مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

شايع الوقيان: نعيش حالة من التغير الفكري الجذري

حاوره: نايف إبراهيم كريري: جازان


يعد الباحث والناقد شايع بن هذال الوقيان، واحداً من أكثر المشتغلين بالفلسفة في السعودية، كتب فيها كثيراً من خلال عدد من الكتب والأبحاث والدراسات والمقالات، وهو أحد مؤسسي حلقة الرياض الفلسفية بنادي الرياض الأدبي قبل أعوام، وقدم خلال هذه الحلقة العديد من الموضوعات والبرامج والفعاليات التي أشاعت الحديث عن الفلسفة في مجتمع كان يرى أنها محرّمة، ولا يجوز الحديث فيها أو الانشغال بها، هذا الإسهام كان له صدى واسع، واستطاع أن يؤثر في الكثيرين من خلال نقل التجربة والاهتمام بها في مؤسسات ثقافية وأدبية أخرى.
وفي حوارنا هذا نناقش مع الوقيان العديد من القضايا الفلسفية والفكرية والاجتماعية المتعلقة بواقع المجتمع السعودي كونه أحد الباحثين المهتمين بهذا المجال، حيث يرى بأن أي توظيف أيديولوجي للفلسفة يمكن أن يحيد بالفلسفة عن مسارها إلى مسارات أخرى فيما الفلسفة هي منهج للتأويل والدراسة والنقد، إضافة إلى واقع التغيرات والتحولات التي يشهدها المجتمع السعودي اليوم، فهو يؤكد على أن التغيرات سيدركها الجيل اللاحق أكثر من الجيل الذي يعيشها اليوم.
تطرق الوقيان إلى دور المؤسسات الفكرية والثقافية في بلادنا في إحداث تغيير واضح، وإحداث مشاريع ترتبط بها كما نراها عند بعض الأفراد، والتأكيد على شيوع الخطاب النهضوي في الخطابات الثقافية المتعددة، في سبيل الخروج من أزمة الهوية التي يعانيها المجتمع السعودي خاصة، والمجتمع العربي بشكل عام. فإلى تفاصيل الحوار:
بين التيار والمنهج
- الفلسفة كتيار ناشئ في السعودية كيف يمكن أن يكون في المستقبل، وكيف يمكن أن يتلافى ما وقعت فيه التيارات الأخرى من أخطاء أو هفوات على الساحة؟
الفلسفة بطبيعتها ليست (تياراً) إذا فهمنا التيار هنا بالمعنى السياسي أو الأيديولوجي. بل هي منهج في البحث النظري وهذا المنهج يمتاز بأنه لا يخضع لقواعد مسبقة بل مبتكرة. فالفيلسوف حينما يقترح منهجاً فإنه يفتح باباً جديداً للنظر العقلي في الظواهر. وحينما يتابعه تلامذته فإنهم لكي يكونوا فلاسفة لا يكتفون بأخذ المنهج كما هو بحذافيره. من هنا نرى أن هوسرل طرح منهج الظواهريات (الفينومينولوجيا) ولكن تلامذته مثل إنغاردن وهايدجر وسارتر وميرلوبونتي لم يكتفوا بما سنه أستاذهم، بل طوروا وعدلوا في هذا المنهاج الفلسفي. ولو أخذوا المنهج واكتفوا بتطبيقه لما كانوا فلاسفة بل علماء أو باحثين. نخلص من هذا أن الفلسفة بطبعها فردية وحرة. وانخراطها في تيار أيديولوجي أو براغماتي ستكون نهايتها كما حدث للماركسية التي تحولت على يد لينين ومن معه من فلسفة حرة إلى تيار أيديولوجي مغلق.
لكن إن كان مفهوم (التيار) يعني التوجه الفكري العام واتفاق الفلاسفة على مناقشة موضوعات معينة بطرق نظرية محددة فالتيار هنا ضروري وهو بمثابة الأساس لقيام (تقاليد فلسفية). والتقاليد تعني إرثاً فلسفياً يمثل أفقاً لإنشاء النص الفلسفي. وهي ليست تقاليد بالمعنى الأنثروبولوجي والتي من ماهيتها الإجبار والتكليف.
لكي تحقق الفلسفة في السعودية تقدماً فلا بد أولاً من الاعتراف بها من قبل (الأكاديميات السعودية) فمن المخجل حقاً أن نكون البلد الوحيد الذي لا يدخل الفلسفة ضمن مناهجه التعليمية. ثانياً، لا بد من الوقوف ضد أي توظيف أيديولوجي للفكر الفلسفي. صحيح أن هناك من يتلقف الأفكار الفلسفية ويستثمرها في السياسة وميدان النشاط والتواصل الاجتماعي لكن هذا العمل لا بد أن يكون مستحضراً فكرة أن الفلسفة ليست أيديولوجيا بل منهجاً للتأويل والفحص والدراسة والنقد. فانخراط الفلسفة في العمل الاجتماعي ينبغي أن يكون نقدياً لا (رسالياً).
إذن، من خلال إطلاع الطالب السعودي والقارئ السعودي على الفكر الفلسفي ومناهجه ومن خلال تجنب السجال الأيديولوجي يمكن للفلسفة في بلدنا أن تحقق نجاحاً باهراً.
التغير الجذري
- يعيش المجتمع وبخاصة في العقد الأخير عدداً من التغيرات على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فما أثر هذا الحراك المجتمعي في تشكيل الفكر السعودي، وما النتائج المؤملة من هذا الحراك للوصول إلى تشكل فكري ناضج؟
أعتقد أننا نعيش في بلادنا حالة من التغير الفكري الجذري، وهذه الحالة سيدركها الجيل اللاحق أكثر من الجيل الذي يعيشها اليوم. وما يميز هذا التغير أنه شامل، طال الأخضر واليابس كما يقال. ومشكلة هذا الحراك النشط أنه مازال في طور النمو كما أنه لم يتجذر بشكل صحيح في بنية المجتمع. فالمجتمع لا يزال مرتاباً من التغير وهذه عادة طبيعية في كل مجتمع تقليدي. ولا يلام الناسُ في ذلك. التغيير بشكل عام يبدأ من (فئات) محددة، قادة سياسيين أو مثقفين أو نحوهم.. ويمتد بعد ذلك لكي يتم استيعابه من قبل المجتمع أو شرائح فاعلة منه. أخيراً يحدث التغيير الاجتماعي على يد المجتمع نفسه. وهذا هو التغيير الصحيح والإيجابي. في واقعنا المحلي لا نزال في المرحلة الأولى وهي أن التغيير لم ينزل إلى الأرض، إلى الأساس ولا يزال يعوم في أذهان فئة المثقفين أو الإنتلجلسيا التي اتخذت من (الواقع الافتراضي) ميداناً لها. ربما أنه من حسن الحظ أن الواقع الافتراضي لدينا صار أكثر حضوراً في النشاط التفاعلي الاجتماعي . لكن مع ذلك، من الضروري أن يتغلغل الوعي التغييري في وجدان الناس وعقولهم. سيكون الحراك ذا نتائج مثمرة متى ما التقى مع المصالح الحقيقية للناس ولكن بشرط أن لا يكون مسار التغيير مرتهناً للوعي الجماهيري، فهناك فرق بين (المصالح الحيوية) للناس وبين (الوعي اللاشعوري) لهم، فالأخير وعي مزيف تم تشكيلُه بعيداً عن الواقع المعيش للناس، فهو وعي يكتفي بإبعاد الناس عن مصالحهم من خلال التشويش على العقل والمزايدة على القيم الأخلاقية.
الدين والفلسفة
- إلى أي مدى يمكن أن يتقاطع الخطاب الديني مع الخطاب الثقافي؟ وحتى مع الفلسفي الظاهر حديثاً في الفكر السعودي، وما السبب في كون الخطاب الديني دائماً في أحد أطراف المعادلة في الحوارات الفكرية؟
الخطاب الديني عموماً يدخل ضمن أطر الثقافة العلمية. ولكن في حالتنا فهو خطاب (غير مثقف)، بمعنى أنني لا يمكن أن أعتبر الأشخاص القائمين على إنتاج هذا الخطاب مثقفين لأنهم ببساطة مقلدون لا مبدعون. فالإبداع ضروري في العلم. إذا ما أخذنا نموذج ابن رشد بوصفه فيلسوفاً مثقفاً وعالم دين في آن لعرفنا أن الخطاب الديني يمكن أن يسهم بقوة في إثراء الثقافة والمعرفة الاجتماعية، فابن رشد -وقل مثل ذلك على الفارابي وابن سينا والجاحظ- استثمروا التبصرات الدينية اللاهوتية في تنشيط الفكر العقلاني وتشريعه.
البهرجة الإعلامية
- ما مرد غياب المشاريع المؤسساتية الثقافية والفكرية الكبرى التي يمكن أن نجدها عند بعض الأفراد فقط؟
المؤسسات القائمة على الفكر والثقافة لا تؤدي دورها الفعلي والإيجابي ما لم تكن مستقلة عن توجهات النخب السياسية.. وبعبارة أخرى لا بد أن تكون ديمقراطية حتى تكون مؤثرة. مؤسسات الثقافة العربية لا تختلف عن بقية الدوائر والمصالح الحكومية الأخرى وهي لا تُعنى بالثقافة الحقة والإبداع الأصيل بل بالبهرجة الإعلامية. من هنا نفهم لماذا ترتبط المشاريع الفكرية -عربياً- بأفراد لا مؤسسات.
نهضة موازية
- هل غاب الخطاب النهضوي عن قاموس كثير من الخطابات المختلفة والمتعددة في الفكر العربي؟
عربياً، خطاب النهضة نشأ قبل أكثر من قرن. تطور ونضج ثم مات بسبب الانتكاسات السياسية والهزائم العسكرية وسيطرة الأيديولوجيات المهزومة والمحبطة. عصر النهضة العربية ابتدأ باللحظة التي التقى فيها الشرق بالغرب. صحيح أنه كانت هناك لقاءات بين الشرق والغرب إبان الوجود الإسلامي في الأندلس وإبان الحروب الصليبية لكنه كان لقاءً بين ندّين تقريباً. أما في العصور الحديثة فالشرق هذه المرة يلتقي غرباً جديداً عليه وأقوى منه، غرب الثورة الصناعية والتقدم العلمي والتطور الجيوسياسي والعسكري. ويمكن التأريخ له بغزو نابليون مصر في آخر القرن الثامن عشر. وكان هناك مفكرون وأدباء واكبوا هذا اللقاء الحضاري وعبروا عنه أبلغ تعبير، ونذكر منهم: رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، وفرح أنطون، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وينتهي هذا العصر -برأيي- مع النصف الأول من القرن العشرين عندما قام الضباط في مصر بقيادة جمال عبدالناصر بالانقلاب على العصر النيابي الليبرالي عام 1952م.
أمّا في السعودية لم يكن هناك نشاط مواز للفكر النهضوي العربي باستثناء النهضة الأدبية التي ظهرت في الحجاز مع الجهود التنويرية التي دشنها محمد حسن عواد وطاهر زمخشري، وغيرهما لنقل المجتمع من حالة الانغلاق والتقليد إلى حالة التحديث والانفتاح على الآخر. من جهة أخرى حدث نشاط هائل في العقود الأخيرة في الفكر السعودي.
 والفكر السعودي المعاصر لا علاقة له بخطاب النهضة العربي الذي أسسه الكواكبي وعبده والأفغاني وشبلي شميل وفرح أنطون. إلا ما كان بشكل غير مباشر. والأثر الكبير على هذا الفكر كان من التيارات المتولدة من فكر النهضة كالحداثة والتنوير والنقد. ويمثلهم أدباء مصر والشام ومفكرو المغرب كالجابري وأركون والعروي. وهؤلاء الثلاثة تحديداً لهم حضور بارز في الفكر السعودي أكثر من حضور مفكري مصر والشام والعراق. كان للمغاربة دور في توجيه المشهد الثقافي السعودي نحو الفكر والفلسفة بعد أن كان منشغلاً بالأدب. وصار ابن رشد وابن سينا وديكارت وباشلار وهايدجر وتوماس كوهن حاضرين بقوة لدى الكتاب السعوديين ليس الليبراليين فقط بل وحتى الإسلاميين المنفتحين على الفكر العقلاني. القارئ السعودي يعرف اليوم عن الجابري وأركون وجعيط وأبو زيد وحنفي وطه عبدالرحمن أضعاف ما يعرفه عن الفكر النهضوي الذي نشأ في مطالع القرن الماضي رغم أن النهضويين أثروا بشكل عميق على المفكرين المعاصرين المذكورين آنفاً.
فردانية الهوية
- هل يعيش المجتمع أزمة الهوية؟
نعم. وهي بالفعل أزمة لأن مفهوم الهوية عندنا مازال جمعياً لا فردياً. فالفرد يهمه التيار أو القبيلة التي ينتمي إليها ولا يلقي بالاً لأي شيء آخر سواه. وأصبح هناك شغف لدى الناس للمفاخرة بالقبائل والعشائر والمذاهب التي ينتمون إليها.. بل إن هناك أفراداً كانوا متحضرين كأفضل ما يكون التحضر انزلقوا مع التيار الشعبي الذي يمجد القبيلة أو المذهب وينكر دور الفرد المبدع المتحرر من أي التزامات ما عدا الالتزامات الأخلاقية.
الحقيقة أن الهوية يجب أن تكون فردانية، بمعنى أن يخلق كل فرد هويتَه خلقاً. وهذه هو المعنى الصحيح للهوية. أما الهوية الوطنية والقومية والدينية فهي تكون عائقاً أمام نمو الشخصية متى ما تم فرضها وإلزام الأفراد بها. الهوية تنقسم إلى مكونين أساسيين: المكون الواقعي: وهو كوني عربياً، مسلماً، أنتمي لتلك القبلية أو المنطقة.. إلخ، والمكوّن الممكن: وهو ما أصنع أنا بنفسي لنفسي. ولكي يكون للهوية دور فاعل في حياة المرء فينبغي التركيز حينها على الجوانب الممكنة أو الإبداعية.

ذو صلة