مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

التثاقف فنياً

مهما تكن الحضارات والثقافات متمايزة فيما بينها، فإن البحوث التاريخية والأنثروبولوجية تكشف عن تنافذ بينها جميعاً، وإن بتفاوت لا محالة. لكن إذا ما كان يتم عادة حصر الخطابات التي تتناول الثقافة في إطار هذه البحوث، فإننا نحتاج أيضاً، فضلاً عنها، إلى تناولها ضمن دائرة النشاط الفني. فالتنافذ بين الثقافات يمر عبر قنوات الفن.
على أن الاختلاف بين الأجناس الفنية يطبع مجريات التثاقف نظراً إلى اختلاف المؤثرات على نحو ما نعاين ذلك ضمن نمط اشتغال الصورة ونمط اشتغال الموسيقى. ولا بد من أن نلاحظ هاهنا أن الطريف، في مثل هذه المقاربة، هو أن مطلب الكونية يُعهد به إلى نشاط هو في صميمه ذاتي فردي، أي الفن.

الفنون ونسغ الثقافات
فإذا كنا نسعى إلى أن نتبين كيف يتولى الفن تضييق هوة الاختلافات بين الثقافات، فإنه يتعين علينا أن نستأنس بالإبداعات الجمالية للإنسان بما هي إبداعات تأسيسية للثقافات وليس مجرد حِلية لها، أي بما هي النسغ الطري الذي تتغذى منه الثقافة. ولنا أن نستحضر، هاهنا، ما يقوله الألماني أوسفالد سبنغلر (تنشأ ثقافة ما لحظة ما تستيقظ روح نبيلة فتنفصل بواسطة الفن عن الحالة النفسية البدائية للطفولة الإنسانية). ولئن كان صحيحاً أن الفن يتغذى من خصوصية الثقافة التي يتكون ضمن رحمها، فإن الثقافات التي تفرقنا بتعددها لا تحول، مع ذلك، دون وحدتنا الإنسانية التي تختص بها ثقافة (كونية) تتوزع عبر مختلف الثقافات، تماماً كما توحدنا اللغة وتفرقنا الألسن. فالتواصل الفني بين الثقافات هو الذي يضمن تحقيق (الاستغيار) emphaty، والانفتاح على الآخر.
يقوم الفن، إذن، مقام البديل للحياة دون أن يكون خارجها. فهو بديل متضمن فيها على نحو يضمن توازنها. وهذا ما يضفي عليه طابع الضرورة. ونظراً إلى كون التوازن المطلوب بين الإنسان والعالم الذي يحيط به يظل هشاً باستمرار لاعتبارات عديدة يمكن تلخيصها في الصراع السياسي والتحارب الاقتصادي، فإن الفن كان دائماً الرئة التي تتنفس بها الثقافات في ما بينها قديماً وحاضراً ومستقبلاً. وأكثر من ذلك، فإن الفن ليس مجرد بديل للحياة على الصعيد الشخصي، وإنما هو بديل متعدد الوظائف. فتكفي مراجعة تاريخية مختصرة لمسار الفن حتى ننتبه إلى ما نشأ من مهام جديدة موكولة إلى الفن. ولنا في هذا السياق أن نستأنس بما ينوه به الألماني، آرنست فيشر، في كتابه (ضرورة الفن)، من أننا ميالون إلى اعتبار ظاهرة مذهلة في تاريخ البشرية على أنها بديهية، في حين أنها في واقع الأمر كما يصرح متسائلاً (هي، في الحقيقة، مذهلة: فثمة ملايين من الناس، لا تُحصى، تقرأ كتباً، وتسمع موسيقى، وترتاد المسرح والسينما، لماذا؟ إن القول بأنهم جميعاً يبحثون عن التسلية، أو الراحة أو اللهو، هو موضوع بحاجة إلى إثبات. ولماذا يكون تعرفهم ضرباً من تسلية وراحة ولهو، عندما يُغرق الواحد منهم نفسه في حياة غيره، وفي مسائله ويجد نفسه في لوحة فنية، وفي قطعة موسيقية، أو في شخصيات رواية أو مسرحية أو فيلم سينمائي؟ ولماذا ننفعل بمثل هذا (اللاواقع) كما لو كان واقعاً فعلياً مشدداً؟) ولنا طبعاً أن نجيب بأننا نسعى إلى التملص من صيغة وجود لم تعدْ تُرضينا عسى أن نظفر بصيغة أكثر غنى وعمقاً، ومع ذلك، فإن مثل هذه الإجابة لا تحول دون التساؤل: (لماذا لا يكفينا وجودنا الخاص؟ وما مصدر هذه الرغبة في تحقيق حياتنا، التي لم تتحقق، من خلال شخصيات أخرى، وأشكال أخرى، ومن خلال التطلع من القاعة المعتمة إلى المسرح المُضاء، حيث يدور شيء ما، هو ليس سوى مجرد تمثيل، وهو قادر على أن يستحوذ على كياننا بأسره؟)
هذا التطلع إلى المشهد أو إلى الصورة يرمي من ورائه الإنسان إلى أن يتجاوز جزئيته ليكون إنسانا كلياً. أي إلى أن يلتقي بالإنسان الآخر الذي ينتسب إلى ثقافات أخرى. يمكن للقائل أن يقول بأن الترجمة من شأنها أن تحقق هذا التواصل بين الثقافات فتجسر المسافات بينها، وهو قول وجيه لا محالة، لكنه عند حدود اللغة كوسيط أداتي. أما الفن بما هو توليفة مشهدية بين الصورة واللحن، أو حتى بما هو إنجاز تصويري على حدة كما في الفنون التشكيلية أو إنجاز نغمي على حدة كما في الموسيقى فإنه يتوجه ذاكرة إنسانية سحيقة قبل أن تتمفصل المفردات في اللغات والألسن، ذاكرة الصورة والصوت.

المشهد والموسيقى من الوسائط الفعالة
لقد سبق أن حلم الفيلسوف الألماني ليبنتيز بلغة إنسانية كونية تمثلها الرياضيات، لكن يبدو أن الفن هو من قام بالتسلل إلى حلم ليبنيتز. فبوصفه لغة كونية إنسانية، نابضة بالحياة، يسيح الفن عبر ملامح الصورة ونغم الصوت في تفاصيل الحياة.
لكن أن نخص الصورة والصوت بقوة التأثير وسرعة الانتقال بين المجتمعات، ومن ثَم تمتين الأواصر بين الثقافات، فإن الأمر لا يتعلق بالمفاضلة بين الفنون وإنما بخصوصيات يتميز بها كل جنس فني. لكن علينا، مع ذلك، أن نتساءل: لماذا نعاين أن أكثر صيغ الانفتاح بين الثقافات يجري أساساً ضمن الصيغتيْن البصرية والسمعية؟ دون التوسع في المقارنة بين الفنون، يمكن القول إن الأمر معقود على رواسب أنثروبولوجية طبعت الوجود الإنساني. فأُولى أشكال التواصل التي اعتمدها الإنسان في تاريخه السحيق تعتمد أساساً الصورة والصوت كما يذهب إلى ذلك الهولندي، يوهان هويزنغا، في كتابه (الإنسان اللاعب). وحتى الفنون، ذات الطابع الأدبي، نظير الرواية والشعر، فإنها لا تنفك تشتغل بالصورة والصوت من خلال تمثلهما لغوياً حيث يدور النص المنظوم أو المنثور على تمثل الإيقاع وصياغة الصورة الفنية.
يبدو عندئذ أن (العقل الثقافي الإنساني) قد تفطن، وعياً ولا وعياً، إلى هذه الميزة فاستثمرها. وهو ما يسوغ ما نعاينه اليوم من تلاقح ثقافي مطرد بفضل هذين النمطين من التعبير الفني، وبفضل تطور الوسائط التكنولوجية لا محالة.

التثاقف الفني واليقظة النقدية
يذهب الكاتب المتعدد، الفرنسي غي ديبور إلى أن (الفرجة تقدم نفسها مثل المجتمع ذاته، أي أداة توحيد). لكن نظراً لكونها تركز على جزء من المجتمع، فتكون استبعاداً للقطاع الذي يتمركز فيه كل نظر وكل وعي، وينجم عن ذلك أنها تكون (موضعاً للبصر المخادع وللوعي الزائف والوحدة التي تحققها ليست إلا لغة رسمية لهذا الاستبعاد المعمم). وهذا صنيع المؤسسة الاقتصادية الإشهارية التي ترمي إلى إبعاد الناس عن حياتهم الواقعية عبر تكريس آليات الترغيب في التشبه بنجوم السينما والمشاهير الذين يتصدرون شاشات الفرجة. ولئن كان سياق حديثنا غير سياق مثل هذا النقد المنطوي على وجاهة في المجتمعات الاستهلاكية، فإن ما يعنينا منه هو مقتضى الوعي أيضاً بأن الفن يمكن أن يُستغل لتمرير رسائل تفرقة وتمييز بين الثقافات. وحسب أنه لا بد، في هذا المقام، من شحن (العولمة الثقافية) القائمة اليوم بـ(كونية ثقافية)، فالأولى اقتصادية وسياسية، يصف سمير أمين بأنها عولمة مبتورة (..)، فإن ثقافة العولمة هي بدورها مبتورة الطابع، قائمة على تناقض داخلي، الأمر الذي يرتب القلق والاضطراب المعنييْن بها. لكن نظراً إلى أنه لا يكون ممكناً، تاريخياً، التراجع عن مسار العولمة، فإن المطلوب هو تطويرها إنسانياً. وهذا من مشمولات الفن في دلالته الخلاقة وليس التجارية الخالصة. ولعل هذا ما دفع سمير أمين إلى القول: (إن إقامة عولمة بديلة تفترض أيضاً في المجال الثقافي إنتاج ثقافة عالمية بديلة). وهذا ما يضطلع به النقد الفني شريطة أن يكون مسنوداً برؤية فكرية عميقة.

ذو صلة