مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

الدراسات الثقافية واللسانيات

إن العلاقة بين اللغة والثقافة عميقة الجذور، وتتقاطع الدراسات الثقافية واللسانيات في مجالات عديدة. ويثير النقاش عن علاقة اللغة والثقافة أسئلة حول أيهما أسبق: هل سبقت اللغة الثقافة أم سبقت الثقافة اللغة، وهل اللغة جزء من الثقافة أم أن الثقافة هي جزء من اللغة، وهل هناك ثقافة دون لغة، أو لغة دون ثقافة. ومع تعذّر تقديم إجابة قاطعة لهذه الأسئلة، فهي تدل على تشابك العلاقة وتعقدها، والعلاقة المتبادلة في معظم الأحيان بين المفهومين. وسنتناول في هذا المقال بعض جوانب التقاطع بين اللغة والثقافة ومظاهره.
ومن النظريات الشهيرة في العلاقة بين اللغة ورؤيتنا للعالم نجد ما يسمى بافتراض (سابير - وورف)، ويقوم الافتراض على أن رؤيتنا للعالم حولنا تنبع من اللغة التي نتكلمها، فعلى سبيل المثال الأسماء التي يطلقها مجتمع ما على الألوان يحدد ما نراه من ألوان، فإذا أطلق مجتمع لغوي على اللونين الأصفر والبرتقالي اسماً واحداً، فلا يرى المتكلمون باللغة سوى لون واحد. ومن الأمثلة الشهيرة في هذا السياق أن اللغة تجسد الطبيعة في المجتمع الذي يتكلم أهله بها، فأسماء الجمل أو السيف المتعددة في اللغة العربية تبين أهميتها للمتكلمين، كما أن الأسماء المتعددة للثلج في اللغات الأوروبية تعكس أهميته لدى متكلمي تلك اللغات.
واللغة تعكس ثقافة المجتمع وتجسد طابع العلاقات فيه. ومن أمثلة ذلك صلة الرحم ومدى أهميتها في المجتمع نجدها واضحة جلية في اللغة، فربما نجد كلمة واحدة تعني العم أو الخال في اللغات الأوروبية (uncle/aunt) نجد في مقابلها ما لا يقل عن أربع كلمات باللغة العربية، وقد تتفرع عن كلمة (cousin) الوحيدة، والتي لا يعرف هل تدل على مذكر أم مؤنث، عدد من علاقات القرابة، من قبيل: ابن عم/ابنة عم، ابن عمة/ابنة عمة، ابن خال/ابنة خال، ابن خال/ابنة خالة، وما إلى ذلك. وقد يمتد التفصيل في بعض المجتمعات، كالمجتمع السوداني على سبيل المثال، ليصف شخص أن شخصاً ما هو عمه ابن عم والده، أو امرأة ما هي (خالته ابنة عمة والده)، ورغم تعقد هذه العلاقات تجد الناس يفهمونها بسهولة ويتعاملون بها في حياتهم اليومية ويقيمون على أساسها علاقاتهم وصلات رحمهم ومصاهراتهم، وما إلى ذلك من علاقات متعدد ومتنوعة.
والدين عنصر مهم آخر من عناصر الثقافة يتجسد في مظاهر كثيرة، مثل العبادات والملابس والعادات، وكذلك اللغة. فنجد أن القرآن يخبرنا أن الله علم آدم الأسماء كلها، والإنجيل يخبرنا أن (في البدء كانت الكلمة). والثقافة التي يكون الدين عنصراً رئيساً فيها تزخر اللغة التي تعبر عنها بالتعابير الدينية، مثل التحايا: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، (حياكم الله)، (حفظكم الله)، (نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)، في حين تركز التحايا في ثقافات أخرى على تعابير لا تعكس هذا الجانب الديني، من قبيل (صباح الخير)، (مساء الخير)، (عطلة سعيدة)، ولا يمنع ذلك أن يستخدم مجتمع ما تعابير دينية الطابع وتعابير غير دينية الطابع، مما يدل على التنوع والاندماج الثقافي في لغة ذلك المجتمع.
ومن القضايا الثقافية المحورية في أي مجتمع نجد قضية الهوية. ويُطرح كثيراً السؤال عن عناصر الهوية، وهنا تبرز اللغة باعتبارها عنصراً رئيساً من عناصر الهوية، فالثقافة العربية على سبيل المثال ارتبطت ارتباطاً وثيقاً عبر التاريخ باللغة العربية، وظلت تعابير من قبيل (لغة الضاد) و(الرابطة اللغوية) و(التراث اللغوي الجامع) تدل على هذه الصلة القوية بين الهوية الثقافية والبعد اللغوي.
ومن المجالات المهمة التي تتشابك فيها الدراسات اللغوية والدراسات الثقافية نجد مجال دراسات الترجمة، فالترجمة تُعرّف بأنها تُعنى بنقل المعاني من لغة إلى أخرى، بيد أن هذا النقل كثيراً ما يتجاوز الكلمات والعبارات والمعاني المعجمية لتناول المدلولات الثقافية لتلك العبارات وإيجاد مقابلات ثقافية مناسبة.
وكما رأينا اللغة تجسد ثقافة المجتمع وعلاقاته على مستوى الأسرة، فهي تعكس أيضاً ثقافة المجتمع على مستوى العلاقة بين الرجل والمرأة، فهناك لغات لا فرق فيها بين المؤنث من المذكر من حيث الأفعال والصفات، في حين نجد لغات أخرى تفصل تفصيلاً دقيقاً، بدرجات متفاوتة، لتعبر عن هذه الفروق.
وعلى صعيد آخر، ومع تطور تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها الواسع على المجتمعات، أخذ طابع العلاقة بين اللغة والثقافة يتخذ أشكالاً جديدة وأبعاداً شتى. فاللغة التي تنتشر سريعاً عبر هذه الوسائط، تعكس سمات مختلفة عن أنماط اللغات المعيارية والمألوفة، فأخذت تتداخل اللهجات العامية المحكية، مع اللغة المعيارية، ومع المصطلحات والتعابير التكنولوجية المستحدثة. ومع تطور نظم الذكاء الاصطناعي وتأثيرها الكبير على مختلف جوانب الحياة، وفي سياق النماذج اللغوية الضخمة التي تعتمد عليها تلك النظم، تنبثق أشكال جديدة من العلاقات والتأثيرات المتبادلة تخلط بين ما هو طبيعي وبشري وما هو مستحدث واصطناعي على نحو قد يتعذر التمييز فيما بين تلك المظاهر اللغوية والثقافية.
وتشابك هذه العلاقات وتعقدها ينعكس كذلك على المجالات الأكاديمية التي تدرس علوم اللسانيات واللغات والدراسات الثقافية، فلا نجد حقلاً أكاديمياً واحداً يشمل هذه العلاقة ويبرزها، وإنما تتجاذبها مجالات أكاديمية متعددة، تتراوح من دراسات اللسانيات الاجتماعية ودراسات الترجمة إلى الدراسات الاجتماعية الدراسات الجنسانية ومختلف فروع العلوم الإنسانية. ومن ثم نجدها كثيراً ما تتجسد فيما يسمى بالدراسات العابرة للتخصصات أو الدراسات المتعددة التخصصات، وهي مجالات ما تزال تتوسع وتتشعب وتتشابك فيما بينها، وقد تسفر عن مجالات بحثية أو أكاديمية جديدة غير معروفة في الوقت الحالي.

ذو صلة