مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الإنسان أولاً

الفنون غذاء الفطرة السوية، رسالة بناءة تعمر ولا تهدم، فإذا كانت الأمة حاضرة تباهت بفنونها الفردية والجمعية، وإن كانت غابرة تسابقت الأمم اللاحقة في إحياء تراثها، فلا تخلو أمة من فنون وآداب، وكأن الفنون عالم مواز يلجأ إليه الإنسان هرباً من شظف الواقع وقسوته.
وقد تفننت الأمم في التعبير عن حاستها الجمالية، وتطورت خطاباتها تبعاً لذلك من التعبير اللفظي، إلى الفنون السمعية والبصرية، وصناعة المتاحف لاستذكار الماضي، والاهتمام بصناعة الأزياء وفنون الطبخ، ووسائل الزخرفة والعمران.
والميزة الكبرى أن الفنون مصل قوي ضد العنصرية، فهي خطاب التصالح والتسامح، ففي الرقصات الشعبية - مثلاً - يشارك الشعب كبيره وصغيره وغنيه وفقيره دون شعور بالتمايز لحظة التعبير عن الذات، وهي من أصدق اللحظات.
ولعل أمر الفنون أبعد في التأثير في الإنسان من كل الخطابات، فهي خطاب إنساني بعيد التأثير، فعندما حيد القرآنُ الشعر، وجد العربُ حرجاً في الاستماع إلى الشعر مع حاجتهم الفطرية إلى سماعه، حينها سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم (حديثاً دون القرآن وفوق الحديث)، فأنزل الله تعالى (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن..)، وهو (سورة يوسف) كاملةً دون أحكام أو توجيهات، بل قصة إنسانية ترمز إلى أهمية الاعتصام بالله، لكن وفق خطاب قصصي فيه تشويق وبناء بياني يشبع النفس بعظيم القصص.
وفي ثقافتنا العربية تنوعت أشكال الفنون من قولية وسمعية وبصرية، إضافةً إلى فنون العمارة والزخرفة وغيرها، وتؤسس كلها لحياة موازية لا يجدها الإنسان في الواقع، وكأنها تعبير عن حياة أخرى مؤجلة.
والفنون سيرورة دائمة ضد العنف، فنظرية التطهير عند أرسطو قائمة على تفريغ الشحنات السلبية عند جمهور المسرح، فالفنون تطهير في سياق فلسفة أرسطو بإثارة عاطفتي الشفقة والخوف، وإزاء مصاعب الحياة تأتي الفنون لتصنع المختلف وتعمر النفس من خلال التعبير عن مثلها العليا، أو قلقها تجاه اعتباطية الواقع وجبروته، فالفنون تحضر للبحث عما ينبغي أن يكون، والحروب والمجاعات نتاج واقع مرتبك -وهي كائنة في حياتنا بحكم الضرورة- والخلاص منها غاية مثالية عليا، وكلما نوعت الأمة في فنونها ارتقت في سلم الحضارة.
والفنون تؤسس واقعاً موازياً لا تؤمن فيه بسلطة الواقع، بل تناقض هيبته وسلطته، والذات المعبرة عن ذاتها بالفنون تمنح الذات المستقبلة فرصة عيش هذا التوازي بغية التغلب على جفاف الواقع.
وقد وجد الإنسان تناغماً بين الطبيعة والفنون، بل إن الطبيعة منشأ الفنون، فمنها أخذ الإنسان أدواته، وتعلم العزف محاكياً جمالها، ومنها استمد طاقته في مواجهة واقعه القاسي، فالعربي واجه صعوبة السير في الصحراء بالحداء، ومن الحداء طور أوزانه الشعرية، ومن الطبيعة استمد مواد عمارته وألوان أزيائه، واستوعب تغيرات جغرافيا الأمكنة، فطوع فنونه لتلائم طبيعة المكان، فكانت الربابةُ في الصحراء، والمزمارُ في أعالي الجبال يصدح به الرعيانُ، وفنون (النهمة) في البحار، وهي أحد الفنون الشعبية البحرية القديمة التي كانت مقتصرةً على البحر في سواحل الخليج العربي، ثم تحولت النهمة إلى غناء وألحان ذات قيمة فنية عالية.
ومع التطور التكنولوجي حضرت الفنون لتقاوم طغيان الآلة فأبقت تعلق الإنسان بصفاء الحياة، فهي الأمل الأخير في إنقاذ الإنسان من أزمة الواقع وتقلباته، ودائما تسعى الفنون إلى تقديم القبحيات لا لذاتها، بل للتنفير منها، وهي فكرة تتسق مع نظرية أرسطو في التطهير حيث نرفض الحوادث المربكة، لكن بعد الوقوف على آثارها المحتملة في حياتنا.
وانحياز الإنسان لقيم الجمال فطري بالأساس، ويمكن تغذيته بوسائل مختلفة، وأعتقد أن تربية الطفل -من خلال مناهج التعليم- مطلب تربوي جد عظيم، فالتعليم المنهجي للفنون كالموسيقى والرسم وفنون القول الأدبي يختلف عن الاكتساب الاعتباطي الذي يحرم الطفل من معرفة أصول الفنون، وأي تعليم بعيد عن التدرج المنهجي في تلقي الفنون أو فهم طبيعتها يعيق فطرته الجمالية فتصيبه تشوهات الواقع، والذي يلجأ إلى العنف يعزى فعله إلى فطرة سليمة عانت من تشوهات يصعب إصلاحها.
إلى جانب القيمة الإنسانية والحضارية للفنون، فإن لها قيمة اقتصادية عظيمة وبخاصة عند الأمم التي تستثمر فيها على نحو إيجابي، وتنتقل من مجرد هوايات عند الأفراد إلى استثمار سواءً كانت طبيعة الفن فردية أو جماعية، فالسينما مثلاً تعد في بعض المجتمعات رافداً من روافد الاقتصاد الوطني.
غير أن خطورة طغيان البعد المادي في الفنون قد يخرجها من بعدها الفني إلى مطاوعة متطلبات السوق، فيفرغها من محتواها الخلاق، فتصبح مجرد إبهار زائف فاقد للقيمة الفنية والموضوعية، والأمثلة كثيرة وبخاصة في السينما الأمريكية التي طوعها السوق لصناعة (سينما إبهار) دون مراعاة القيمة الفنية، ورغم ما سبق، تظل السينما الأمريكية رائدة في مجال صناعة الصورة السينمائية.
تسليع الفنون والنزول بها إلى السوق سلاح ذو حدين، إنه أمر مهم لتطوير الفنون، لكنه خطر عندما تتحكم المادة في الفن.

ذو صلة