء فكري جديد ومغاير، ومن خلال رؤية إستراتيجية تروم في عمقها تفكيك بنية تلك الثقافات وأسسها الداخلية، بحثاً عن أنظمتها الدلالية وأنساقها المتعالقة، وصولاً إلى القراءة المنتجة والفعالة.
لذا شهد حقل النقد في مجال الدراسات الثقافية طفرة منهجية عميقة، غيرت بالأساس مسار النقد الأدبي، من خلال الانتقال من نقد النصوص إلى نقد المؤسسات. وقد كان للدراسات الثقافية مفعول كبير على مستوى الساحة النقدية العالمية، حيث أسهمت بشكل جلي في بروز العديد من الخطابات الهامشية المضادة لخطاب المركز، مثل خطاب (ما بعد الكولونيالية) و(النقد النسوي) و(التاريخانية الجديدة) و(المادية الثقافية) التي تعد من إفرازات النظرية النقدية المعاصرة، وغير خافٍ أن المفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م) من أبرز رواد الدراسات ما بعد الكولونيالية، حيث سعى إلى تأسيس مشروع فكري ونقدي، قائم على استثمار مبادئ الدراسات الثقافية ومراميها في تأويل النصوص الأدبية، وقراءة مضمراتها وما تخفيه من خطابات.
***
كل هذا قاد إدوارد سعيد إلى رفض تلك النظريات التقليدية في فهم الأدب، ونقد مختلف النزعات التي تصر على وضع الثقافة الغربية في موضع الهيمنة والمركزية على غيرها من الثقافات الأخرى، وهذا ما حتم عليه دراسة وتأويل عدد كبير من النصوص التي شيدها الغرب عن الشرق والشعوب المستعمرة والأفريقية، كما عمل على تأويل مجمل النصوص الأدبية التي كتبها كتاب المقاومة أو ما بعد الكولونيالية، ليؤكد في نهاية المطاف أن النصوص الأدبية ليست بريئة، مادامت تخفي أيديولوجيات كامنة لا تظهر للقارئ، حيث تتستر وراء الخطابات الجمالية، كما أن تلك النصوص في محتواها، تختزل أنساقاً مضمرة ومخاتلة قادرة على المراوغة، ولا يمكن كشفها إلا من خلال طبيعة البنى الثقافية للمجتمع ذاته عملياً.
تبعاً لذلك فحص إدوارد سعيد الاستشراق بوصفه لوناً من ألوان الخطاب، وهذا ما حتم عليه تأويل نظرة الغرب للشرق، وفي مؤلفاته، مثل: (الاستشراق.. المفاهيم الغربية للشرق)، و(الثقافة والإمبريالية)؛ حقق الوعي بالآخر وثقافته، وبيّن صلة الأدب والثقافة بالإمبريالية، تأسيساً على تأويل النص الروائي، بحكم أن الرواية من أكثر الأجناس الأدبية تعبيراً عن الواقع.
ومن خلال كتابه (الاستشراق.. المفاهيم الغربية للشرق)، الصادر عام 1978م؛ سعى إدوار سعيد إلى كشف القناع عن المرامي التي يعمل الغرب على تكريسها من جهة، والصورة النمطية التي أخذت على الشرق من جهة أخرى، فالشرق بالنسبة للغرب متخلف وغير حضاري، مما أدى إلى بروز هوة كبيرة بين المجتمع الغربي والمجتمعات الأخرى.
والحق أن كتاب الاستشراق هو العمل الذي لم يزل له تأثيره حتى اليوم في نقد ما بعد الكولونيالية، وهو ينظر إلى التصورات الأوروبية للشرق لكي يبين كيف شكلت وضعية العقل الاستشراقي الدرس الأكاديمي، كما أن كتاب الاستشراق يؤكد اعتماد الهيمنة الإمبريالية على القوة والفوقية والسلطة والمعرفة، فقد قامت السلطات الإمبريالية بتصدير معارفها الملونة بمصالحها إلى المستعمرات، ثم فرضت على المهيمن عليهم رؤية أنفسهم باعتبارهم أدنى، ولذا فقد صدرت أوروبا لغتها وأدبها وعلمها باعتبارها تمدناً تهبه للآخر، مما أدى إلى إزاحة وقمع الثراء الحضاري في المستعمرات، من أجل تكريس ثقافة المركز، وهذه المركزية بالذات جعلت مثقفي الهامش يثورون على هذا الوضع، ويسعون إلى تشكيل خطاب نقدي مضاد، ومن خلاله يبدو أن هاجسهم هو خلق أدب إنساني يروم في عمقه الدفاع عن حقوق الشعوب الضعيفة، كشعوب الشرق الأقصى والزنوج في أفريقيا وحقوق المرأة في دول العالم الثالث.. من أجل تكريس مبدأ المساواة بين الثقافات، وإعادة تشكيل العلاقة بينها من منطلق التكافؤ والعدالة. وعلى كل حال، فكتابات ما بعد الكولونيالية في مجملها آداب أعادت كتابة تاريخ الحضارة الاستعمارية نفسها من وجهة نظر المستعمرين.
***
راح إدوارد سعيد يفكك خطاب الاستشراق، ويوظفه بوصفه خطاباً سلطوياً غربياً تنامى حول الشرق واكتسبه مؤسساته وقواعده ومتخصصيه، لشرح تواطؤ السلطة والثقافة في تهميش ثقافات الأطراف، ومن ثم تفكيك المركز وجعل الهامش بديلاً له، وإضفاء الطابع الإنساني على مختلف الثقافات. وهكذا عمل إدوارد سعيد على تأكيد هذه الفرضية ليشرح (كيف أن صورة الغرب عن الشرق كونتها أجيال من الباحثين، تلصق أسطورة الكسل والافتراء واللاعقلانية بالمشرقيين). وليصل إلى ذلك دعا إلى الحفر في طبقات النص وأبنيته المختلفة، وربط النص بشروطه المكانية والزمانية، قصد الكشف عن شبكة من العلاقات السياسية والاجتماعية المعقدة، لذلك خلص إلى ضرورة الربط بين النصوص والوقائع الوجودية للحياة البشرية والسياسية والمجتمعات والأحداث، وربط النص بسياقاته التاريخية، ولذلك فإن إدوارد سعيد يفرض على الناقد العودة إلى الأبنية التاريخية للإمكانيات التي سمحت للنص أن يوجد، ويتشكل داخل معمار خاص، فالأدب في تقديره ليس له مهمة جمالية تقوم على الإمتاع فحسب كما يعتقد البعض، وإنما تنخرط فيه المهمة الجمالية والتاريخية والسياسية، لتشكل ما يعرف بدنيوية النص.
يقصد إدوار سعيد بالدنيوية أن النص ظاهرة واقعية مرتبطة بالزمان والمكان والسياق التاريخي والثقافي، وليس كياناً معزولاً عن العالم الخارجي، وعليه فهو يرفض فكرة النص بمعزل عن الواقع، ويؤكد على ضرورة فهمه في ضوء الظروف التي أنتجته أي في (الدنيا)، وعلى ضوء ذلك، يمكن اعتبار الدنيوية في المشروع النقدي لإدوارد سعيد إطاراً مرجعياً في فهم نظريته الثقافية، يروم من خلاله إدراج الجهود الإنسانية الإبداعية ضمن سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية اعتقاداً منه بالترابط العضوي بين النشاطات والحقول الإنسانية المختلفة.
أيّاً كان الأمر، فقد ركز إدوارد سعيد على كشف العلاقة بين البنية والحدث والتضاد الحاصل بين السيطرة والإمبريالية بنظمها وأنساقها الثقافية المختلفة، وعليه تحوّل النص في الخطاب النقدي لإدوارد سعيد من صفة الواحدية إلى التعددية، وأصبح (وثيقة تعكس القيم الأيديولوجية والسياسية السائدة من ناحية، وتتخذ نقطة انطلاق لإعادة تصور تلك القيم، وإعادة بنائها في ظل صراع طبقي ثقافي لا يتوقف من ناحية أخرى). وعليه فالنص هنا يغدو عبارة عن علامة ثقافية هي جزء من سياق ثقافي وسياسي أنتجها، وما يريد إدوارد سعيد الوصول إليه هو الكشف عن الأنظمة الداخلية لهذه العلامة في إطار مناهج التحليل المعرفية وتأويل النصوص، وخلفياتها التاريخية والتحليل المؤسساتي، لذلك فهو يضع النص داخل سياقه السياسي من ناحية وداخل سياق القارئ أو الناقد من ناحية أخرى، وهذا ما يمنحه تعددية وتوالداً دلالياً. والحاصل أن قراءة إدوارد سعيد للنصوص تحاول الكشف عن مفعول المؤسسة في صنع النصوص والثقافة، لذلك يعيد مراجعة النقاش الثقافي عبر انتقاد المركزية الغربية.