مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

العقل.. والزخم المعرفي (2)

لم يخلق العقل الذي يحمله الإنسان عبثاً، بل للتفكير والتأمل والعمل والبناء والسعي، غير أن الوسائل الحديثة تسعى لتكبيله، والسعي لبعثرة الأمور أمامه لتغرس فيه الحيرة والقلق، وعدم التمكين لما يسعى إليه.
إن هذه المحركات ستفقدنا الحكم على العقول، فقد كنا نعرف أنها ثلاثة:
- العقول العظيمة، وهي التي تنشغل بالأفكار.
- والعقول العادية، وهي التي تنشغل بالأحداث.
- والعقول الصغيرة، وهي التي تنشغل بذاتها.
فالأفكار مع الثقافة الجديدة غير واضحة، بل هي مائعة، صحيح أنها براقة، ولكن كألعاب الأطفال، التي تتوهج فترة ثم تنطفئ.
أما الأحداث فهي متناثرة لا تقوى على مسك شيء منها، وأما الانشغال بالذات، فقد تحولت (هذه الذات) إلى انطوائية، هي أقرب للمرض منها للصحة، فالذات الأولى أكثر ما فيها الاعتداد بالنفس، بينما الثانية أكثر ما فيها المرض والآلام.
لقد أصبحت العقول الآن وبالتحديد في عصر التكنولوجيا، وتصفح الألواح الذكية متساوية، فلا تعرف منها العظيم من العادي من الصغير، وهذا أمر في غاية الخطورة، فهل هو سبيل لما يسمى بانقراض العقول المميزة، والذي يتبعه انقراض أصحابها )(1)
إننا بهذا الواقع نجعل العقل يعيش في زاوية ضيقة، فلا يفكر ولا يعمل، فأصبح شبه مشلول، إن لم يكن قد شل جله، لأن هناك من يوفر لنا المعلومة بضغطة زر، وبالتالي يتدخل الكسل الذي يعاني منه الإنسان إلى الكسل في العقل حيث يترك التفكير جانباً، ويستعيظ عنه باللوح الذكي الذي يأتيه بالمعلومة في أقل من ثوان ومن أي مكان كان وبأية لغة، فكان حال عقولنا والحالة هذه مثل حالة سليمان عليه السلام مع عرش بلقيس.
إن لكل ذلك درجات، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن مستخدمي الوسائل الحديثة بكثافة يعانون من تشتت البيانات التي يستهلكونها (2) نظراً لكثرتها وتدفقها بكثافة، فأصبحت عقولهم تعيش في حالة من التشويش المتواصل، وعندها تحولت الإيجابية إلى سلبية نظراً لهذا الإفراط. إن العقل في هذا العصر يعاني فعلاً من تعارض بين ما هو مخزَّن فيه ومما هو متدفق من الوسائل الحديثة(3)، وبالتالي، فهو يعاني من الازدواجية في التعامل، ثم الحيرة التي تأتي فيما بعد. يقول ديفيد سيبكوسكي: نحن نعيش في عصر يذكّرنا فيه العلماء ووسائل الإعلام والثقافة الشعبية مراراً وتكراراً بخطر الانقراض الجماعي الذي يلوح في الأفق وذلك بسبب ما يحصل للعقل من تشتت، ولهذا نجد أن أحد الباحثين قد أكّد أن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة يؤدي إلى تأثيرات على العقل، وهي تأثيرات تؤدي إلى ما يسمى بـ(التعفن الدماغي) حيث يعاني من التفكير المتشتت، ما يؤدي إلى صعوبة في التركيز بدرجة عميقة حيث يعتاد الدماغ على: (الانقطاعات والانتباه المجزأ (4)..).
إن التدفق المعرفي المستمر للمعلومات من وسائل التواصل الاجتماعي يزيد من الحمل المعرفي على الدماغ ما يصعب تخزين الذكريات واسترجاعها الأمر الذي يدفعنا للتعامل مع أدوات التخزين الأخرى مثل شبكة الإنترنت بدلاً من الاعتماد على الدماغ(5)، فتتشتت الأمور ويكون حالنا كحال خراش الذي عاد (بخفي حنين) بدلاً من مهمته الأساس:
تكاثرت الظباء على خراش
فما يدري خراش ما يصيد
فالعقل في هذا العصر تكاثرت عليه المعلومات والعلوم، فهو حائر ماذا وكيف يتعامل معها لدرجة أنه أصبح في وضع كالريح التي تمر الشيء، قال الشاعر(6):
فالريح آخذة مما تمر به
نتناً من النتن وطيباً من الطيب
إن هذه الحالة التي يمر بها «عقل المفكر»، هي الحالة ذاتها التي يمر بها من يحمله، فالتقدم الذي يعيشه في شتى الميادين في هذه الحياة قد أسفر عن انتكاسة خطيرة للذات الإنسانية التي أصبحت تعيش حالة اغتراب ويأس، وبالتالي لا يهمه إلّا نفسه، ولا يتطلع إلى حالة أسمى أو أرقى(7).
فإن معرفة المفكر لنفسه هي من أسمى المعارف، فهذه المعرفة تجعله يعرف حدوده ولا يتعداها.. قيل لقس بن ساعده: ما أفضل المعرفة؟ قال معرفة الرجل لنفسه، قيل له: ما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه.
أخيراً، لقد ورد من الأدعية المأثورة: ربي أسألك أن تصرف عني شتات العقل والتفكير.


(1) انظر: (التفكير الكارثي) في جل صفحاته . تأليف: ديفيد سيبكوسكي، عالم المعرفة، 504، 2023م.
(2) رأي بعنوان (هكذا تغيّر السوشيال ميديا عقولنا) منشور في daraj.media .
(3) من كلام جون لوي ميسيكا في لقاء معه في مجلة الفيصل، العددان 485- 486 جمادى الآخرة- رجب 1438هـ ، ص 162 وهو يتحدث عن شروط نقد الصورة، وهو الذي أكد نهاية التلفزيون التقليدي.
(4) من مقالة بعنوان: (5 تأثيرات لوسائل التواصل على الدماغ) لعدنان الغزال، صحيفة الوطن، 10 جمادى الآخرة 1446هـ - 11 ديسمبر 2024م.
(5) المقال نفسه.
(6) من مقال: لكل إنسان أثر. بقلم أحمد محسن البذالي، مجلة الكويت، العدد 486، رمضان 1446هـ/ مارس 2025م، ص 86.
(7) من مقالة: ( حتى لا يصبح الإنسان مجرد رقم) بقلم خلف أحمد أبو زيد، المجلة العربية، العدد 387، السنة 34 ربيع الآخر 1430هـ، ص 128.

ذو صلة