مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

شريف مليكة: أخشى أن يرحل عني شيطان الكتابة

القاهرة: داليا عاصم


يسير الروائي المصري المقيم بأمريكا د.شريف مليكة بخطى حثيثة في مشروعه الروائي المكرس نحو مشاكل الأقليات والتاريخ المسكوت عنه في عالمنا العربي، ممثلاً تياراً جديداً من أدباء المهجر، ومحققاً معادلة صعبة كونه أحد أهم الأطباء المتخصصين في علاج الآلام في العالم يمارس عمله اليومي بجامعة جون هوبكنز الأمريكية التي هاجر إليها عام 1984، بينما يخوض مغامرات سردية مع أبطاله وشخوصه المتمردة على حواجز الاغتراب النفسية في فضاء الأوراق البيضاء. يمزج بأنامل الطبيب الماهر الفانتازيا بالواقع تارة، وتارة يسائل التاريخ عبر آليات التخييل المتنوعة. قدم رصيداً من المجموعات القصصية والشعر والروايات في فترة وجيزة، إذ أصدر هذا العام رواية (البحث عن كانديد)، مستدعياً شخصية كانديد لفولتير، وباحثاً عن معنى التدين الحقيقي. دشن مؤخراً روايته السابعة (دعوة فرح)، مستدعياً شخصية فرح أنطون. تحدث لـ(المجلة العربية) عن ولعه بالكتابة وهواجسه ومشروعه الأدبي، فإلى الحوار:
من الطب إلى الأدب؛ ما الذي حرك لديك الشغف بالكتابة؟
- حقيقي أن العقل العلمي في العادة لا يفرز إنتاجاً أدبياً، ولكن سبقني أفذاذ في ذلك المضمار. قدمت محاضرة عن الأطباء الذين خاضوا غمار الأدب عبر التاريخ في محاضرة بمكتبة الكونجرس الأمريكي https://www.loc.gov/item/webcast-4752 عام 2009، وخلالها ذكرت إمحوتب أول طبيب مصري قديم كتب أشعاراً. وبالطبع هناك أعلام من الأطباء الأدباء في مصر وحول العالم، مثل: يوسف إدريس وإبراهيم ناجي، وسير آرثر كونان دويل الإنجليزي صاحب شخصية شارلوك هولمز الشهيرة. لذلك لا أعتبر نفسي مبادراً في هذا المجال على أي حال.
تخصصك الطبي في علاج الآلام؛ هل ساهم في إثراء عالمك الإبداعي والتعرف على خبايا النفس البشرية؟ وهل أمدك عالمك الطبي بشخصيات ومخزون حكائي؟
- في الحقيقة كنت محظوظاً في التخصص في علاج الألم، لأن ذلك أتاح لي أن أقترب أكثر من دهاليز المشاعر، والدنو بل والتلامس أحياناً مع النفس البشرية في حالات ضعفها وسقوط كل الأقنعة التي نتحايل في مواجهة الدنيا من ورائها. ربما لهذا السبب يكمن السر في بدء مشروعي الأدبي متأخراً نسبياً، فلم أبدأ الكتابة إلا في ربيع عام 2000 أي بعد تخطي عامي الأربعين بقليل. ولَم أفكر أبداً قبل هذا التاريخ في الخوض في ذلك المجال، ربما لانشغالي في بناء مستقبلي العلمي والاهتمام بالمتطلبات الأسرية. ولكن ما إن كبر الأبناء واستقر نسبياً مشوار العمل والعلم، حتى باغتتني رغبة ملحة في الكتابة.
أما عن سؤالك عما إذا أمدني عالم الطب بمخزون حكائي؛ أقول نعم بالطبع، ولكن كل تجاربي، منذ نشأتي الأولى بين القاهرة والإسكندرية، ثم دراستي الطبية بالقاهرة، ثم مشوار الهجرة إلى أمريكا، ثم الاندماج مع المجتمع الجديد الغريب أولاً، ثم التأقلم إلى حد تغيير الثوابت الأولى وحتى اكتساب قيم جديدة أكثر حداثة ومواءمة للوضع الإنساني الجديد، وبخاصة بعد زواجي من أمريكية. لذلك فحينما ألح عليّ أحد الأصدقاء أن أكتب سيرتي الذاتية أجبته: (وعن سيرة من حسبتني كتبت كل قصصي ورواياتي؟)
هل ثيمة الحياة والموت شكلت لك هاجساً أدبياً؟
- أعتقد بأن ثيمة الانحياز تجاه الأقليات والانتصار لهم هي شغلي الشاغل وربما الدافع من وراء الكتابة أصلاً. ومع ذلك فلم أختر لنفسي هذا الطريق أو ذاك، ولكن أجدني مدفوعاً دفعاً وراء فكرة معينة ألاحقها وهي تحاول استدراجي إلى مكان معين تقصد أن تصلني إليه، ثم تذهب. كتبت عن أنماط من المهاجرين في أول أعمالي النثرية، وهم أقليات مثلي في المجتمع الجديد، ثم خضت في عوالمهم أكثر في رواية (زهور بلاستيك)، إذ تخيلت جزيرة يُجتذب إليها الشرق أوسطيون ليضعوهم أو إياي تحت المجهر فحصاً وتمحيصاً من الجهات المخابراتية لإدراك أسباب تحولهم للعنف وكراهيتهم للغرب الذي يهاجرون إليه.
وبعد ذلك عدت، وجذبني خاطري إلى الوطن الأم لأكتب عن يهودي سكندري يحيا في خضم التحولات السوسيوبوليتية في منتصف القرن العشرين وحتى مصرع السادات في رواية (خاتم سليمان). وتتوالى الكتابات عن الأقليات، فكتبت عن الاعتداء الجنسي على طفلة في (رقصة قوس قزح)، ثم عن انتصار امرأة وسط عالم من الرجال الذين أفسدوا واقعها في (مريم والرجال). وكتبت عن شعور الشباب القبطي بالاضطهاد حتى يتحول ذلك إلى مرض نفسي في رواية (والملائكة أيضاً تصعد إلى الطابق الثالث). وفي أحدث روايتين لي كتبت عن إمكانية التعايش بين البشر بغض النظر عن أصولهم ودياناتهم، في: (البحث عن كانديد) و(دعوة فرح).
ما السر وراء غزارة الإنتاج الملحوظ؟ وكيف توازن بين الطب والأدب؟
- ربما لسبب ثراء تجربتي الشخصية التي حظيت بها، وتنوعها عبر المكان والزمان، أجدني مدفوعاً للكتابة عن شتى الاختبارات والمواقف التي عاينتها أحياناً، أو تلك التي أشعلت في نفسي فتيلاً أنار ظلاماً ما، فسعدت بأن أكتب عنه لأتفهمه. وربما يفسر ذلك غزارة الإنتاج النسبي. فنمط حياتي مزدحم للغاية، لسبب الهجرة ولسبب العمل في المجال الطبي المشحون بالتعامل مع بشر جدد في صباح كل يوم. بل حتى الجو هناك متقلب لا يبقى على حال، وكأنه يكتب قصة أو رواية أو ملحمة، أو كأنه يرسم لك اللوحة الخلفية على خشبة مسرحك، تملؤها أنت بما بدا لك من شخوص. كما أن هنالك هاجساً يعتريني أحياناً بأن شيطان الكتابة الذي زارني يوماً على نحو مفاجئ ذات ربيع، قد يرحل عني كذلك. لذلك فيتعين علي أن أبادر وأكتب كل ما أريد أن أقوله قبل أن تنطفئ شعلة الإلهام والوحي!
الشعر والقصة والراوية.. هل تختار اللون الأدبي الذي تود إنجازه، أم أن الكتابة على تنوعها تمثل نوعاً من الخلاص، أم ماذا؟
- أعتبر نفسي هاوياً في ذلك المضمار، إذ أعجز تماماً عن الكتابة عن موضوع بعينه أو حتى اختيار نوع الكتابة من شعر أو قصة أو رواية، حتى أني أحياناً أبدأ في كتابة قصة فأجدني أكتب رواية كما حدث في (زهور بلاستيك)، أو حين أكتب قصيدة أجدني أكتب قصة قصيرة مثل عايش وحدوتة الناس الغلابة - مثلاً.
(في رواية الملائكة تصعد للطابق الثالث) تنبأت بفشل ثورة يناير، وخضت تجربة روائية معاصرة للثورة في الوقت الذي فضل عدد كبير من الأدباء الانتظار وعدم الكتابة خوفاً من تحول النص إلى نص توثيقي؛ ما تعليقك؟
- حقيقة تحمست للغاية مع بوادر ثورة يناير، وكتبت عدة مقالات عنها، أشيد بها وأمني نفسي بالتغيير الآتي. ولكن مع الأسف تحولت الدفة وانحرف المركب نحو مياه ضحلة فغاص في الوحل وكف عن الإبحار، وبدأ في الغرق. وبالفعل كتبت عن ذلك، في رواية الملائكة، بعد استشعار أول إرهاصات الفشل، وقبل حتى أن تكتمل معالم الصورة الكئيبة. وبالفعل شهدنا جميعاً الصرح الجميل الذي شيده شباب مصر وهو ينهار أمامنا مع الأسف.
في رواية (البحث عن كانديد) قدمت بناء سردياً متمرداً على الأشكال التقليدية في الكتابة؛ هل قصدت هذا البناء؟ وكيف أثار كانديد بطل فولتير هذا المستوى من التخييل؟
- أنا بالفعل إنسان متمرد على النمط السائد في كل مناحي الحياة، وأعشق التجديد والخوض في مياه جديدة، أتخيل أنني أول من اقتحمها. أما عن أسلوبي في كتابة عمل ما فأترك ذلك للنقاد المحترفين الذين هم أعلم مني وأجدر في ذلك المعترك.
هل تكتب الرواية وفق تخطيط مسبق؟
- حينما أشرع بالكتابة تكون الشخصيات الرئيسة حاضرة أمامي، وأثناء الكتابة تطرأ على ذهني شخصيات أخرى قد تأخذ حيزاً أكبر وتكون وليدة تطور الأحداث. لا أفكر بمخطط مسبق، لكنني أعيش حياتين متوازيتين أثناء الكتابة، هذا لا يحدث لدي بانتظام أو بتركيز، فلست متفرغاً للكتابة، ولكنني أقبض على اللحظات التي يمكنني الكتابة فيها بشكل متقطع.
لماذا مساءلة التاريخ في: (خاتم سليمان) و(البحث عن كانديد) ثم مؤخراً في (دعوة فرح)؟
- سؤالك في منتهى الأهمية، ففي التاريخ عِبر نستطيع أن ننهل منها، ونتعلم كما هو مفروض من التاريخ، فنتجنب الوقوع في نفس الأخطاء، إن أمكن. وهذا النمط من الكتابة ليس جديداً على أي حال، فمثلاً غابريال غارثيا ماركيز كتب به رائعته (مئة عام من العزلة)، كما اتخذه نجيب محفوظ حين كتب كفاح طيبة ورادوبيس وعبث الأقدار، من حكاياته المأخوذة عن التاريخ المصري القديم. كما أن التاريخ والكتابة عنه قد تنجح في أن تجنبنا الاشتباك مع مجريات الواقع، كنوع من الهروب من المواجهة المباشرة مع الحاضر.
في دعوة فرح اخترت اليوميات كشكل من أشكال الحوار مع الذات ومع الآخر، ورصدت الصراع بين الفكر التنويري لفرح أنطون والفكر الرجعي للشيخ رشيد رضا؛ برأيك لماذا تراجعنا فكرياً إلى هذا الحد؟
- أردت عبر هذا الشكل الروائي أن أثير التساؤلات حول واقعنا، وأحث كل المهتمين على التطور، فلو لم نتطور سنسقط من ذاكرة العالم والمجتمعات. الآن أصبحنا تابعين، لم تعد لمصر الريادة كما كانت. لا نجد قيمة لإعلاء العلم والفكر النقدي، ونفتقد لقيمة العمل الجاد. ما نحن فيه هو انتصار الشيخ رشيد رضا بأفكاره الرجعية على أفكار فرح أنطون التقدمية، وفي هذا سنجد تفسيراً لما يحدث لنا الآن.
ثمة مشروع أدبي نلتمس أثره أيضاً في فتح النقاش حول مسألة التعصب الديني؛ هل هذا يمثل لك مشروعاً أدبياً، بالرغم من مخاطر الخوض في تابوه الدين؟
- بالفعل تعمدت الخوض في غماره، إذ شهدت تراجعاً ملحوظاً في تناوله، وبخاصة حين بدأت الكتابة. ولكن اليوم سقطت كل التابوهات وامتلأت الساحة الأدبية بالكتابة عن الدين والجنس بل والمثلية الجنسية بأدق التفاصيل، حتى باتت كتاباتي وكأنها في عداد السياق العام الآن.
بعد كل هذه السنوات في أمريكا إلا أنك لم تكتب بالإنجليزية، ونجد لغة متقنة وسلسلة؛ كيف استطعت أن تحافظ على تمكنك من اللغة العربية وجمالياتها؟ هل هناك مواظبة على قراءات بعينها؟
- أنا تلميذ لمحفوظ والحكيم وإدريس.. وغيرهم من الكتاب المصريين الذين قرأت معظم أعمالهم، لأكثر من مرة، في كثير من الأحيان. ولكن قبلهم أودّ أن أذكر الأستاذ عبدالمحسن أستاذ اللغة العربية في مدرسة الفرير بالظاهر رحمه الله، فهو الذي زرع محبة اللغة العربية في عقولنا وقلوبنا ونحن بعدُ طين لين فأثمرت بذوره بعد سنوات.
لذلك فرغم أني لم أسعَ نحو الكتابة أصلاً، إلا أن القراءة بنهم كانت غايتي منذ نعومة أظافري. وكانت المدرسة تشجعنا على استعارة كتاب أو أكثر يوم الخميس من كل أسبوع لقراءته ثم إرجاعه قبل نهاية الأسبوع. فنمّى هذا شغفي للقراءة، كما شجع تنوع قراءاتي حتى صرت أقرأ رواية لمحفوظ إلى جانب قصة للمغامرين الخمسة بالعربية ومجلة تان تان أو لاكي لوك بالفرنسية. كما تعلمت الإنجليزية منذ الصف الثالث، فتسنى لي قراءة الرواية الإنجليزية بلغتها الأصلية، وكذلك الرواية الإسبانية أو الروسية المترجمة للإنجليزية.
برأيك، لماذا لا تهتم الشعوب الأجنبية بقراءة الأدب العربي كما كان في الماضي؟ هل السبب مرتبط بالقوة السياسية للدول أو الأمر يحتاج لتمويل من وزارات الثقافة العربية لترجمة أدبنا وثقافتنا المعاصرة؟
- في رأيي أن التحول عن قراءة الغرب لأعمالنا المكتوبة بالعربية هو علامة خطيرة وفاضحة لخياراتنا في مجال الترجمة إلى اللغات الغربية. فلقد تداخلت الشللية والاعتبارات السياسية لتحل محل اختيار الأجود لنيل الجوائز الأدبية، ومن ثم ترجمة الأعمال الفائزة. ففي الماضي كانت تُترجم الأعمال الأكثر جودة والأعلى إشادة من النقاد الذين وهبوا حياتهم بل مشوارهم العلمي في البحث عن مثل تلك الأعمال والتنقيب عن أصحابها. ولكن، بعد أن فسدت الساحة وصار المقال النقدي (مسعراً) أو على الأقل تشوبه المجاملات، غاب اختيار الأجود مع الأسف الشديد، وبالتالي فقدت جوائزنا وخياراتنا الأدبية مصداقيتها لدى الغرب، فأهملها أو تناساها، وبقي نجيب محفوظ وحده متربعاً على عرش الكتابة العربية المترجمة المعروضة فوق أرفف المكتبات الكبرى بمفرده. وما يزال بعد رحيله يجتذب قراءً غربيين إلى أعماله.

ذو صلة