مجلة شهرية - العدد (574)  | يوليو 2024 م- محرم 1446 هـ

المرة الأولى

كم هي البدايات جميلة وواعدة..
خطر ببالي هذا وأنا أتأمل فروعاً جديدةً نمت في تلك الشجرة التي أمامي، بعدما تم قطع الأغصان القديمة منها والمتكسرة بسبب مرور الزمن الطويل عليها، وعبث الريح بها خصوصاً في مواسم الأمطار.
نعم تستوقفني البدايات في كل شيء، تبدو غالباً جميلة وحالمة ومترعة بالأمل ومفعمة بالقوة، لكن مع الوقت تمر بلحظات اختبار قد تكون مفصلية وحاسمة أحياناً. لا يصمد منها إلا ما كان حقيقياً في أصله وصفته، لا مجال معه ولو لذرة وهم أو خيال أو زيف. ثم إن هناك أمراً آخر في موضوع البدايات، وهي المرة الأولى من كل شيء. فمن تجرأ عليها تجرأ على ما بعدها.
من تجرأ على خذلانك مرة سيفعلها مئة مرة بلا خجل أو ندم، وكذلك من تجرأ على جرحك، أو إهانتك، أو خيانتك، أو التخلي عنك، أو الإساءة لك، أو إيذائك بأي شكل من الأشكال.
من استطاع فعل ذلك بك لمرة أولى فإنه سيكررها مرات أخرى، فقد كسر حاجز المنع لديه، سواءً كان هذا الحاجز أخلاقياً أو دينياً أو إنسانياً أو قانونياً.
لقد تخطاه مرة، ولن يعود يهاب التكرار بعد ذلك غالباً، وسيصبح شيئاً هيناً لديه وربما معتاداً مع الوقت.
المرة الأولى في الحقيقة قد تكون هي النهاية والأخيرة لكثير من الأشياء والأشخاص والأحلام دون أن ننتبه لذلك، أو ربما نكون قد انتبهنا، لكن زيف الأمل هو ما يجعل بعضاً منا يتجاهل مرارة تلك الحقيقة وبشاعتها، معللاً نفسه بأمل صلاح الأمور مستقبلاً وتحسنها، ومتجاهلاً قسوة (أن المرة الأولى قد تكون الأخيرة في الحقيقة)، فالمرة الأولى ليست إلا مقدمة لمرات أخرى وصولاً للمرة الأخيرة.
بعض الناس ذكي جداً وقوي للغاية لينهي الأمور عند المرة الأولى، إدراكاً منه بأنها لن تكون الأخيرة، بل بدايةً لسلسلة من الأخطاء المكررة، وبعض البشر هش يتهرب من تلك الحقيقة المرة، حتى يصل إليها ذات يوم وباقتناع تام، وقتها ستكون الخسائر فادحة، والأثمان باهضة، والجراح غائرة، والخذلان أكبر من أن ينساه أو يتجاوزه لبقية حياته.
لكن كم منا يملك شجاعة التوقف عند الخطأ الأول، والمرة الأولى من كل شعور مؤلم؟ أو مع أي شخص سيئ لا يستحق منا أن نمنحه فرصة ثانية ليكرر أخطاء المرة الأولى أياً كانت صفته في حياتنا.
هل أنت تملك تلك الشجاعة أم لا هذا هو السؤال عزيزي القارئ؟
وفي المقابل أيضاً هناك المرة الأولى لأشياء رائعة قد تشكل فارقاً في حياتك وإلى الأبد.
المرة الأولى التي تسير فيها نحو حلم أو هدف وتتحدى الظروف والدنيا بأسرها لبلوغه، تلك المرة حتى لو تبعها عوائق فإنها لن تكون الأخيرة وستمضي نحو حلمك وهدفك بكل قوة حتى تبلغه، فقد كسرت حاجز المرة الأولى وحطمت أغلال الرهبة الأولى، وبت محصناً بالتجربة والتكرار من التخاذل عن بلوغ ما تطمح له وتسعى إليه.
أيضاً من اعتاد الفقد لن تؤلمه الخسائر المتكررة كالمرة الأولى عدا فقد الموت لمن يحب، فقد تجاوز الصدمة الأولى رغم ألمها، وبات ما بعدها تكراراً بائساً لها فقط.
إنها البدايات ليس إلا، والمعنى الحقيقي يكون لما بعدها إما جميلاً كان أو قبيحاً، حلواً أو مراً.

ذو صلة