مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

سامر البرقاوي: الدراما عمر آخر بالعمر

عبيدو باشا: لبنان


يعرف سامر البرقاوي طريقه إلى الدراما بالغريزة والعلم والعقل والتجربة. حين يقف وراء الكاميرا، يعلو حدسه ليصل إلى حدس العميان. حدس بشفرات عديدة. إذ يعرف كيف يبدو منتجه عميقاً دون حاجة إلى ثرثرة، إذا لم يقرأ بسطوحه فقط. لأنه حين يعمل يحفر بئراً بسماءات عديدة.
هنا حوار معه، بعد أن صارت أجزاء الهيبة الخمسة سفناً تطوف بين الناس بعيداً عن الأفكار الراسبة.
ثمة شراكة بينك وبين تيم حسن، تعبر في شريط. شراكة لا تكذب على أحد، وهي لا تتوقف على الهيبة في أجزائها الخمسة. كيف نستطيع أن نراها في خطوط العلاقة في هذا الريبورتوار الغني بينكما؟
- لم تحدث العلاقة على التهور. ذلك أنني أعرف تيم منذ سنوات بعيدة، منذ أن رصدته يقف في مجموعة من أعمال المؤسسين، حين اشتغلت مساعداً في تلك المسلسلات. حين وجدته بحضوره. حضور واثق، لا علاقة له بالتمرينات العصبية ولا بالركض المتسرع في التضاريس. حضور تيم حضور نمل يدب في المسام. هكذا شاهدته، هكذا رأيته وهو يعمل مع مجموعة من المعلمين، معلمي الدراما، في (الانتظار) لليث حجو، وفي (ردم الأساطير) لهيثم حقي، وفي (صلاح الدين) لحاتم علي. ممثل يتسلق الأعصاب بروح تعبر السكك، بنوع من التناسل المروض المشقات. هذه صفات جمعتنا، هذه صفات لا تزال تجمعنا حتى اللحظة. لأننا اذا لم نجد حيلنا في الواقع، نجدها في الخيال. لم أحسب، إذ ذاك، أننا سنلتقي في مجموعة من الأعمال الأشبه بالأسنان.
لا تزال تتكلم عن معلمين، ولا تزال وفياً لما حدث لك معهم في تجاربهم وفي شقوق تلك التجارب.
- بالضرورة. لأن الشغل مع مثل هذه الأسماء، ليس شغل لحظة، ليس شغل لحظات ولا شغل تجريب حظ. الشغل مع هؤلاء المعلمين بعيد عن مفهوم المباغتة وظلال الجثث أو رقص التانغو. إذ إن هؤلاء علموا بي كما لا تستطيع أن تتصور الأمور. أنا مدين لهؤلاء بالرعاية والنماء والتلويح بالأفكار، كما لو أنها أيد تلوح من الغيم. إنهم أصحاب بطاريات رموها في داخلي بسخاء. لا أستطيع أن أقف على بعد من جملهم بعد أن مررت فيها. أروي دوماً أنني وجدت أن الصورة لن تكتمل إلا إذا دفنت الحاجة إلى تعلم الميزانسين. وقد وجدت أن تلبية الحاجة هي بالعمل مع يسري نصرالله، لأنه مساعد يوسف شاهين المعلم هكذا، حين صدقت الحاجة دفنت الشك، بطلب العمل مع يسري نصرالله في (باب الشمس) (عن رواية إلياس خوري). وإذ فعلت، أحسست أن العمل معه، ما طلبته، دخول في طريق، جراحة في العمق. هذا جزء من شريط أقدامي إلى تجارب الآخرين.
لم أعد نفسي منذ اشتغلت مع هيثم حقي، والليث حجو، وحاتم علي، ويسري نصرالله. لكل ميزاته. وهي ميزات زادت من كثافة العلاقة بالدراما التلفزيونية من جهتي. الجلوس في أعمال هؤلاء جلوس في درامات رجال لا يميلون كما تميل الأشباح في طيرانها في شرايين العائلات. حدث ذلك منذ أزمنة بعيدة. وأحسب أنني لم أصب بتخثر الدم التلفزيوني لما أنزلت علاقتي بهم في قصصي ودراماتي. ما أزال مديناً لهؤلاء. هذا كلام بساطة لا كلام تبسيط. كنت حالماً معهم وما أزال حالماً مع نفسي.
يحسب لتيم أنه حافظ على انخطافه الدائم في لعب شخصية واحدة على مدى خمسة مواسم. هذا يحتاج إلى صبر، وقوة، المكوث في نُزل العاطفة، الرهان، الإيمان، والشحن. ما فعله تيم استثنائي فعلاً.
- لم يقلم تيم جسارته في الأجزاء الأخيرة من (الهيبة). لم يترك ثقته بأجنحة الأجزاء، جزءاً وراء جزء. ولا أخفيك، أنه يضجر من عاداته (كما أضجر). ثم إن التتالي منهك للروح، منهك للعضلات. بيد أن (الهيبة) بقيت صالحة، بعيداً عن الأقفاص وبعيداً عن السيركات. هكذا، لم نقع في التأتأة، مع فريق كامل من التقنيين والممثلين والإداريين، من تحولوا من كثر الحركة إلى بريد يوزع البريد، لا باقتفاء الآثار بل بالعبور فوق الغرائز إلى كنس الظلال القديمة ورسم الظلال الجديدة بأيد لا تنقص. إنه فريق فتاك في البحث عن اللغة غير المخذولة، لغة تغرد بلا ضجيج وبدقة واثقة.
ثمة كثافة في الهيبة/ جبل، ميلان إلى التفاصيل، عنف لا يشبه عنف المهرج (جوكر)، كبريت في البيوت، على الطرقات، في الساحات، رهان الفرد، رهان العائلة، العلاقات. عواصف بأعمدة (داعش وأخواتها)، حيث يفنى الكثيرون إذ يتقابلون على العقل والشمس والقمر. ثمة إحالات إلى الواقع: الوضع المصرفي، الانحناء أمام فائض البياض بالصورة.
- هذا من يقين الواقع. الأسود في قميص أبيض والأبيض في قميص أسود. كل شيء متكدر حتى الرتوش الخفيفة للأحداث. لا يستطيع أحد بعد أن يقفز فوق الصور القاتمة على قتامتها. هل نتكلم عن البهجة، حين لا يحصد الإنسان سوى الخيبة. الحكاية سهل مترام الأطراف يذكر بشيء طويل. الحرارة بالحزن ولا فرح إلا أمام المرآة. لا يمكن أن تنسى الطقس بعملك، كيف تنسى الكائنات.
نحن لا نمتلك رأساً مليئاً بالنسيان. أبداً. نحن نرشح بفطرة الأشياء. هكذا، كما نحلق الذقن كل يوم، ندخل في الأيام كأطفال يتعلمون المشي في هذا القرن لا في القرن الماضي، في هذه السنة لا في السنة الماضية ولو أن السنوات لا تخطئ بعضها. قد لا نفعل سوى أن نمد أيدينا لنجر هذا البطء أسرع وأسرع، نجره من قرنيه كأنما لنفهم حركته بطرق أفضل، لنفهم البشر الجدد، أو لنبني عمراً ثانوياً أمام عمر يعبر بعجلاته أمام عيوننا. أصعب الصور صورة قريب أو زميل أو رفيق أو قريب مخذول. ثم إن الدراما الواحدة ليست كتلة إسمنتية ضخمة تحيط بالجميع. الدراما مدينة تستقبل المشاة وراكبي الآليات من يرغبون في مشاركتك اللعبة. الدراما محطة وصول، الدراما محطة سِفر. محطة وصولهم ومحطة سفرهم. ذلك أنها تجري على الأرض لا على قطع من الورق المقوى. ثم إن الدراما أن تصنع الدراما وأن تملك القدرة على أن تتحرر منها. لن ينتظر المخرج أن يقضي أوقاته وهو ينتظر بثقة حدوث أمر لا تقرره سوى الصدفة. الجواب عن سؤالك، حين أصل إلى موقع التصوير لا أصل كمتحرش يدور في حلقته المرعبة. أصل وفي جعبتي كل إطلالة، الإطلالات الملتهبة والإطلالات العابرة. أصل وفي رأسي مونتاج أولي للقطة، للمشهد، ليوم التصوير، منفتحاً على همم الارتجال. لا أحب التحلق حول النفس.
الدراما ليست قافلة من المعدات والتجهيزات. الماء لا يصنع المطر فقط. وإذا أردت أن تماثل طريقاً حقيقياً، كمثال، تزرعه بالحفر والنتوءات، ليذكرك بأنه ما أن أنجز حتى امتلأ بها. الدراما ليست في التشابه وحده، الدراما بالقدرة على التذكر. أن تدرك أن البداية في النهاية. ما أن تدرك النهاية حتى تستدير لتبدأ من جديد. شاحنة ضخمة تسعى لتجاوز شاحنة ضخمة أخرى.
وعلى ماذا يقوم الهيبة/ الفيلم؟
- سوف يحتوي على عناصر من الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية والنفسية والعاطفية بطريقة أخرى. مرآة عاكسة على جري الأمور، نتيجة عوامل مختلفة يشارك في صنعها الإنسان والعلم والفن. رصد ظواهر والانتقال بها من جانب إلى جانب.
من التلفزيون إلى السينما؟
- بعكس ما يحدث بالعادة. السينمائيون يذهبون إلى إنجاز درامات تلفزيونية. أذهب إلى السينما كما يفعل عاقل لا يريد أن يعيش في الماضي وحده. لا أنسى كي أتذكر ولا أتذكر كي أنسى.
ثم؟
- دراما تضع أصابعها في التاريخ.

ذو صلة